الأحد ٢ حزيران (يونيو) ٢٠٢٤
بقلم حسن لمين

تحت ظلال الزيتون

في قرية الطنطورة الوادعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، كان أبو محمد يعيش مع أسرته حياة بسيطة لكنها مليئة بالسعادة. كان يعمل في حقله ويعتني ببيته الصغير، ويقضي أمسياته في الحديث مع جيرانه وأصدقائه تحت شجرة الزيتون الكبيرة التي كانت شاهدة على أفراحهم وأحزانهم.

في عام 1948، تغير كل شيء. اجتاحت القوات الإسرائيلية القرية بقوة لا ترحم، محولةً الطنطورة إلى مسرح للدمار والخراب. وقف أبو محمد مشدوها عاجزًا أمام المشهد المروع وهو يرى بيته يُهدم بقوة الحديد والنار وأرضه تنهب وتُسلب. لم يكن أمامه سوى خيار واحد: الهروب لإنقاذ أسرته. عبر البحر إلى لبنان، ومن هناك بدأت رحلة التشرد التي لم تنتهِ.

انتقل أبو محمد من مخيم لاجئين إلى آخر، يحمل في قلبه ذكرى قريته ويزرع الأمل في قلوب أبنائه. بعد سنوات من الترحال والضياع، تمكن أخيرًا من الحصول على تأشيرة للجوء في الولايات المتحدة. كان الانتقال إلى أمريكا تغييرًا جذريًا في حياة الأسرة، لكن أبا محمد لم ينسَ يومًا قريته الطنطورة.

في الولايات المتحدة، بدأ أبو محمد حياة جديدة. عمل بجد لتأمين حياة كريمة لأبنائه، لكنه لم يتخلَّ عن حلمه بالعودة إلى وطنه. كان يجتمع مع الجالية الفلسطينية في المناسبات الوطنية، ويروي للأطفال والفتيان قصص الطنطورة، ويحثهم على التمسك بهويتهم.

كان كل يوم يذهب إلى حديقة صغيرة قريبة من منزله، يجلس تحت شجرة زيتون زرعها بيديه، يتأمل في الأفق البعيد ويتذكر شجرة الزيتون التي تركها خلفه في الطنطورة. كان يقول لأحفاده دائمًا: "يومًا ما، سنعود إلى أرضنا. لا تنسوا هذا أبدًا."

مرت السنوات وضرب الدهر ضرباته، وكبر أبو محمد في العمر، لكن حلمه لم يذب ولم يتبخر. وكان آخر حديث له مع أبنائه وأحفاده قبل رحيله: "مهما طالت الغربة، فالطنطورة في قلوبنا، وستظل كذلك حتى نعود إليها. لا تنسوا حقكم في العودة، ولا تتركوا الحلم يموت."

وهكذا، رحل أبو محمد جسدًا، لكن روحه بقيت تتردد في أرجاء الطنطورة، وفي قلوب كل من عرفه وحمل رسالته. حق العودة لم يكن مجرد حلم لأبي محمد، بل كان حقيقة يعيشها كل يوم، وينقلها جيل بعد جيل، حتى يأتي اليوم الذي يعود فيه أحفاده إلى الأرض التي لم ينسها يومًا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى