الأحد ١٧ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢١
بقلم علي القاسمي

الوطن أو حسناء وأُختاها هيفاء ونجلاء

طرقت الكاتبةُ بابَ مكتبي وقالت:

ـ الأستاذ مزيد العلوان.

وانصرفتْ.

ودخل رجلٌ في مطلع الثلاثينيات من عمره، متوسطُ الطول، متوسط ُالوزن، ووجهُه الوسيم محمرٌّ، كما لو أن أحدهم قد وجه إليه صفعة، أو سيوجهها بعد قليل.

والسيد مزيد العلوان واحد من عدد من الأدباء والفنانين العراقيين الذين طلبوا مقابلتي في مكتبي بمدينة الرباط، عندما كنت أعمل مديراً في منظَّمةٍ دولية. وكان في وسع الكاتبة أن تعتذر نيابة عني بانشغالاتي أو أسفاري أو بما شابه ذلك، ولكني كنتُ أدرك أن رفضي مقابلتهم قد يحوِّل الصفعةَ إلى طعنةٍ نافذة، قد لا تتحمَّلها قلوبُ بعضهم المرهفة.

في سنوات الحكم الشمولي في العراق، خلال السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، ازدادت الهجرة من العراق، لا هرباً من الحروب العبثية فحسب، بل كذلك بحثاً عن مكانٍ فسيحٍ وهواءٍ نقي. وكان في مقدِّمة المهاجرين، الشعراءُ والرسّامون والفنانون وغيرهم من المُبدعين. فالمبدع لا يُنتج ما لم يعِش في فضاءِ حرٍّ، فالحرِّية منبع الإبداع. وكان معظمهم يختار المغرب، لأنَّ المغرب بلدٌ مضياف، ولأنه في بداية تلك الفترة لم يكُن يطلب من القادمين العرب تأشيرةَ دخولٍ مسبقة. (وما تزال الهجرة من العراق مستمرة، لمن استطاع إليها سبيلا، في زمن المحاصصة الطائفية وحكم الأحزاب الدينية التي جهَّلت الشعب ونهبت موارده).

لم أسمع باسم السيد مزيد العلوان من قبل، على خلاف معظم العراقيين الذين قابلتُهم قبله، فقد كانوا يحملون شهادات عليا، ويجيدون لغات عالمية، ولهم خبرة معمقة في مجال تخصصهم. كنتُ أحرص على استقبالهم، وأبالغ في التعبير عن احترامي لهم، لعلمي برهافة إحساسهم، ومدى عزّة النفس لدى العراقي، حتى إن جاء يبحث عن عملٍ مَهما كان، لسدِّ رمقه. ثمَّ أشرح لهم بلطف أنَّ المنظَّمة الدولية التي أعمل فيها لا تستخدم الموظَّفين إلا عندما يوجد شاغر، وتبلّغ جميع الدول الأعضاء بذلك، فترشح الدول منها مَن تراه "مناسباً"، وتختار المنظَّمةُ الأنسب، آخذةً في النظر نسبة الموظفين من كلِّ دولة عضو فيها. (ومن حسن حظي، أو من حُسن مجاملتهم لي، لم يسألني أيٌّ منهم كيف اشتغلتُ أنا مديراً في المنظَّمة، وأيّة حكومة عراقية رشحتني لهذه الوظيفة؟!!)

وبطريقة الإقناع ذاتها، أشرح لهم ـ لأوفِّر عليهم الجهد ـ أنَّ الإدارات المغربية لا تشغّل إلا المغاربة، وأنَّ الفرص لغير المغربي في القطاع الخاص نادرة إنْ لم تكُن معدومة.

وأُبيّن لهم أنَّ أملهم الوحيد هو الاتصال بمكتب المفوضية السامية لشؤون اللاجئين بالرباط، أو مراجعة سفارات دول الشمال مثل كندا والدول الإسكندنافية التي ترغب في زيادة اليد العاملة فيها باستقدام العنصر الشرق أوسطي، الذي لا يؤدي إلى مشاكل التمييز العنصري في المستقبل. وقد نجح عدد منهم في الهجرة إلى بعض تلك الدول، (ليموت فيها مرات عديدة يومياً، بسبب عدم وجود الشمس التي اعتاد عليها في العراق، وما يسبِّبه ذلك من اكتئابٍ، زيادة على الغربة. والغربة تقتل مثل رصاصةٍ).

مزيد العلوان مختلف عنهم، فهو لا يحمل شهادات عليا، ولا يُجيد لغاتٍ أجنبية، وليست له إنجازات معروفة. ولكنَّه فنّان موهوب مطبوع: رسّام وخطّاط. وعرض عليّ نماذج من خطّه ورسومه. وكانت البرامج الحاسوبية في تلك الفترة لم تتطوُّر بعد لتغطي الرسم وجميع أنواع الخطِّ العربي. ولهذا نصحتُه بمراجعة إدارات تحرير الصحف المغربية الموجودة في الرباط والدار البيضاء، فقد يحتاج بعضها إلى خطّاط، لخطّْ العناوين الكبرى في كلِّ صفحة من صفحات الجريدة يومياً. وأضفتُ قائلاً:

ـ "وسأوصي المسؤول بالاتصال بك للمساعدة، عندما تنشر منظمتنا كتاباً."

يبدو أن مزيد العلوان نجح في الحصول على عمل في جريدتَيْن بالرباط، وتحسّنت أحواله المادية، فانتقل من الفندق البسيط الذي كان ينزل فيه، الى شقّةٍ قديمةٍ صغيرة في وسط المدينة. وعندما جاء إلى كاتبتي راجيا مقابلتي ليشكرني، قالت له الكاتبة:

ـ "مع الأسف، المدير مشغول جدّاً اليوم. ولكنَّني سأبلِّغه أخبارك السارة وشكرك. وعندنا رقم هاتفك ".

تُعامَلُ المنظماتُ الدولية بوصفها مؤسَّسات دبلوماسية، وأسماءُ مديريها مُدرَجَة، في كتيب الهيئات الدبلوماسية في المغرب الذي تصدره وزارة الخارجية والتعاون الدولي بالرباط، لتستعين به تلك الهيئات للتواصل فيما بينها. وتقيم السفارات حفلاً واحداً على الأقلّ في العامّ بمناسبة العيد الوطني لبلادها. ويحرص على حضور تلك الحفلات المولعون بتناول الخمور في المساء. أمّا أنا، فقلَّما كنتُ أحضر تلك الحفلات، لأنني كنتُ انتظر المساءَ لممارسة إدمانٍ من نوع آخر، ومعانقة أصدقائي الذين أفارقهم طوال النهار، أعني الكتب. فقد كنتُ كما قال المفكر الفلسطيني الدكتور داهش (سليم موسى العشي):

"أحبُّ الكتبَ حبَّ السكارى للخمر، لكنَّني كلّما ازددتُ شرباً منها، زادتني صحواً."

بعد بضعة شهور، التقيتُ، ذات مساء، بالسيد مزيد العلوان في حفل إحدى السفارات بمناسة عيدها الوطني. وتحرص السفارات على توجيه أكبر عدد من الدعوات إلى إدارة كلِّ صحيفة، لأنّ نشر إحدى الصحف خبر ذلك الحفل الباذخ ومن حضره من المسؤولين وغيرهم، أهمُّ بكثير من اضطلاع دبلوماسيٍّ مدمن، بشربِ لتراتٍ من الخمور الغالية الثمن. وكنتُ ذلك الأسبوع أقيم مأدبة عشاء في منزلي لعدد من الضيوف المشارقة المشاركين في ندوةٍ من ندوات المنظَّمة. فرأيتُ أن أدعو السيد مزيد العلوان كذلك. وعندما دعوته، قال بلطف:

ـ "هل أستطيع أن أصحب خطيبتي معي؟"

ـ "مبروك، لديك خطيبة الآن؟ بعض المدعوين معهم أزواجهم، في وسعكَ اصطحاب خطيبتك."

في مأدبة العشاء، حضر السيد مزيد العلوان مع فتاة في أوائل العشرينيات من عمرها، مليحة الوجه باسمة، طويلة القوام رشيقة (وعادة ما تحتفظ كلُّ فتاة بثلاثة أنواع من الأحذية لديها: من الحذاء المسطح الى الكعب العالي، لتتحكَّم بطولها الظاهر بحسب مقاس رفيقها)، وقدّمها إليّ قائلاً:

ـ "دكتور سليم الهاشمي، أقدّم لك خطيبتي الآنسة حسناء."

بعد شهور طويلة، أتيحت لي الفرصة لأسأل المكلَّف بطباعةِ كُتبِ المنظمة ما إذا كان السيد مزيد العلوان يستفيد من خطِّ عناوين الكتب او عناوين الفصول فيها، أجاب:

ـ "لم يعُد الأمر كذلك، فجميع المطابع اقتنت برامج الخطِّ العربي الحاسوبية، ولا حاجة للخطّاطين بعد اليوم."
ذات يوم التقيتُ السيد مزيد العلوان في الطريق مصادفةً، فسلَّم عليَّ بحرارة، وقال لي:

ـ " أودُّ أن أستشيرك في موضوع شخصي إذا كان لديك خمس دقائق. إن خطيبتي تقول إنها حامل. وأن الوقت فات لإسقاط الحمل. ".

قلتُ:

ـ "إذن ينبغي أن تتوكل على الله وتتزوجها."

قال بشيء من الاستغراب:

ـ "ولكنها فقيرة ؟!"

قلتُ:

ـ ﴿وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم؛ إنْ يكونوا فقراء، يُغنِهم اللهُ من فضله﴾.
قال:

ـ " ولكن أحد الأصدقاء قال لي إنَّ زوجته محامية، وتستطيع ان تثبت أمام المحكمة بأنه لا علاقة لي بالجنين."
قاطعتُه قائلاً:

ـ "هذا كذب وحرام، وأنتَ تعلم ذلك."

وأضفتُ مُنهيّاً النقاش:

ـ "أنت طلبتَ مشورتي، وأخبرتُك برأيي. مع السلامة."

لم أَرَ مزيد العلوان بعد ذلك، ولم أسمع منه أو عنه شيئاً. ولكن ذات صباحِ عطلةٍ أسبوعية، طُرِقَ بابُ منزلي، وعندما فتحتُ الباب، الفيتُ فتاةً جميلةً صغيرة لا تتعدى العشرين عاماً، سلّمت عليّ وقالت:

ـ "أنا هيفاء، أخت حسناء الصغرى. أختي تسلّم عليك وتخبرك بأنَّ ابنتها الوليدة مريضة ويجب أن تأخذها إلى الطبيب، ولكن لا مال عندها؟"

ـ "أختكِ ولدت؟ الحمد لله! وأين مزيد العلوان؟!"

ـ " لا نعرف. ربّما غادر المغرب."

تركتُها واقفةً في باب المنزل، ودخلتُ وأخرجتُ معي مبلغاً من المال يكفي لما طلبت، وودَّعتُها.

بعد حوالي شهرين، طًرِقَ باب منزلي. وعندما فتحتُه، وجدتُ فتاة جميلة صغيرة. سلّمت عليّ وقالت:

ـ "أنا نجلاء أخت حسناء. أختي تسلّم عليك، وتخبرك بأنَّ ابنتها مريضة وتريد أن تأخذها إلى الطبيب ويعوزها المال. "

سألتُها:

ـ "كم أختاً، أنتُنَّ؟"

ـ "ثلاث أخوات، وأُمّنا، ولنا أخٌ واحد يعمل في منجم فحم، وما يرسله إلينا بالكاد يكفي لدفع كراء الشقَّة وما يسدّ الرمق."

ـ "ولماذا لا تعمل حسناء؟!"

ـ "حاولتِ الحصول على عمل قارّ ولم تفلح. وبين وقت وآخر تجد مَن يطلبها للقيام بتنظيف شقته أو منزله."
ـ "وماذا تفعل طوال النهار؟"

ـ "تقضي الوقت مع أمِّها وابنتها، وتمضي وقتاً طويلاً في بكاء حظِّها العاثر".

تركتُها واقفةً عند الباب، ورجعتُ إلى غرفتي لأجلب لها بعض المال. وبلا إرادة مني، داهمتني بعض مقاطع من قصيدة الشاعر المغربي بن ماجن يونس التي يصف فيها منجمَ فحم في بلدة اسمها "جرادة ":

" ... في جرادة
الامواتُ يدفنون الاًحياء
ويصلّون عليهم صلاة الغائب

في جرادة
هناك اجسادٌ ميتة
قبلَ قبض أرواحها
العائدون من الانفاق
داخل آبار الفحم
يخرجون منها احياء-اموات
اجسادهم متفحِّمة
بلا كفن
يهبطون الى مقابرهم الرهيبة
حيث شبح الموت
يحدِّق في وجوههم البائسة ..."

في تلك الأيام، تلقيتُ دعوةً من السفير الباكستاني بالرباط لتناول طعام العشاء معه في آخر الأسبوع. والمطبخ المشترك للهند وباكستان وبنغلاديش وكشمير يزخر بأطباق لذيذة، لا سيَّما في ذائقة الذين اعتادوا على البهارات أو أولئك الذين يقدِّرون فوائدها ومزاياها. والبهارات مواد تُضاف إلى الطعام لإعطائه نكهة وطعماً متميزاً؛ وتُستخلَص هذه المواد من بذور الأشجار، وجذورها، ولحائها، وأوراقها، وثمارها. ولعلَّ سوق (أكبري مندي) في مدينة لاهور الباكستانية من أشهر أسواق البهارات في العالم، ففيه يُباع أكثر من ألف نوعٍ من البهارات.

عندما دخلتُ إقامة السفير الباكستاني، رحَّب بي سعادته. وألفيتُ عددَ المدعوين محدوداً لا يتجاوز سبعة أشخاص، كنتُ أعرفهم جميعاً ما عدا واحداً، فمعظمهم من كبار الموظفين الباكستانيين الذين يعملون معي في المنظَّمة. قدّمني السفير للضيف الوحيد الذي لم أكن أعرفه، ووصفه بأنَّه رجل أعمال باكستاني اسمه أحمد، قائلاً:

ـ "إنَّ مقرَّه دولة الإمارات العربية المتحدة، وإنه أخذ يفتح فروعاً لمحلّاته المتخصِّصة في التصوير الفوتوغرافي، في المغرب: في الرباط وفاس وطنجة ومراكش."

ولسببٍ أو لآخر، أو بلا أيّ سبب على الإطلاق، وجدتني أجلس إلى جانبِ رجل الأعمال السيد أحمد. فسألته عن الفروع التي يفتحها في المغرب، وطبيعة عملها، فقال:

ـ "عندما تنتهي من التقاط جميع صور الفيلم في مصوِّرتك (كاميرتك)، تُخرِج الفيلم من الكاميرة، وتعطيه إلى مصوِّرٍ محترف. فيقوم بتحميض الصور ثم تظهيرها على ورقٍ خاصّ، بجميع ألوانها. وهذه العملية تستغرق بضع ساعات. ولكنَّ شركةً يابانية ابتكرت جهازاً يقوم بتحميض الفيلم وتظهير جميع الصور بألوانها المختلفة، خلال بضع دقائق فقط. فلا يحتاج الزبون إلى الانصراف من محلِّ التصوير والعودة في اليوم الثاني أو الثالث لاستلام الصور. بل ينتظر لدقائق معدودة للحصول على صورهِ ومغادرة المحل. وعندما استوردتُ ذلك الجهاز من اليابان، لاستخدامه في أحد محلاتنا في الإمارات العربية، حقَّق نجاحاً هائلاً وأرباحا طائلة. فسافرتُ إلى اليابان، وسألتُ أحد مديري الشركة عن البلدان التي لم تستورد ذلك الجهاز بعد، فأعطوني قائمة بتلك البلدان ومن بينها المغرب، فقمتُ بشراء عدد من تلك الأجهزة وجلبتها إلى المغرب." ( وخلع على محلاته في المغرب اسم " فوتو ماجيك" : التصوير السحري. وقد قلَّل التصوير الرقمي الذي تطوَّر في الألفية الثالثة ويتم بالهاتف النقال، من أهمية تلك الأجهزة ).

أثنيتُ على ذكائه ونجاحه المستحق.

شكرني وأضاف قائلاً:

ـ "ومع ذلك، فأنا أواجه مشكلة في الفرع الذي بدأتُ به في الرباط. فأمين الصندوق الذي يسلّم الصور إلى الزبون، ويقبض الثمن، يستلم ثمناً لعددٍ من الصور يقلُّ عن عدد الصور التي أنجزها الجهاز ذلك اليوم، بحسب عدّاد الجهاز. وأنا أشك في أمانة أمين الصندوق هذا. ألا تعرف شخصا أمينا ليعمل معنا؟؟!"

قلتُ:

ـ "أعرف أكثر من شخص يبحث عن عمل، ولكن لا أعرف مدى أمانتهم. جرّبهم. سأبعث إليك بواحد منهم غداً، إن شاء الله."

في صباح اليوم التالي، اتصلتُ هاتفياً بالسيدة حسناء، وأخبرتها ما جرى بيني وبين رجل الأعمال الباكستاني السيد أحمد، وأعطيتها عنوانه.

بعد أكثر من أسبوعَيْن مررتُ بمحل " التصوير السحري " في شارع محمد الخامس بالرباط، فلاحت لي حسناء وهي تجلس في أمانة الصندوق. فذهبتُ إليها، سلمتُ عليها. وسألتها ما إذا كانت قد اكتشفت السر في نقص الدخل.

أجابت بكل ثقة:

ـ نعم. إنه الشخص الذي يشغّل جهاز تحميض الأفلام وتظهيرها. فهو كثيراً ما يأتي إلى المحل وهو يحمل في جيوبه أفلاماً، ويقوم بإخراج صورها بالجهاز، ويحملها معه إلى منزله. وهكذا فالجهاز يحسب هذه الصور، ولكن أمين الصندوق لا يستلم ثمنها. ولقد أخبرتُ صاحب المحل السيد أحمد بذلك، لئلا أكون متَّهمةً. وقد اتَّخذ الإجراءات اللازمة."

مرّتَ مدَّةٌ طويلة من دون أن ألتقي بها. ولا بالسيد أحمد، ولا بالسيد مزيد العلوان. ولم أرَ حسناء، ولا أختها الصغرى، ولا أختها الوسطى. ولم أذهب إلى شارع محمد الخامس، ولا بمحل " التصوير السحري". وذات يوم، وكنتُ قد وعدتُ ابنتي الصغيرة علياء بشراء لعبة حسب اختيارها إذا ما حقَّقت أعلى نتيجة في الامتحانات، وقد حصل ذلك فعلاً؛ فأصرّت علياء على أن أفضل محل لألعاب الأطفال موجود في شارع محمد الخامس، فقد أخبرتْها بذلك زميلتها خديجة في المدرسة. "وعند جهينة الخبر اليقين". ولا بُدَّ أن أصحبَها بنفسي إلى ذلك المحل. وفيما كنا نمر على استوديو " التصوير السحري"، لاحت لي فتاةٌ غير حسناء تجلس في مكانها في أمانة الصندوق. فاستأذنتُ علياء أن نعرِّج على الأستوديو لأسأل عن شخص. سلَّمتُ على الفتاة الجديدة، وسألتها عن حسناء التي كانت تعمل هناك. فأجابت الفتاة بلا اكتراث:

ـ "إنها تركت العمل منذ مدَّة طويلة."

ـ "هل لديك عنوان عملها الجديد؟ أو هاتفها؟"

ـ " لا."

عندما عدتُ إلى منزلي، حاولتُ الاتصال بهاتف منزل حسناء. الخطُّ مقطوع تماماً. لا حيلةَ في اليد. ونسيتُ الأمر متعلّلاً بالمثل المغربي " كم حاجة قضيناها بتركها.".

مرّت سنتان أو أكثر، لا أدري بالضبط، حينما ذهبتُ إلى شارع محمد الخامس، لأمرٍ ما. وفيما كنتُ أمشي، لفتت نظري امرأةٌ فارعةُ الطول قادمة من الجهة المقابلة، تلبس بدلةً حريرية زاهية الألوان مثل ألوان ريش الطاووس وهو يستعرض جماله أمام أنثاه؛ بدلة طويلة بسخاء تخط وراءها، كما لو كانت عارضة أزياء جميلة خرجت لتوّها من إحدى دور الأزياء الإيطالية في ميلانو، أو روما، أو البندقية. وعلى حين كنتُ أحدِّق في تفاصيل البدلة الحريرية والمجوهرات (الحقيقية أو المزيفة) الجميلة التي تصاحبها، انتبهتُ إلى أن صاحبة البدلة تبتسم لي بل تخاطبني باسمي! إنها حسناء نفسها، وقد ازدادت طولاً، وتألقاً، وجمالاً!

رفعتُ صوتي بدهشة وانشراح قائلاً:

ـ "هذه أنتِ حسناء؟! أين كنتِ"؟

ـ القصة طويلة، لا يمكن أن أسردها عليك وقوفاً. لهذا أدعوك على حسابي لتناول ما تحب في " المقهى الإيطالي"، على بُعد خطوتين من هنا. ألديك الوقت؟؟

ـ "طبعاً، حتى لو لم يكن لدي الوقت، لأوجدته من أجل سماع أخبارك".

في المقهى الإيطالي، لحظتُ أن النُّدل يعرفون حسناء باسمها، كما تعرف هي المقهى ومَّن فيه وما فيه. فاقترحتْ عليَّ أفضل ما لديهم من مشروبات وحلويات. فطلبتُ فنجان قهوة (لافاتزا) الإيطالية فقط، وطلبت حسناء نفس الشيء، وأضافت قائلة:

ـ "مع فطيرة (كروستاتا) بالتوت الأحمر، مع قليل من الآيس كريم بالليمون، لنا معاً."
ولم أمانع إرضاء لها.

لم تكُن حسناء في عجلة من سرد قصَّتها، فقد كانت تستمتع، بل تتلذذ، في تناول الحلوى مع القهوة، وتسألني عن أحوالي. ثمَّ نظرت إليّ بابتسامةٍ ساحرة، وسألتني:

ـ "هل أنتَ مستعدٌّ لسماع قصَّتي، قصَّتنا؟"

ـ "نعم. بلهفة."

ـ "هل تذكر أختي الصغرى؟"

ـ "نعم. اسمها نجلاء، أليس كذلك؟

ـ "نجلاء هي أختي الوسطى، أم الصغرى فهي هيفاء، أو أمُّ الخير كما ألقّبها."

ـ "آسف. نعم هيفاء. أذكر الأدب واللطف والحياء على ملامح وجهها."

ـ " فعلاً، هي ألطفنا وأكثرنا أدباً وحياء. وأجملنا."

قلتُ معترضاَ:

ـ "نعم، هي جميلة. ولكن الجمال نسبي، فهو يعتمد على الشخص الذي يرى الجمال، فما قد يراه أحدنا جميلاً، قد لا يجده الآخر كذلك؛ أو كما يقول المثل الإنجليزي "الجمال بعين الرائي"

“Beauty is in the eye of the beholder.”

أمّا العرب فقد سبقوا الإنجليز بالتعبير عن هذا المعنى بمثلهم: " لِكلِّ فتاةٍ خاطبٌ، ولِكلِ مرعى طالبٌ".

قالت مع ابتسامة:

ـ "وعلى الرغم من جميع أمثالكَ، فإن هيفاء جميلة جداً. المهمُّ، أنَّ سائحاً إيطالياً استوقفها في الرباط، ليسألها عن مطعم لديه اسمه، ولا يعرف مكانه. فلم تكتفِ بوصف الطريق له، بل سارت معه حتى أوصلته إليه. وفي باب المطعم، دعاها ذلك السائح لتناول الطعام معه على حسابه. اعتذرت له، لأنَّها ينبغي أن تعود إلى منزلها لتناول الطعام مع أُمّها وأختيها. وعندما ألحَّ عليها، قالت إنها ستجلس معه ريثما ينتهي من تناول طعامه."ِ

قلتُ مثنياً على كرم هيفاء ولطفها:

ـ "هذا سخاء ونبل من طرف هيفاء."

ـ "لا، إنه الحب، يا دكتور سليم."

ـ "ما الذي تقصدين؟ هل هو الحبُّ من أوَّل نظرة؟!"

ـ "الرجل في الخمسين من عمره، وكان يعاملها بحنان الأب، الذي حُرمت منه بعد أن اختطفه الموتُ منها، ويتَّمها وهي صغيرة."

كان الحنان والمحبة يفيضان من عينيه وهو يتحدَّث معها، كما يفيض نبع في أعلى جبال الأطلس الكبير بغزارة وقوة في فصل الربيع، فيجد أرضاً خصبة متلهفة، سرعان ما تينع بالزهر وتنتشي بالفرح.

شعر الرجل، واسمه ألبيرتينو، بأن تلك الفتاة الصغيرة الجميلة عوّضته، خلال ساعة واحدة فقط، باحترامها ومحبتها وسلوكها المهذَّب، عن السنواتٍ الطويلة من التعاسة والخصام والنكد التي أمضاها مع زوجته قبل طلاقهما، ومع ابنتهما المراهقة التي لم يستطِع توجيهها أو التحكُّم بها حتى تركت المنزل واختفت في إحدى مدن أوربا ـ برفقة أحد الشبان الذي جعلها تدمن على المخدرات، من دون أن تترك لوالديها عنواناً ولا رقم هاتف.

عندما التقى البيرتينو وهيفاء في اليوم التالي، حمل لها معه قنينة عطر إيطالية فاخرة من علامة جورجي آرماني مع علبة مصاحبة من مستحضرات التجميل، وقال:

ـ "وجهك لا يحتاج إلى هذه العلبة من المستحضرات، فوجهك في قمة الصفاء والروعة والجمال."

ثم أراد أن يقول شيئاً، ولكن ارتُجَّ عليه. فلم يطاوعه الكلام. حاول عدّة مرات، بيدَ أن الكلمات لم تخرج من لهاته كما لو كانت من حصى. شجَّعته هيفاء بنظرتها وابتسامتها، ليتكلّم، وأخيراً أمسكت بيده بحرارة، وضمتها إلى صدرها الريّان. وهنا نطق الرجل:

أمضى الليل كله في التفكير فيما كان يريد أن يقوله لها الآن. أتُرى هل توافق هذه الفتاة الصغيرة على الزواج به.؟! كان الجواب بسيطاً: هيفاء أحبَّته من كلِّ قلبها، دون أن تعلم شيئاً عن مكانته الاجتماعية أو الاقتصادية أو ظروفه. ولكن الزواج يتطلَّب منه التقدُّمَ لخطبتها من عائلتها، خاصة من ولي أمرها، الأخ الأكبر، الذي يحتاج على الأقل إلى يومين للقدوم من منجم الفحم، والذهاب إلى حمّام جيد للتخلُّص من آثر لون الفحم ورائحته. لم تشرح له ظروفهم، بل قالت:

ـ "أهلي فقراء، ولكنهم شرفاء طيبون".

كان ردّ فعل ألبرتينو مجرَّد ابتسامة.

قبل أن يعود ألبيرتينو إلى إيطالياً في نهاية عطلته القصيرة، ترك لهيفاء بعض المال للتسجيل في برنامج اللغة الإيطالية. فالحكومات الأوربية تحترم لغاتها، أي تحترم نفسها، ولا تمنح تأشيرة إقامة أو عمل أو زواج أو دراسة، ما لم يجتَز الفرد على اختبارِ المستوى الأول من لغتها على الأقل. ويتطلَّب ذلك، عادةً، دراسة سنة في معهد تعلُّم تلك اللغة. ولكن هيفاء التهمت دروس اللغة الإيطالية التهاماً، وأتقنتها قراءة، وكتابة، وتحدّثا، وفهماً، في ظرف ثلاثة أشهر فقط. كان على ألبيرتينو أن يغيّر خططه، ويعود إلى المغرب ليصحب عروسه معه قبل الموعد المفترض.

في ليلة زفافهما قدّم ألبيرتينو لعروسه بعض المجوهرات الغالية الثمن التي ورث بعضها من أسرته العريقة. فقالت هيفاء تشكره:

ـ لا احتاج هذه المجوهرات، فأنت عندي أغلى جوهرة في الوجود. وأنا فقيرة لا أملك شيئاً أقدمه لك في المقابل، سوى وعد مني هو أن أجعلك سعيداً ما أمكنني ذلك، وأملأ حياتك فرحاً وبهجة.

وبعد أن أمضيا ما يسمونه بشهر العسل، في زيارة أجمل المدن الإيطالية، صحبها إلى منزلها الجديد في مدينة ميلانو، وهناك اكتشفت هيفاء أن زوجها يمتلك أكبر محل لبيع السيارات الإيطالية والأوربية، بجناحين: أحدهما للسيارات الجديدة، والآخر للقديمة منها. وأنها ستساعد زوجها في إدارة المحل. وفي ظرف أيام معدودات، حفظتْ عن ظهر قلب، جميعَ أنواع السيّارات المعروضة للبيع، مع مواصفاتها التقنية، وأثمانها، وشروط بيع كلِّ سيارة منها.

غمرتني السعادة والحماسة لسماع هذه القصَّة، فرفعت صوتي المنتشي بالفرح قائلاً:

ـ " حسناء! شكراً جزيلاً على هذه القصَّة التي أسعدتني حقاً. أتمنّى لهيفاء كلَّ خير..."
قالت حسناء:

ـ "ولكن القصَّة لم تنتهِ بعد. وأنتَ لم تسمع سوى أوَّلها ... هل أنتَ مستعجل؟"
قلتُ بلهجة اعتذار:

ـ " أبداً، يسعدني أن اسمع بقية القصة..."

قالت بابتسامة انتصار:

ـ " لألبيرتينو صديق (وربما قريبه كذلك) اسمه أنطونيو، في مثل عمره، وظروفه العائلية. ودأبا على تبادل أسرارهما. فكان ألبيرتينو يحدِّثه عن طعم السعادة الزوجية التي ذاقها لأوّل مرة بفضل هيفاء، وإخلاصها، ومحبتها، وتفانيها في إرضائه وإسعاده. فتمنّى أنطونيو أن يلتقي بفتاةٍ مثلها، وأعرب عن استعداده لتمضية ما يلزم من وقت في المغرب لتحقيق ذلك. فابتسم البيرتينو وقال:

ـ لهيفاء أخت تكبرها بسنة أو سنتين، اسمها نجلاء، وهي بمثل أخلاقها وجمالها. ولا نحتاج إلى أكثر من بضعة أيام للالتقاء بها. وإذا كان ثمّة نصيب فستحظى بزوجة فاخرة، يا عزيزي أنطونيو."

وهذا ما كان. وعندما التحقت نجلاء بزوجها في مدينة ميلانو، وجدت أنه يملك فندقاً من فئة أربع نجوم. فأخذت تساعده في إدارته بكل جدّ واجتهاد.

هنا صرختُ فرحاً قائلاً:

ـ " رائع، رائع"

ومددتُ يدي لأخذ ورقة حساب المقهى من على الطاولة. فقالت حسناء بنبرة مزاح:

ـ ألم أقل لكَ أنك مستعجل ولا تريد أن تسمع بقية القصة؟! إضافة إلى أنَّ النادل لن يقبل منك شيئاً، لأنه يعرف أنكَ ضيفي؟

قلتُ معتذراً:

ـ "هل هناك أجمل من هذه النهاية؟!"

ـ " نعم، ينبغي أن تعلم أن ألبيرتينو قبل أن يصحب هيفاء معه إلى إيطاليا، اشترى فيلا فاخرة لوالدتي في أحد الأحياء الراقية في مدينة سلا، لأنَّ هيفاء لم تقبل صداقاً مقابل زواجها إلا مبلغا رمزياً هو عشرة دراهم، فقال ألبيرتينو: طيب، سأقدّم فيلا فاخرة مقابل المهر، لأمِّكِ العزيزة لأنها أحسنت تربيتكِ. وأنتِ أغلى من أي فيلا أو قصر منيف."

ثمَّ طلب ألبيرتينو من أخيها محمد أن يترك عمله في المنجم، ويبحث عن محل يصلح ليكون معرضا لبيع السيارات الأوربية، ليصبح وكيله في المغرب؛ وأعطاه رسالة إلى الملحق التجاري في السفارة الإيطالية بالرباط ليساعده في ذلك.

ـ " رائع، رائع. إنَّ ألبيرتينو رجل جواد حقاً."

قالت حسناء مازحةً:

ـ " أنت مستعجلٌ هذا الصباح، لا تريد أن تسمع بقية القصة؟"

ـ "وهل هنالك بقيةٌ أجمل من تلك النهاية؟؟!!"

قالت حسناء:

ـ " نعم، نعم. عندما رفضت هيفاء ونجلاء تقاضي مقابلاً عن عملهما في معرض بيع السيارات وإدارة الفندق، أخذ كلٌّ من ألبيرتينو وأنطونيو بتحويل مبلغٍ شهري مُجزٍ إلى حسابٍ فتحاه لأمي في بنك بمدينة سلا..."
قاطعتُها قائلاً :

ـ "هذا منتهى الكرم الأصيل، وقمة احترام حقوق الإنسان."

فواصلت كلامها قائلةً:

ـ أصبحنا أغنياء والحمد لله. ولهذا لم أعُد في حاجة إلى العمل في محل التصوير السحري، ورجعتُ إلى الجامعة لاستكمال دراستي. وهي أمنية حُرمتُ منها عندما اضطررتُ إلى ترك الدراسة والعمل خادمة في تنظيف المنازل باليوم أو الساعة أو القطعة، وعملتُ في تنظيف شقة مزيد العلوان وتعرّفتُ عليه."

ـ "رائع. بوصفي معلِّماً سابقاً، أؤكِّدُ لكِ أن لا شيءَ أفضل من إكمال دراستكِ."

قالت مداعبة بابتسامة:

ـ "أنت مستعجل هذا الصباح. لا ترغب في سماع بقية القصة."

فتحت عينيَّ باتساع، أتساءل عن خاتمة القصة، فقالت:

ـ "لقد أنجبت هيفاء ونجلاء طفلَين ذكرين في صحّة جيدة."

قلتُ:

ـ "مبروك. حفظهم الله جميعاً."

صمتُّ لحظات مفكِّراً، ثمَّ رفعتُ رأسي وقلتُ لها بابتسامة ودود:

ـ "عزيزتي حسناء. وانتِ تسردين هذه القصة الجميلة عليَّ، أخذ سؤال يجول في أرجاء روحي ويلحّ عليَّ. بكل إخلاص وبلا مجاملة: أنتِ أجمل أخواتكِ وجهاً وقواماً، وألطفهن قولاً وحديثاً وحسن بديهة، فمتى ستتزوجين برجل أعمال إيطاليّ كريم؟!"

اكتست ملامحُ وجهها المليح غلالةً من الجدِّية، وهي تتناول حقيبتها وتقف، قائلةً:

ـ "أنا أختلف عن أختيَّ. والله، لو أعطوني جميع فنادق إيطاليا وسيّاراتها، لما تركتُ وطني وأهلي، حتى لو بقيتُ أنظِّف الشقق."

وقفتُ مودعاً، وشعرتُ بدموع قلبي تنبجس من أعماقه، وتتصاعد متجمِّعة في مآقي عينيّ. فأشحتُ بوجهي عنها لئلا ترى الدموع.

تظاهرتْ بأنّها لم تلحظ دموعي، ومدّت يدها مودعة وهي تناولني ورقة قائلةً:

ـ "هذا رقم هاتفنا الجديد ومرحبا بك في أيِّ وقت."


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى