ثقافة عراق ما بعد صدام
عدت أخيراً الى العراق بعد 12 عاماً وخمسة أشهر و13 يوماً في المنفى الإيراني المغلق، ودخلت من النقطة الحدودية ذاتها التي غادرت منها في آذار 1991. وإذا كان لجوئي الى إيران قد تم تحت وابل القصف المكثف يوم أراد علي حسن المجيد قمع ما تبقى من التمرد في البصرة، فإن ثمة قصفاً إيرانياً من لون آخر عجل بعودتي الى العراق ولم يتح لي إنهاء مهام عالقة أو إصطحاب زوجتي على الأقل. حيث مثلت في تموز الماضي ثلاث مرات أما لجنة تأديبية لأنني حليق اللحية ووجدت في ذلك بداية لفتح ملفي الحافل بكل ما يدعو الى التأديب!
ولكن من أي نقطة سأبدأ في العراق وأنا بمثابة زورق يسير بلا خرائط وبدون بوصلة؟ يوم غادرت البلاد لم أكن قد بلغت الحلم بعد ولا أمتلك سوى خطوط هلامية في ذاكرتي عن الواقع العراقي بالغ التعقيد. لكنني حين وصلت بغداد وجدت الأمر أسهل مما أتصور، فخارطتي الهلامية لم تحل دون اهتدائي الى مقهى الشابندر لأنه المعلم الأهم في سوق الكتاب في شارع المتنبي، حيث أخبرني بائع كتب بأن المقهى هذا يحتشد بأطياف الثقافة البغدادية صبيحة كل جمعة. قال لي الرجل أن هذا المكان هو البوابة الرئيسية التي يمكن من خلالها التوغل في عالم مثقفي العراق الملئ بالأسرار. يضيف: اضطرت الثقافة العراقية أن تتحول الى ثقافة أسرار نتيجة الضغط الهائل الذي تعرضت له عملية انتاج المعرفة، وهو ما يفسر القطائع والتوقفات التي شهدتها الحركة الفكرية العراقية.
حدثني الرجل عن الضغوط التي تعرض لها خلال توزيعه الكتاب فقط، حيث صودرت كتبه حين عثروا فيها على اصدارات شيعية، ثم صودرت ثانيةً لأن فيها كتباً سنية! الأغرب من هذا انها صودرت ثالثة لأن فيها كتباً تنتمي الى الثقافة الغربية وهي نموذج حضاري خصم يحاول زعزعة الصمود القومي! يقول صاحبنا انه اعتزل هذه المهنة يومئذ ومع أنه فكر في تجارة الورق، فإنه ظل يخشى الملاحقة ثانية بتهمة توزيع ورق يستخدم في كتابة أفكار محظورة. حدثني كثيراً عن تفاصيل قانون المراقبة الفظيعة والتي تتيح لرجال الأمن ابتزاز العاملين في سوق الكتاب بشكل يومي.
حين دخلت المقهى وجدت الإعلام الغربي يحرص على اكتشاف شيء من أسرار الثقافة العراقية بعد انطلاقتها الجديدة، ومحاولة تمثل العقل العراقي الراهن، فمراسلو الميديا الأوربية والآسيوية وغيرهم يتوزعون على زوايا المقهى ليحاور! وا هذا ويلتقطوا صورة لذاك أو يقوموا بتغطية النقاش المحتدم بين مختلف التيارات الفكرية في هذا المنتدى. خلال ترددي المتكرر لم أشاهد صحفياًعربياً أو إيرانياً يقترب من هذا الصخب الثقافي، تذكرت حينها أن هؤلاء يتوزعون على أماكن بعيدة عن مقهى الشابندر، كي يظهروا فجأةً ليتولوا تغطية ظاهرة الموت العراقي والإغتيالات والتفجيرات، طامحين في العثور على عقل عراقي لا يفقه سوى فلسفسة الدمار ومنطق اليأس. تأملت د.مالك المطلبي وهو يحرص على أخذ مكانة المحبب في المقهى، متفحصاً بضعة كتب استخرجها من بين تلال ورقية انتظمت على أرصفة الشارع، ويتحدث لصحفي عراقي سأله عن تصوراته لآفاق الثقافة العراقية بعد الإنفتاح الذي شهدته عقب انهيار النظام الشمولي، فوجدت أنه صورة لن تروق أبداً للميديا العروبية أو الإسلامية التي قدمت فنظازيا إعلامية للعراق لم أجد أثراً لها على الأرض بعد شهرين من عودتي الى الوطن.
أخبار النشاط الثقافي يجري تناقلها بين المثقفين الذين يجلسون في صفوف متراصة على أرائك كلاسيكية لم يتبق فيها أي فسحة لجليس آخر. وبينما كنت أتحسس رائحة دخان الأراكيل الملتصقة منذ عقود بجدران المقهى، مندهشاً بما! علق عليها من صور قديمة لبغداد يعود بعضها الى مائة عام مضت، أخبرني عادل عبد الله وهو محرر ثقافي في جريدة الصباح يدير المركز الثقافي العربي السويسري في بغداد، بأن المركز يستضيف مطلع الأسبوع أمسية شعرية تتضمن قراءات لخزعل الماجدي وعبد الرحمن طهمازي، وحين كنت أدون عنوان المركز، أملى علي د.حيدر سعيد مسؤول قسم الدراسات بدار المدى (مكتب بغداد) عنوان قاعة حوار، حيث ينظمون هناك مشغلاً سينمائياً للمخرج العراقي طارق هاشم. تتوالى الأخبار عن الندوات والأنشطة التي شهدها الأسبوع الماضي وتلك التي يجري الإعداد لها للأسبوع القادم... معارض تشكيلية في شارع المغرب، حلقة نقاشية حول سينما العراق في حي الوزيرية، ندوة حول الاتجاهات السياسية والفكرية بقاعة الاتحاد العام لأدباء العراق، ندوة حول قانون الاستثمار الجديد ومعطياته الاجتماعية والسياسية تنعقد بشارع ابي نؤاس، فنانون باشروا بعرض مسرحية للعراقي جواد الأسدي وهي مما كان محظوراً ايام العهد البائد، عدد جديد من المجلة العراقية قضايا اسلامية معاصرة وصل من بيروت وخصص محوره لالتباس مفهوم الليبرالية في معالجات الإسلاميين وفيه مقال مثير لهاني فحص قرأه أ! حد مرتادي المقهى ولم يجد فرقاً بينه وبين أطروحة علي عبد الرازق التي أخرجته من زمرة علماء الأزهر عام 1925، اتحاد أدباء البصرة أصدر العدد فوق الصفر من مجلة فنارات مع ان الاتحاد هذا لا يزال يقيم في مقهى قديم بساحة ام البروم، حفل توقيع كتاب جديد في قاعة الرباط... وسط كل هذه الجلبة يقف الشاعر عقيل علي الذي طالما حدثني عنه النقاد وأشادوا بنصوصه المتميزة، وهو يهذي ويصيح: كنت مرشحاً لنيل جائزة نوبل هذا العام لكنني رفضت ذلك لأسباب شخصية. لم أصدق أبداً انه عقيل علي نفسه إلا حين أكد امير الدراجي ذلك، لأنه بدا صعلوكاً يهذي بطريقة تثير الشفقة. ورغم انني كنت فرحا ًللغاية بالدراجي الذي التقيته اول مرة بعد علاقة وثيقة توطدت في مدن الانترنت، فإن منظر عقيل علي بوصفه صورة كاريكاتيرية لثقافة جرى سحقها في ظل الشموليات، جللني بغمامة حزن (او بُعاق مزمجرة) ظلت تلازمني عدة ايام.
حين تدخل دهاليز الشابندر التي باتت مفتوحة حالياً، تقف امامك الأسرار لتقودك نحو تراجيديا الثقافة العراقية والانتاج الفكري بعامة. جمال العميدي تعرض الى استجواب متكرر من قيادات حزبية في الجامعة حين قدم أطروحة نيل الماجستير ! حول (العلامة عند الجاحظ) لأنها تقدم قراءة سيميائية جريئة لنصوص التراث العربي (يبدو ان حزب البعث يتعامل مع هذا التراث وكأنه ملك له، او كأن الجاحظ عضو في القيادة القطرية – فرع البصرة طبعاً!). حيدر سعيد المتخصص في الفيلولوجيا وقاسم محمد عباس المولع بنصوص المتصوفة وصاحب الكتب المحققة العديدة في هذا المجال، وسعيد عبد الهادي الذي امضى الاعوام الاخيرة في السجن، وغيرهم كثيرون ، يقومون بسرد سجل حافل بالمآسي التي تعرضوا لها او تعرض لها آخرون بسب نص او فكرة او اطروحة جامعية حاولت ان تجتهد للتوصل الى فكر موضوعي مستقل. اصغيت لهم باهتمام وهم يتحدثون عن الجهد الكبير الذي بذلوه في ظروف تدعوا الى اعتزال كل شيء ، اصراراً على مواصلة الفعل الثقافي ولمواكبة الجديد في الثقافة العالمية وملاحقة الاصدارات الهامة، ويشرحون لي تلك الأساليب التي لا يمكن ان تخطر على بال مترفين تنام آلاف الكتب على رفوفهم او في رفوف قريبة منهم دون ان يثيرهم فضول للمسها، حينئذ تذكرت حواراً أجرته انعام كججي قبل نحو عام ، مع على بدر صاحب رواية بابا سارتر ، حيث تحدث هناك عن الحركة الحثيثة للمثقف العراقي في الزمن الصعب. كان هذا! الحوار قد اثار استغراب من اعرفهم من مثقفي المنفى، اذ كانوا يتصورون ان مجمل الواقع المأساوي في العراق اتى على هذا المستوى من النشاط الفكري . قال لي حيدر سعيد: ان علي بدر جزء من حلقتنا النقدية التي كافحت مع سواها من اجل ثقافة عراقية تلبي قدراً من الطموح . سألني صديق قادم من المنفى معبراً عن دهشته: ما هو السر في ثراء الصفحات الثقافية ورصانتها في جريدة (كذا) البغدادية الصادرة حديثاً ؟ حدثته عن هؤلاء الشباب ونمط ثقافتهم والعدة الفكرية التي يمتلكونها، وأن الصفحات التي يعنيها هي من إعداد هؤلاء وتحريرهم. حين أمضيت فيما بعد وقتاً اطول مع هذا (الفريق الثقافي) واكتشفت نظائر له مصغياً باهتمام الى طموحاتهم ومشاريعهم الحالية، ادركت ان التسعينات وأعوام المحنة انتجت جيلاً بالغ الاهمية بدأ ياخذ مكانة متميزة في الفكر العراقي المعاصر. انهم حقاً عنقود للتنوير العراقي، على حد تعبير الصديق الدكتور رسول محمد رسول الذي بعثت له خطاباً أعبر فيه عن حماس تملكني وأنا اكتشف رصيد الثقافة العراقية داخل دهاليزها المليئة بالاسرار، فأجابني بأنه على معرفة وثيقة ببعض الاسماء التي ذكرت وأنها الحبات الأشهى في ذل! ك العنقود.
عدت لزيارة ما تبقى من الاحباب في البصرة ، وكنت في زيارتي الاولى قد رأيت صحافة بصرية هزيلة كتلك المشاريع الاعلامية الكثيرة التي ظهرت في العراق مؤخراً على اساس وجود تمويل حزبي او جهوي وحسب دون الحرص على خبرة مهنية . بيد انني عثرت هذه المرة على صحيفة لفتت انتباهي اسمها (المنارة) ذات تصميم انيق وعناوين تحكي خبرة واضعيها ومستواهم الممتاز. لاحظت فيها مقالاً يحاول قراءة التطرف الديني في العراق ومحاولات اللعب بالورقة العقيدية، وآخر عن المجتمع البطريركي وغيرها من النصوص التي اثارت اعجابي بأسلوبها الرصين وطريقة تناولها المحترفة. وجدت فيها اسم طالب عبد العزيز وتذكرت ان الصديق جمال جمعة حدثني عنه ، مما شجعني على زيارة مؤسسة صوت الجنوب التي تصدر الصحيفة. اخذت معي عبد الرزاق الجبران رئيس تحرير مجلة الوعي المعاصر والكاتب حميد الرومي، فوجدنا ورشة عمل كبيرة تضج بجهد دائب. لم ألتق طالب عبد العزيز لكن مدير التحرير د. لؤي حمزة عباس استقبلنا بحفاوة بالغة. عرفت انه متخصص في نقد النظم السردية وتحليل الخطاب الشفاهي ، وراح يحدثنا عن امور جيله الفكرية مشتكياً من سطوة الشعر على الثقافة ! في العراق خلال العقود الاخيرة ، وطموحه في تعزيز مكانة الفكر لمحاولة اكتشاف العقل العراقي (العربي الاسلامي) من خلال تفحص سياقات التلقي وتحليل مرويات شفاهية تأسست عليها مقولاته.
عرفت فيما بعد ان هذا الفتى البصري جزء من (الفريق التنويري) الذي التقيته في بغداد، وأدركت حينها ان لدى الثقافة العراقي الكثير لتقوله، بعيداً عن مشاريع متطفلة تحاول الهيمنة على الواجهات الثقافية، فيما تمثل حالة طارئة بدأت تتوارى تدريجياً مع تنامي الاستقرار في البلاد وتزايد مستوى الوضوح في الرؤية وتلاشي غبار المعارك. من المؤكد ان الطاقات هذه بحاجة الى مراكز ابحاث ودوريات فكرية جادة لم تظهر بعد ، ليمكن استثمار مؤهلاتهم المتميزة في صياغة الاسئلة النقدية وتقليص مساحة هائلة من اللامفكر فيه، أنشأها الحظر العام على كل شيء، فيما يتحالف الاقطاع السياسي والديني والعشائري على الاحتفاظ به. الأمر الذي سنقف عنده في مناسبة ثانية.
في طريق عودتي مساء، ركبت سيارة أجرة من الأعظمية ثم طلبت من السائق الودود للغاية، ان يتوقف قبل بلوغ محل سكناي. قطعت ما تبقى مشياً على الأقدام، بدأ حظر التجول والسيارات لا تزال تتحرك في شارع! غير مزدحم. لم يعنفني رتل عسكري مر بقربي لأنني خرقت حظر التجول، ولم يصادفني لص او قاطع طريق، رحت أفكر ملياً بالحرية التي أتاحت لهؤلاء المثقفين ان يفكروا بصوت عال جداً يمتد صخبه لينال من الجميع ابتداءً من بول بريمر ومجلس الحكم وانتهاء بعمال البلدية (الكسالى)! تساءلت حول بلدان قريبة تنعم بالاستقلال و"والسيادة " وتحظى " بحكومات شرعية" : ترى هل توفر لمواطنيها ومثقفيها بشكل خاص، واحداً بالمائة من هذه الحرية؟ ألسنا مطالبين اليوم ببلورة مفهوم جديد للاستقلال خارج ثنائية (المستعمر، المستقل) يعيد بناء المفاهيم ويكشف مفارقة الدلالة التي حولت الاستقلال الى مجرد خط مائل الى الحمرة يطوق البلد ويتيح للحاكم ان يفعل في إطاره ما يحلو له مستتراً وراء عتمة مستقلة؟ حاولت تناسي الآخرين كي أتأمل بشكل أفضل مزاج ثقافة عراقية أصرت على البقاء وراحت تحكي قصة إرادة الإنسان، باحثة عن فردانيتها في وجه الاجتياح الشمولي لذوي المقولات المستهلكة... أتأمل في منعطف خفي مرت به الثقافة العراقية أدى الى استثمار المناهج النقدية أخيراً في مداها الرحب، بعد ان كانت حتى وقت قريب مختزلة ضمن النقد العراقي الأدبي المجرد عن هموم الفكر. أتأمل تفكيكيين وفيلولوجيين وسيميائيين عراقيين كثراً، يفتحون العقل الإسلامي ليبحثوا بين تلافيفه العتيقة عن جينالوجيا المآزق التي باتت بحاجة الى الفضح، كخطوة أولى على طريق التغيير. وأخيراً أتأمل بغداد مضيئة بعد عودة انتاج الطاقة الى مستواه السابق.
عن موقع ايلاف
مشاركة منتدى
9 تشرين الثاني (نوفمبر) 2003, 12:29, بقلم بهات حسيب القره داخي / كاتب وصحفي كوردي / سكرتير نادي القلم في اقليم (…)
مااجمل وما اروع ماكتبت يا سيدي ( سرمد الطائي ) !!
انك فعلا من المثقفين الذين يحتاجهم الوطن والشعب , فكفانا شعاراتا زائفة وصياحا وخطبا رنانة جوفاء لاينتمي اصحابها لا لهذا العصر ولا لدائرة العقل والأنسانية ! فما ابتلي شعب مثلماابتلي الشعب العراقي على مدى عصور بخداع الكلمات واللعب بالألفاظ من قبل الحكام والساسة وبائعي الأقلام والضمير !!
ان ما عبرت عنه في مقالك الجميل والقوي (ثقافة عراق مابعد صدام)لهو حقا مايختلج في نفوس اللآلاف من المثقفين العراقيين , ونفوس الملايين من ابناء العراق عربا وكوردا واقلياتا اخرى !
شكرا لك ولجرئتك !
7 كانون الأول (ديسمبر) 2009, 10:56, بقلم علي البغدادي
اخي الحديث عن الماضي بحاجه الى النقد العلمي وليس استعراض اسماء وتلفقيق مواقف تتضخم باقي الاسماءليس هولاء شاركوا في تكريد الثقافه العراقية او في دعم احزاب شمولية عاملين ومروجين انت وصفت جزء من الحقيقة وختلقت الباقي منها تحياتي بغداد