الثلاثاء ٤ تموز (يوليو) ٢٠٠٦
قصة قصيرة
بقلم أحمد الخميسي

بط أبيض صغير

من قبل كنت أتابع كل شئ ، ثم توقفت عن متابعة أي شئ . منذ شهور طويلة لم أعد أشتري الصحف ، أية صحف ، لم أعد أفتح التلفزيون . توقفت عن توقيع البيانات السياسية ، وتوقفت عن النقاش فيما يحدث حولنا . أخبار الأحداث السياسية الهامة صرت أتسقطها من أفواه معارفي خلال مكالمات هاتفية عابرة ، أو لقاءات بالمصادفة وسط المدينة . قلت لنفسي : لا شئ يتغير إلي الأفضل . وكنت أعلم أنني مخطئ ، وأن ما أقوله يعني أنني لا أرصد التغيرات بدقة . فلابد أن هناك أشياء تتحرك إلي الأحسن وأنا لا أراها . لكني بحكم العادة والفضول القديم أشغل التلفزيون من حين لآخر، أكتفي فقط بمشاهدة مقدمة النشرة الأخبارية ، وخلال ذلك ، مثل الماء الذي ترفع عنه السدود فجأة ، تتدفق نعوش أطفال الفلسطينيين من شاشة التلفزيون إلي صالة بيتي ، يحملها الناس وهم يهرولون بها قبل أن تشن عليهم غارة جديدة في الشوارع المحاصرة.

أغلق التلفزيون وأندم على اللحظات القصيرة التي فتحته فيها . أغلقه ، لكن طوفان الأطفال يكون قد سرى من الشاشة الصغيرة وشغل كل فراغ في شقتي . طوفان ، ينظر إلي بعدم فهم ، نظرة مشبعة بالتساؤل ، لأنه احتمي بجدران بمنزلي دون استئذان وشغل كل المساحات الشاغرة بين قطع الأثاث في الصالة وفي غرفة نومي ، ومكتبي ، وجانبي الردهة الممتدة إلي الحمام والمطبخ . يستريح الأطفال المبتلون من الموت قليلا ، ويألفون المكان ، ولا يغادرون مسكني ، لأنهم مذعورون من الدنيا المرعبة في الخارج . وما أن أنهض من مكاني حتى يسارعون بالتدافع خلفي مثل سرب من البط الأبيض ، ويتبعون خطواتي أينما توجهت برؤوسهم المشجوجة وبشريط من شاش أبيض يربط الفك السفلي بأعلى الرأس . صفوف متعرجة ومتكدسة من البط الأبيض الصغير تسكن معي منذ زمن وتتبع خطواتي ، كأنها وجدتني بعد جهد ، وتخشى الآن أن أضيع منها ، فتتنقل ورائي من غرفة لأخرى ، وتسارع بالالتفاف حول قدمي في المطبخ . حين أكون مضطرا لمغادرة المسكن ، تقف صفوف البط الأبيض الصغير عند باب الشقة ، تمط رقابها النحيلة الطويلة لأعلى ، تتفحصني ، تهز رؤوسها قليلا ، ومناقيرها مثبتة من أسفل بقطع شاش معقودة عند رؤوسها الصغيرة . ينظر البط إلي صامتا يفكر إن كنت سأعود إليه أم لا ؟ . أرجع في المساء ، وأفتح الباب بهدوء ، فتخفق أجنحة البط الأبيض في الهواء ، وتضطرب صيحاته في ما بين الباب والصالة ، وتسبح في الجو عيون مغلقة وحقائب وصنادل صغيرة ملونة . أخطو بين الصفوف البيضاء محاذرا ، أتجه نحو غرفة مكتبي ، تتدافع الصفوف ورائي، أتوقف أمام باب الغرفة ، وأشيح بيدي له لكي يتراجع ، أريد أن اهتف فيه، لكنه يظل واقفا ، صامتا ، وأعينه معلقة بي . في الليل يملأ البط الأبيض كل موضع في غرفة نومي ، وفقط حين أرقد في فراشي ينعس فوق صوان الملابس ، وعند حافة النافذة ، وعلى طرفي سريري ، فإذا تقلبت على جنبي ، أو تحركت ذراعي وأنا نائم يفتح أعينه بفزع وينقل نظراته ما بيني وبين باب الغرفة، أتطلع إليه في العتمة ، فيحدق في ، بصمت ، ورهبة، وأمل .

منذ زمن يداخلني شعور أن علي أن أعيد تلك الكائنات الصامتة إلي هيئتها الأولى ، وأن أفك عنها وعني السحر الذي ربطنا هكذا . أفكر في كل ذلك ، وأهرب من كل هذا إلي الكتابة في النقد الأدبي ، أكتب ، وأحس بالخجل ، لأن زجاج نوافذ شقتي يكاد أن يرتج من صوت القنابل ، لكني أسد أذني وقلبي بإحكام ، وأواصل عملي في المساء فأسجل ملاحظات عن تقنيات القصة القصيرة ، أو التقدم الذي حققته الرواية ، ثم أخرج لأتجول قليلا في الشوارع القريبة . أعود ، أفتح الباب ، فتلقاني الأجنحة البيضاء التي يتطاير منها زغب خفيف في الهواء ، وأجد أمامي تلك النظرات الخرساء ، فأشعر أنني كنت هاربا ، مثل جندي تسلل من موقعه خلال القصف وهبط من تل مشتعل بالنار إلي أشجار الغابات البعيدة . يقول لي صديق : " الحياة لا تتوقف ، والنقد والصحافة مهام ضرورية لا تتعطل " . أهمس لنفسي : " بالطبع . يد محترقة لا تمنع اليد الأخرى من تناول الطعام " . أقول ذلك لكني أحس بمرارة وأنا أفعل كل ما هو ضروري ، أو حين ألتقي بأصدقائي القلائل ، أو أضع شفتي على حافة كوب الماء فأجد صفوف البط الأبيض تتطلع إلي بنظرة مبهمة ، أحدق فيها هاتفا : وهل أنا المذنب ؟ هل أنا الذي ألقي بالقنابل كل يوم ؟

منذ زمن توقفت عن القيام بأي شئ . كل ما أفكر فيه ذلك البط الأبيض الذي يحيا في مسكني ، و يتخبط حولي ، ويمنعني من التنفس أو تناول الطعام براحتي، دون أن يصدق أنني برئ مما يحدث ، ودون أن يكف عن التماس الحماية . الزغب الأبيض الخفيف غير المرئي تقريبا في أجواء الشقة كلها أخذ يدخل صدري يوما بعد يوم ، ويدخل رئتي دون أن أشعر ، إلي أن وقفت صباح أحد الأيام وربطت بشريط من شاش فكي السفلي بأعلى رأسي ، ثم تجمدت بين الصفوف البيضاء ، ورفعت رقبتي النحيلة لأعلى ، وصرت أتجول معها بصمت بين الغرف الفارغة ، وجناحاي يخفقان في الهواء، أشهق لأعب نسمة ، على أمل أن تطرق الباب علينا يد بشرية .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى