الأربعاء ١٥ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٨
بقلم عادل الأسطة

تداعيات: أأنت يا ضيفي أنا

1- خير من..

كان ذلك قبل عشرين عاما. هل أنا الآن ذلك الذي كنته ليلتها؟ الغرفة غرفة طالب فيها سريره وطاولته وكرسيه، والحمامات مشتركة، والمطبخ أيضا مشترك. ولولا الساحات، لولا النهر وضفته، لولا الأشجار والشوارع العريضة، لولا هذه لربما مت ضجرا، لربما مت خنقا. الغرفة أشبه بزنزانة، وحين أخرج إلى المطبخ ألتقي وجوها لم آلفها بعد، لأنني تعرفت إليها حديثا، ولم تكن اللغة لتسعفني، كي أغرد مثل بلبل. والوجوه التي ألتقيها يغرق بعضها في عالمه. يتناول هؤلاء إفطارهم وحيدين، كأن لا رغبة في الحديث، كأن لا رغبة في الحديث مع طارئ، مع قادم جديد غريب الوجه واليد.. واللسان أيضا، فالألمانية التي أتحدث بها تنبئ عن لسان يتعلمها على كبر، ولم يجدها بعد.

كان ذلك قبل عشرين عاما. كان ذلك ليلة القدر. ماذا تعني هناك ليلة القدر؟ سكان المبنى ألمان، طلاب وطالبات، في العشرينات من أعمارهم، ينفقون الليل كله في البارات، وحين يعودون إلى غرفهم تكون هذه غرف أزواج، نصفها يقيم فيه اثنان، ونصفها لا يقيم فيه أحد، ولا أعرف عن الصيام إلا من الطالبة القادمة من دولة إسلامية. هل هي أندونيسيا؟ لم أعد أذكر. تصوم هذه في أيار، ويوم أيار هناك يوم طويل.

أتذكر، الآن، الغرفة: الجدران بيض بيض، فلا صورة ولا لوحة ولا شيء يزينها، والرفوف خالية إلا من كتب قليلة باللغة الألمانية التي لا أتقنها، وأحاول أن أقرأ (بريخت): مقالات في المسرح، الرجل الطيب من سيشوان، الأم الشجاعة وأبناؤها، ودائرة الطباشير القوقازية، وقاموس هانزفير، ولا شيء يبعث الدفء في ذلك المكان.

ستأتي (بربارة) في ليلة خير من.. ستأتي: غرفة في منزل الطلبة و... الآن يمر عشرون عاما، وربما وجب أن أستعير من محمود درويش سؤاله: هل أنت أنت؟ هل تذكرون: شتاء ريتا الطويل؟ ربما.

2- أتذكر بيرجيت:

كان بودي أن اكتب رسالة إلى بيرجيت. زارتني هذه قبل سبعة عشر عاما. خاضت معي في موضوعات كثيرة، ونقلت كل ما قلته إلى جهات أخرى. كان لها صلة بالشام، وكان لها صلة بالألمان، ولم أكن قرأت قصة محمود: "موتى وقط لوسيان". سأقرأ القصة العام الماضي، وسأعرف ما لم أكن أعرفه. سأعرف أن بيرجيت كذبت عليّ، فحين سألتها: أما زلت على علاقة بمحمود، أجابتني بالإيجاب، فاحترمته وأنا لا أعرفه. كل ما كانت تربطني به أنه فلسطيني في الشام، أهداني كتابا أحضرته بيرجيت، وأخبرتني أنه زوجها. وهكذا نمت في الصالون، وتركت لها الغرفة، ولم أحاول معها ما حاولته مع أندريا طالبة الاستشراق. لو أخبرتني بيرجيت بالحقيقة لربما اختلف الأمر كثيرا. لربما عشنا معا أياما قليلة كتلك التي عشتها مع أندريا.

كان بودي أن أكتب رسالة إلى بيرجيت لكن... هي الآن متزوجة ولها طفلة، وقد غيرت اسم عائلتها. ربما لا تريد أن يعرفها أحد. ربما. هذا احتمال، ولكنه ضعيف، فقد ذكرت اسم عائلتها إلى جانب اسم عائلة زوجها، اسم عائلته التي ألصقت اسمها الأول به، حتى لتساءلت: من هي هذه المستشرقة؟ ثم سرعان ما عرفت حين قرأت سيرة حياتها.

وسأسأل نفسي: ماذا تجدي الكتابة لو كتبت؟ هل أقول لها: لقد خدعتني يومها، ولم تقولي الحقيقة؟ لقد فوّتِ عليّ لحظات سعادة ما؟ ولكن ربما لم تكن هي ترغب في تلك اللحظات، ولهذا كذبت عليّ ولم تقل الحقيقة. كنت على أية حال سأحترم رغبتها لو أخبرتني بالحقيقة. ولم تأت بيرجيت في رمضان، لم تأت ليلة القدر، مثل بربارة، ولم تأت في رمضان، مثل أندريا.
العام المنصرم، وأنا أقرأ قصة محمود تذكرت بيرجيت. تذكرت أنها كذبت، ولم تقل الحقيقة. الآن في رمضان أتذكرها. لم تكن زليخة إذن، ولم أكن يوسفا، وحين أقرأ قصتي: من قال إني كنت يوسف، أرى خبث الطابعة: لقد أسقطت هذه كلمة كل من عبارة: "وذهبا إلى سريره" فاختلف المعنى وغدوت كاذبا. الآن أتذكر بيرجيت، ولا بد من تصحيح الخطأ. هل قرأت يا بيرجيت: لماذا كنت يوسف؟ لا أدري.

3- أتذكر الصغير:

الآن أفتقد الصغير. الصغير شاخ، فثمة عشرون عاما من الفراق. ثمة أعوام طويلة من الكسل. لم أحترم رغباته ولم ألبها كما يشاء فهجرني. اتخذ قراره ومضى، فالكسل يعني له الموت، ولماذا يفضل الموت؟ لماذا يبقى مع شخص لا يطعمه ولا يرويه ولا يتركه يجوب العالم ويغوص عميقا في المجهول. وحين كان قويا مقبلا على الحياة عاش الفقر، فماذا تنفعه النقود كلها وقد هرم وشاخ واقترب من الموت. أنا مثل الصغير أيضا، ولو استطعت أن أفعل ما فعل لما ترددت لحظة: كنت قويا وفقيرا، فعشت البؤس والعوز، وحين غدوت غنيا أملك من المال ما يمكنني من العيش برخاء فقدت الرغبة في الأشياء: في الطعام، وفي السفر، وفي المرأة أيضا. هل صغيري مثلي أم أنا مثل صغيري؟ هل نتبادل الأدوار؟

أتذكر العوالم التي ارتادها. الغابات التي ذرعها وسار فيها. أتذكر المدن التي عرفها وكان فيها تارة سعيدا، وطورا خائفا. وأفتقده الآن. أفتقده في الليالي، وأفتقده في المناسبات، وأفتقده في العيد أيضا، وأتمنى لو ألتقي به كما عرفته حتى يقص علي حكاياته. حتى يخبرني من جديد، عن العوالم التي ارتادها، عن الغابات التي ذرعها وسار فيها، عن المدن التي زارها، عن سعادته وخوفه. هل ثمة (نوستولوجيا) يعاني منها مثلي؟ كان بودي لو ألتقيه ليخبرني!

أنا الآن احيا وحيدا وحيدا. في رمضان أحيا وحيدا. أتناول طعامي وحيدا، أشاهد التلفاز وحيدا، أعيش في شقتي وحيدا، وثمة حنين إلى الماضي. ثمة نوستولجي حتى إلى المكان في المكان، مثل إميل حبيبي الذي كتب اخطية ليعبر عن حنينه إلى حيفا وهو في حيفا. وفي ليالي رمضان الأخيرة أذرع شوارع المدينة وحيدا. ثمة ما يستحق الحياة على هذه الأرض. أكرر وأنا أسير وأرى الناس يقبلون على الحياة، فهم يحبونها الآن ما استطاعوا إليها سبيلا، وأتذكر محمود: ونحن نحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلا. وأتذكر صغيري. أتذكره لأسأله: أأنت أنا، فمن منا تنصل من ملامحه؟ من؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى