الأحد ١٥ آذار (مارس) ٢٠٠٩
الإبداع القصير جدا
بقلم راندا رأفت

تمشيا مع روح العصر.. أم حلا لمشكلات المبدعين

يميل كل شيء للتصغير في عصر التكنولوجيا، فجهاز الكمبيوتر بعد أن كان في حجم غرفة كبيرة أصبح اليوم في حجم كف اليد، كذلك جهاز الراديو والكاسيت بعد أن كان يصعب حملة بل وتقتصر امكانياته على الاستماع، تطور حتى ظهر جهاز الأي بود، والام بي 3 أو 4 أو 5 بما لا يتجاوز حجمه الـ3 سنتيمتر، وله امكانيات أكبر مثل عرض للصوت والصورة،
ومن أجهزة التلفون الثابته إلى أجهزة محمولة فائقة الامكانيات، فلم يعد التلبفون مجرد وسيلة لنقل المكالمات بل فيه آداة استماع وتسجيل صوت وفيديو،
والكاميرات فبعد أن كانت الكاميرا ثابته في حجم عربة نقل، أصبحت الآن الكاميرات الديجيتال لا تتجاوز هي الآخرى بضع سنيمترات.

يميل أصحاب الشركات المنتجة إلى تصغير منتجاتهم أكثر فأكثر، فكلما قل حجم المنتج كلما زادت اهميته وتمشيها مع حاجة العصر السريعة.

من هنا كان لابد أن يكون للابداع الفني دورا، فالمبدع عادة ما يستغل كل الامكانيات المتاحة ليعبر بها عن أفكاره وفلسفته، بل وهو أكثر تأثرا ونقلا لروح العصر.

فظهر الإبداع القصير والقصير جدا والموجز، وظهرت أنواع أدبية أقصر.

فبعد أن كانت الملحمة التي تحكي تاريخ أجيال، ظهرت القصة القصيرة جدا التي تحكي لمحة فقط من الحياة، ومن المعلقة الشعرية الطويلة إلى الرباعية أو القصيدة القصيرة التي صارت أنسب للاغنية الحديثة.

حتى الأغاني القديمة مثل أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب تستمر ساعة كاملة أو تزيد، فأصبح حجم الأغنية اليوم لا يزيد عن 5 دقائق، وتعرف شركات الانتاج جيدا أنه إذا زاد وقتها عن ذلك سينصرف الناس عنها.

وبعد الفيلم السينمائي أو التلفزيوني الذي يستمر ساعتين أو أكثر، ظهرت أفلام الموبايل وظهر الفيلم القصير، فيلم لا يتجاوز العشر دقائق، ويطلق على الأفلام القصيرة اسم الأفلام الرقمية (الديجيتال) لان يتم تصويرها بكاميرات رقمية مخالفة لكاميرات السينما (سواء كانت كاميرا فيديو أو هاى ديفينشن أو كاميرا الموبايلات)، ويطلق عليها أيضا اسم الأفلام المستقلة؛ حيث أن منتجوها مستقلين غير تابعين لأي جهة انتاج رسمية.

ويتم معالجة الفيلم على جهاز كمبيوتر الشخصي باستخدام برامج مونتاج وجرافيكس، ثم يتم نشر الأعمال وعرضها على شبكة الأنترنت أو على شاشات بروجيكتور فى قاعات العرض للهواة، لكن هذه الأخيرة ليست متاحة دائما.

من جهة آخرى، كلما ظهر فن جديد كانت بدايته إثارة للجدل، بل والمشاكل في بعض الأحيان، فقد حدث هذا عندما ظهر الشعر العامي لكنه اثبت وجودة بوجود مبدعين عباقرة مثل بيرم التونسي وصلاح جاهين، وكذلك ظهرت المشكلات عندما ظهرت القصيدة الحرة، بل واعترض عليها الشعراء والنقاد في وقتها واعتبروا أنها ليست من الشعر، فلعله ليس من السهل كسر قواعد الفن أو أنه ليس من السهل على الفنانين الراسخين أن يتخيلوا أن للفن صور آخرى.

ويقول المخرج (ناجي العلي) (مخرج مصري رقمي مستقل): "قد لا أكون مبالغ إن قلت أن أهم صعوبات الفيلم الرقمي ليست فى الامكانيات التى لا نستطيع توفيرها مثل الكاميرا ومعدات الاضاءة ومعدات التحريك وما إلى ذلك _ بنتصرف فيها وبتفرج من عند ربنا_ لكن الأهم صعوبات فى الامكانيات التى لا تستطيع الدولة توفيرها لنا منها؛ مثلا نحتاج جهة رسمية ننضم إليها تحت سقف واحد لاضفاء شرعية على موهبتنا، نحتاج تصاريح للتصوير الخارجى بدلا من التصوير كاللصوص، نحتاج رعاة للانتاج على هذه الأعمال،نحتاج جهات تعرض هذا الانتاج الفكرى غير الهين والذى يكون به الكثير من عمق الفكر وعمق الرؤى الفنية، نحتاج مهرجانات للهواة فقط يقتصر دخولها على أفلام الهواة المستقلين فقط، المهرجانات التي نقوم بتنظيمها أو المشاركة فيها لا يدخل فيها عناصر أكاديمية مثل المعهد العالى للسينما أو جهات انتاج معروفة مثل قطاع النيل أو شركات معاهد فنية اخرى.

ويواصل ناجي العلي شرح تطلعات جيلة عن الفيلم المستقل (الرقمي): "ليس غريباً أن نكون اصحاب المبادرة فى إعادة تعريف السينما فى قواميس الفن، وإننا قادرين على أن نغير تعريف الكثير من المصطلحات المتعلقة بالكاميرا أو بعمليات صنع الفيلم حيث أنه لن يعود مجموعة من الصور المتتابعة المطبوعة على شريط من مقاس معين.. الفيلم سيصبح مجموعة أرقام ثنائية، سينتهى زمن لفافات الأشرطة الحساسة جداً والتي ينبغي التعامل معها بحذر، سينتهى زمن التحميض والبوزيتيف والنيجاتيف وبكرة الفيلم الثقيلة التي يصعب حملها، والمونتاج لن يكون في أجهزة ضخمة خاصة بالمونتاج بل في جهاز كمبيوتر عادي، ستنتهى شاشات القماش ليحل محلها شاشات (ال سى دى العملاقة)، سنحقق أحلام أجيال تحطم حلمها على صخرة الفيلم الـ 35 مللى باهظ التكاليف.

اما عن إبداع القصة القصيرة جدا فمازالت هناك محاولات على استحياء متفرقة من بعض الأدباء في الوطن العربي، وخاصة في سورية بل إن الكتاب الوحيد الذي عالجها هو لكاتب سوري – أحمد جاسم الحسين (القصة القصيرة جدًا، دار عكرمة دمشق، 1997)، وثمة كتاب آخرون في فلسطين والأردن والمغرب يصدرون المجموعات القصصية التي يعرّفونها بأنها قصص قصيرة جدًا، لكن أبرز أو أنشط ما ظهرت به هذه القصة فهو في مواقع الشبكة الألكترونية الكثيرة، وأذكر منها موقع " دروب " الذي نشر لأكثر من أربعين قاصًا في هذا النوع.

لم تكن القصة القصيرة جدا جديدة، بل كتبها من قبل انطون تشيخوف ونجيب محفوظ ومحمد المخزنجي، لكن تزايد انتاجها في الوقت الحالي؛ بسبب سرعة ايقاع الحياة ومتطلباتها، جعل وكأنها فن مستحدث.

ويقول الكاتب المغربي (حسن برطال): علاقــتي بالـقصة الـقـصيرة جـدا ليســت حالة بقدر ماهي ثمرة إبـداع ولتراكمات باطنية منه الفطري ومنه الموروث، فهي خليط من الإيقاع الشعري وحدث الحـكي وزمن السرد، والفرق بين (القصة القصيرة) و(القصة القصيرة جدا) ليس على مستوى الشكل فحسب لكن الجانب الإبداعي له أهميته، لأن فـي نظري (القـصة القصيـرة جـدا) هـي الأحسن خلقا والأشد رحمـة ورأفة بالمتلقــي، بشــوشــة وقـت الإستـقبال بخفة ظــلها؛ تسرق ابتسامتك ب (فزورة أو نكتة) غير متشددة أو متسلطة زمنــيا.. جريئة ولها ســلــطة القرار.. فهي ترفض ما يملى عليها وتختار من المواضيع ما يناسبــها.. وأنــا واثـق بأن هــذا الجنس الأدبي سوف يزيد كتابة وقراءه، أما اختياري لكتابة (للقصة القصـيرة جدا) فكانت رغبة مني لأكــون الأقــرب إلى الواقــع المعيــش.

والكاتب القصصي الفلسطيني(فاروق مواسي) الصادر له مجموعة قصص قصيرة جدا بعنوان (مرايا وحكايا) يقول: من مقومات القصة القصيرة جدًا عنصر الإدهاش والإثارة، وكذلك الانطلاق من موقف فكري أو فلسفي، يُعرض في أسلوب موجز ومركز، وقد يكون هناك حدث أو أكثر أو لا يكون. يعبر الكاتب بلغته محترزًا من الحشو أو الفائض في النص، وينتقي الألفاظ التي تتشبع بمداراته وألوانه. وكثيرًا ما يُقدم هذا الموقف بلغة الإيحاء والترميز آنًا، وبالمفارقة آنًا، بروح الفكاهة والسخرية طورًا، وبالقفـلة الذكية غير المباشرة في نهاية النص طورًا آخر. إن هذا اللون قريب جدًا، بل يتماس أولاً مع القصة القصيرة التي يحاول أن يستقل عنها، وكذلك مع الخاطرة والنادرة التي ألفناها في أدبنا القديم. غير أن القصة القصيرة جدًا تكاد تتماهى مع القصيــِّدة النثرية بصورة ملموسة، فثمة فكرة طريفة غائمة، وهناك كائنات أو أصوات أو حركات تشي بدلالات وتصاديات. فالقصة القصيرة جدًا - في نماذج كثيرة - يمكن أن تُقرأ على أنها قصيدة نثرية، وذلك إذا رُتبت بأسطر أسوة بالشعر. فإذا لم تُـرتب، ولم تُعلم قصدية الكاتب فإن تعريفنا لها بأنها (نص) هو مخرج قد نلجأ إليه، وذلك بسبب صعوبة تحديد اللون الأدبي الذي نحصر النص فيه، خاصة وأن كل لون أو نوع فيه من التعريفات والتوصيفات ما يربك أكثر مما يجمع في إضمامة أو مجموعة.

ولهذا النوع الأدبي المستجد تسميات ومصطلحات عديدة مثل: القصة اللحظة، القصة البرقية، اللقطة، الومضة، الأقصوصة القصيرة، اللوحة القصصية، البايت قصة، وأسماء أخرى توحي بالسرعة القصر.

والتساؤل الذي يفرض نفسه ماهو مستقبل الإبداع القصير جدا، هل سيفرض نفسه على الساحة الثقافية في الوطن العربي؟ أم سيستسلم للأشكال التقليدية للإبداع، خاصة أنه مازال يواجه استنكارا من النقاد، وقلة اهتمام من قبل الشركات المنتجة ومؤسسات الدولة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى