الأربعاء ٧ آب (أغسطس) ٢٠٢٤
بقلم محمد محضار

تجربة حياة

انتظر طويلا أن تبتسم له الحياة لكنها ظلت مُكشِّرة في وجهه بلا سبب وجيه كما تراءى له، كان يفرط في التساؤل عن سر هذا الجفاء وقلبِ ظهرٍ المِجن الذي يلقاه منها، دون أن يفلح في الوصول إلى جواب مقنع يشفي غليل حيرته.

في كل صباح يستيقظ على مناظر مقززة، سقف بتشققات مخيفة، نافذة بمزلاج مكسور ودهان شاحب، صورة كبيرة لشارلي شابلان على الجدار الوسخ، وبلاط بزليج ضارب في القدم.

يتجاوز كل هذا ويزيح الغطاء عن جسده المتعب ثم يقوم مهرولا نحو الحمام المتهالك، يقضي حاجته ثم يغتسل، ويرتدي بدلته الباهتة ويغادر الشقة الوضيعة التي عشش بها منذ عقدين ونصف، في كثير من الأحيان يقصد المقهى الشعبي لصاحبه المعلم عزوز، يتناول طعام الإفطار الذي يتكون غالبا من "السفنج" والشاي الساخن، وقد يتجاذب أطراف الحديث مع بعض معارفه ممن يقصدون المقهى لتناول إفطارهم، يدور الحديث عادة عن غلاء المعيشة، وندرة الأمطار، وقد يَردُّ بعضهم ما يقع إلى شيوع الفاحشة وانحراف سلوك الناس، وابتعادهم عن نهج السلف الصالح، في حين يقول البعض الأخر أن سبب ندرة المطر سببه التلوث البيئي والصناعات الكيميائية والبتروكيماويات والتعدين. اعتاد هو أن يظل محايدا في تدخلاته متجنباً الجدل العقيم لأن له قناعة بأن الحجاج واللجاجة أشبه بصرخة في واد مادام الحل والعقد بيد فئة جُبلَت على صَمِّ الأذان وتجاهل الرأي العام للشعوب.

في المكتب يجلس كعادته صامتا غير مهتم بالحوار الذي يتبادله زملائه الثلاثة، وهم سيدة في منتصف العمر وكهلان يقاربانه في السن، كان حديثهم في مجمله يدور حول مشاكل الأبناء، وارتفاع أسعار المدارس الخصوصية، وصعوبة الولوج إلى المستشفيات والمصحات بسبب غلاء تسعيراتها وهزالة التعويضات التي تقدمها التعاضديات وصناديق الاحتياط الاجتماعي، وقد ينزلق الحديث فينصب في اتجاه الفساد الذي أصبح مستشريا في الإدارة وسيادة المحسوبية في الترقيات، كان يكتفي بتحريك رأسه متظاهرا بالاهتمام تارة، أو ينشغل بإدخال بعض الملفات إلى الحاسوب والتحقق من صحة معطياتها ثم الموافقة عليها.

في إحدى المرات سألته زميلته: عن السر في عدم زواجه إلى اليوم وقد أصبح على أعتاب الخمسين، ظل صامتا وهو يبحلق فيها، لعنها ألف مرة في سرّه، تبّا لها من حيزبون تتدخل فيما لا يعنيها، حسبها ما فعلت بزوجها وما سببت له من مشاكل جرت بذكرها الركبان، ولولا تدخل ذوي النيات الحسنة لكان فارقها غير آسف على عشرتها، ردَّ على سؤالها مبتسما: "كل شيء نصيب، ونصيبي أن أظل عازبا، وقد أموت وأنا عازب، وربما وقعت المعجزة وتزوجت"

هناك أشياء كثيرة تخلق المفارقة، وتغير مسارات الانسان، وقد تلعب الصدفة دورا مهما في صنع توليفة تربط بين المفارقة والمسار، وينتج عن ذلك سياق قد تكون نتائجه إيجابية وفي أحيان أخرى قد تكون سلبية، وهذا حال صاحبنا الذي خسر الرهان ولازمته كل سلبيات الكون.

بعد انتهاء الدوام في الإدارة يغادر المبنى الضخم من الباب الخلفي القريب من المكتب الذي يقضي به سحابة يومه.

يستهويه أن يجول بأنظاره متأملا ما حوله من عربات من مختلف الأحجام تمرق من الشوارع التي يمر بها، كما أنه لا يتردد من سرقة نظرات خجولة لبعض النساء اللواتي تسرن على الرصيف، كل ذلك يجرى في حضرة عشرات الأفكار التي كانت تشج رأسه، وتسبب له قلقا مضنيا يربك حياته، هناك سؤال أنطولوجي يحاصره دائما ويؤثر عليه، يطرحه ويكرر طرحه:"ما فائدة الحياة إن كنّا نتعذب ونشقى ونحن نستحث الخطى نحو النهاية الحتمية؟".

زمن الوحدة الذي يحاصره لا يسمح له بالسلوان وتَغْييبِ الهواجس التي تتربص به وتفترس كل لحظة طمأنينة تعنُّ له.
مأساته تكمن في الفراغ المتناسل، في الصمت القاتل والجدران الباردة، وغياب القدرة على الخروج من ترسبات الماضي الشاحب الذي عاش في أحضان إهابه.

هو يدمن على قراءة بعض الكتب الفلسفية ويرى فيها أحيانا وسيلة خلاص من عزلته ووحدته، لأنه يجد فيها تصريفا لمجمل الأفكار التي تهاجمه وهو في خلوته، لهذا فهو لا يتردد في الانسياق خلف فلسفة إميل سيوران التشاؤمية المبنية على الأفكار الانتحارية، ويجد متعة في ترديد قولته التي حفظها عن ظهر قلب: "لا ينتحر إلا المتفائلون، المتفائلون الذين لم يعودوا قادرين على الاستمرار في التفاؤل. أما الآخرون، فلماذا يكون لهم مبرّر للموت وهم لا يملكون مبرّراً للحياة؟"
عندما يصل إلى شقته، يفتح نافذة الصالون الصغير الذي يحتوي على أريكتين باهتتي اللون، ومائدة من خشب الزان، ثم يدخل غرفة النوم، ينزع عنه البدلة ، ويلبس كندورة مراكشية، يلج إلى المطبخ، يضع حلة الأكل المتبقي من طعام العشاء على فرن الغاز،

عندما يسمع صوت غليانه يفرغ محتوى الحلة في صحن خزفي، يحمل صينية الأكل إلى الصالون، يجلس على إحدى الأريكتين، ويترك لنفسه فرصة لاسترجاع الأنفاس، ثم يبدأ بالأكل، نادرا ما تكون شهيته مفتوحة، فهو يأكل فقط ليعيش والباقي لا يَهمّه.

ينهى تناول وجبة طعامه، يشعل لفافة تبغ ينفت دخانها بانتشاءٍ، عبر موجات الدخان المتصاعدة يرى شذرات من حياته متقطعة يصعب لَمُّها لأنها أشبه بشظايا غير متوازنة.

هي أحلام توارتْ وآلام تجدَّدت وأنت لا تملك سوى أن تردّد مع نتشه قولته الشهيرة:" من يملك غاية للعيش، يمكنه تحمّل أيّ شيء يعترضه في الحياة" وغايتك أنت أن تعيش حرا وسيدا لنفسك لا عبدا لوظيفتك ولمسؤولياتك وأفكارك. ولن تغير تكشيرة الحياة وجفاؤها شيئا من حالك ووضعك، لأن ما من متعة ترغب فيها أو تتطلع إليها إلا وتقتضي أن تعيش تجربة المخاطرة ومواجهة الصعب والعسير.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى