الجمعة ١٥ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٦

جبران خليل جبران وماري هاسكل: حكاية وصل لم تكتمل

محاولة من علم النفس للإجابة على سؤال: لماذا يحب الرجال نساء أكبر منهم؟

«التحليل النفسي للحب الأموي (حب الرجال لنساء اكبر منهم)»، كتاب جديد صدر للباحث سمير عبده في موضوع مشوق قلما تطرقت له الاصدارات العربية من قبل، ويعالج فيه الباحث هذا الموضوع بالسرد والتحليل النفسي لاسباب ونتائج مثل هذه العلاقة بين المشاهير.

والنماذج التي اختارها الباحث، كثيرة، تجمع بين اصحابها الشهرة الادبية والفنية وهي: جبران خليل جبران وماري هاسكل، واليس وريموند والشيطان في الجسد، وجورج صاند وعشاقها، وغوستاف فلوبير ومدام شلزنجر، واديث بياف وتيو سارابو، وبيرينيس وتيتوس ودزرائيلي وماري، آن ليدي وندهام، والامبراطورة كاترين وبلاتوزوبوف، وريتشارد فاغنر وينا بلانر، وجان جاك روسو ومدام دوفواران، وشكسبير وآن هاثواي.

الكتاب يقع في 126 صفحة من القطع المتوسط، وصادر عن دار الهيثم في دمشق، وقد اختارت «الشرق الأوسط» من الفصل المتعلق بالاديب اللبناني جبران خليل جبران والاميركية ماري هاسكل، ما يسلط الاضواء على مثل هذه العلاقة.

ولد جبران خليل جبران في بشري من قرى لبنان عام 1883، وتوفي في نيويورك عام 1931، كان والده انسانا بسيطا. تزوجت والدته ثلاث مرات وكان جبران من حصيلة الزواج الاخير مع ابنتين هما مريانا وسلطانة.

في عام 1894 هاجرت الوالدة مع اولادها الى بوسطن، وهناك تابع تعليمه في مدرسة للغرباء وبرز تفوقه في الرسم، الى ان التقى عام 1904 في متحف (داي) بماري هاسكل التي فتحت له الطريق لعرض رسومه في مدرستها.

وماري هاسكل، كما يعرف كل من اطلع على حياة جبران، هي المرأة التي كان لها شأن في حياته ولم يكن لسواها ـ على الاقل ـ من حيث طول الزمن الذي عرفته فيه والعون الذي اسدته له، فهي التي عرفته منذ عامه الحادي والعشرين وظلت صديقته حتى وفاته، وهي التي امدته بالمال ليذهب الى باريس وليصرف الفترة التي صرفها فيها يدرس الفن ويكون مستقبل حياته الفني والادبي والفكري، وهي التي طلب اليها الزواج (ولم تستجب الى طلبه)، وهي التي اوصى لها بما في محترفه من صور وكتب وقطع فنية وآثار.

لم تكن ماري، ابنة البلد الذي وفد عليه جبران وابنة اللغة التي راح يكتشف مجاهلها، والتي تكبره بعشر سنوات، مجرد عون له، خلقيا وماليا وعمليا وفي سائر الشؤون الصغيرة التي كان بوسعها ان تمد له فيها يد العون، لكنها كانت ايضا، وفي الوقت ذاته، التلميذة الوفية له، والحوارية المؤمنة به باخلاص، والمشجعة له على الدوام بكل ما اوتيت من سبل.

ولعل الصورة التي ارتسمت في اذهان اجيال القراء لماري هاسكل هي لحد كبير الصورة التي رسمها لها ميخائيل نعيمة في كتابه. فقد كانت في الحادية والثلاثين من العمر حين تعرف جبران عليها وهو في الحادية والعشرين.. امرأة اميركية بعيدة عن كل امارات الجمال والاغراء والجاذبية والاناقة، حتى ان فليكس فارس يستهجن وصف نعيمة لها فيقول: «اذا نحن اخذنا بوصف المؤلف لماري نتمثلها امرأة مشوهة الخلق، لا حواجب ولا اهداب لها، مستطيلة الانف، فلجاء، صدرها ضيق وكتفاها عاليتان تمتد منهما ذراعان طويلتان تنتهيان بكتفين طولهما ضعف عرضهما، ركبت فيهما انامل عظمها اوفر من لحمها».

ومع ذلك فقد اعجب جبران بماري منذ رآها لاول مرة في عام 1904 في الصالة التي كان يعرض فيها رسومه، حيث دعته الى المدرسة، وتتالت زياراته لها، وهناك عرفته الى شارلوت وميشلين. ومنذ اليوم الاول الذي التقته فيه، آمنت به وبعمله. فيما بعد اخذت ترى ان هذه الثقة النهائية به ليست منبعثة عن ايمانها به ليس الا، لكنها منبعثة بالدرجة الاولى عن معرفتها له. كل ما يقوله لها فهو صدق، وكل آرائه حق وصواب.. انها التلميذة الحقة، تلتقط الحبوب والبذور دوما من فتاته ـ لكنها لا تكتفي بذلك: بل هي تضع البذور والحبوب لكي ينميها هو فتلتقطها هي، انها تقتبس كل ما يقوله، وعندما لا يقول تروح تلاحقه بالاسئلة الى ان يقول كل شيء عن هذا الموضوع او ذاك، فتسجل اقواله بأمانة وبايمان. وهي لا تقتصر في وصفها على آرائه وافكاره، وعلى رسومه التي تذكر شرحه لها مرحلة مرحلة، بل تصف كل ما يتعلق به: تصف نوع قراءته، وتصوره وكيف يرسم، وكيف يتحرك، وكيف يبتسم، وينكت، ويحمل عصاه، ويأكل، تصف تهذيبه وعاداته، وساعات عمله، وطريقة عمله، والصعودات والهبوطات في صحته، وملابسه، وكمية اكله ونوع اكله، وقلة نومه، وكلامه وصوته ونبرته، وطريقة جلوسه وهو يكتب، وعجزه عن الاسترخاء والراحة، وهي تقرأ شخصيته وتطوره من خطه ومن امارات وجهه.

كتبت له في عام 1912: (اريدك ان تكون اي شيء تساق انت او تضطر ان تكونه. وان سمعت غدا انك ذهبت الى لبنان لتقود حياة بلا ريشة ومن غير قلم، فإني اعتقد ان شعوري الرئيسي سيكون! كم كانت زحمة تلك الحياة التي اعادت تفسير الاشياء لك بهذا الشكل ـ وسأجد نبضات قلبك حلوة وطبيعية على الجس عندما اخترت الصمت في سورية كما كانت عندما اخترت النطق في نيويورك. ان غدك عزيز علي كما هو يومك ـ لكن ليست لي رغبة في التنبؤ عن مستقبلك ـ كل ما ارغب فيه هو ان اكتشفك. لا، ليس بوسعك ان تخيب أملي ـ مثلما ليس بوسع اية حقيقة اخرى ان تخيب أمل».

ونجد ماري تقوم على الدوام بدور المرشد، وتسدي اليه النصائح المختلفة. فاذا ما مرض (1912) رتبت له في الحال مشروع رحلة الى برمودا والجزر القريبة وحصلت له على جميع المعلومات عنها، واذا ما اراد (1915) شراء اسهم في شركات مالية كانت هي خبيره المالي. واذا ما قرر (1924) ان يشتري حصصا في بناية لجأ اليها للمشورة. وهي تدبر له امر بروز صوره، وتكتب له عن دهان الشعر الذي ينبغي ان يستعمله، وتشدد له على اهمية الهواء النقي في الاستوديو، وتهديه اربطة العنق. اما جبران فيسأل ماري كيف تصاغ الوصية بشكل قانوني، بحيث يستطيع ان يسجل جميع صوره باسمها: (اذا مت، فإني لا اريد اي شخص آخر ان يلمس لوحاتي او ان يقول شيئا عنها، سواك انت. اريدها كلها ان تكون بين يديك. كيف افعل ذلك؟ وكيف اعمل لتسديد المال الذي قد استنفدته؟ لقد فكرت في الامر، واريد في حال موتي ان يصبح انتاجي كله ملكا لك. ولك ان تقرري ما تشائين، ومما تحصلينه منها تقتطعين الاموال التي صرفتها انا. واذا شئت في اي وقت فيما بعد ان تبقي ايا منها، فالامر لك). ويؤكد لها في (1917) ان جميع صوره تحت تصرفها، وان اية قطعة منها تريد اقتناءها فهي لها في الحال بدون مقابل ـ ويعطيها لوحة كانت قد اعجبتها بشكل خاص، ويرفقها بلوحة اخرى وبرسمين مائيين.

ان من النادر ان نجد علاقة قامت بين رجل وامرأة ـ خاصة انها تكبره في السن عشر سنوات ـ بهذا الشكل فاذا كانت ماري ساعدت جبران في فنه ورسومه فإنها لم تبخل عليه في ميدان الكتابة. فكتبه واعماله الانجليزية العديدة لم تكن تصل ايدي الناشرين او محرري المجلات قط قبل ان تمر على يديها هي. كانت بداية ذلك يوم كانت (1911) تصحح له رسائله الانجليزية، وتطورت الى تصحيح كتاباته الادبية، مبتدئة (1914) بمقاطع من (المجنون) ومتدرجة بعده من كتاب لكتاب.

ويقول لها ذات مرة في (1917) انه تتلمذ عليها، انه طالب في مدرستها. والواقع انه لم يغفل قط عن الاعتراف بجميلها عليه وعن اعلانه بما لا يترك ادنى لبس (انت اعطيتني هذه اليد)، (1911)، انك تجعلين تفكيري ادفأ واصفى (1911)، لا ابدأ عملا حقا بدونك (1911)، (أنت أم هذا الكتاب) ـ (الأجنحة المتكسرة) ـ (1911)، انت تنيرين لي ابهى الاصقاع فيّ، ومع سواك لا افعل اكثر من ان اتلعثم (1914)، انت عارضتي، ووكيلتي، ومحررتي (1914)، لولاك لما كتبت (المجنون)، (1914)، (أنا أؤمن بك للحد الذي أؤمن فيه بنفسي، ولا اريد ان افعل شيئا لوحدي)، (1914)، يستحيل تماما ان اعمل شيئا بدونك (1915)، ليالي الخلق التي عرفناها معا جعلتني واعيا الله (1915)، (انك تعرفين النفس وهي تجتاز طور الحمل وطور الولادة)، (1916)، لا اعمل على كتاباتي مع اي شخص آخر (1918)، (لم يكن بوسع احد ان يكتب «النبي» بدونك انت)، (1923).

وفي رسالة له موجهة لماري يقول: (لقد اصبحت فنانا بفضل ماري هاسكل). ورغم مبالغاته في العادة، الا ان ما قاله لها في (1913) كان صحيحا وكانت صحته ستتضح وتثبت اكثر فيما بعد (لقد اعطيتني الحياة، بمعنى حرفي، لأني اعتقد اني كنت لاموت لو لم اتمكن من تحقيق هذا الانتاج).

لقد احب جبران اثنتي عشرة امرأة في حياته من بينهم تسع نساء كن يكبرنه سنا، وهن، تسلسلا زمنيا، كما يلي:

1 ـ حلا ضاهر (تكبره بسنتين) ـ عرفها عام 1899 .

2 ـ سلطانة تابت (تكبره بـ 15 سنة).

3 ـ جوزفين بيبوديه (تكبره بـ 8 سنوات).

4 ـ ميشلين (من عمره او تزيد اشهرا).

5 ـ شارلوت تيلر (بسنتين).

6 ـ ماري هاسكل (عشر سنوات) وكانت اطول منه: هو 163 سنم، وهي 176 سنم.

7 ـ ماري قهوجي (اربع سنوات).

8 ـ ماري خوري (تسع سنوات).

9 ـ مي زيادة (اصغر منه).

10 ـ كورين روزفلت (ثلاث سنوات) وهي اخت الرئيس الاميركي.

11 ـ مسز ماسون (اصغر منه) وهي كانت لفترة موديله.

12 ـ بربارة يونغ (اصغر منه).

ان نساء جبران كثيرات، حتى ان ماري هاسكل لا تستغرب ان تحبه النساء، لأنها ترى (1913) انه يمثل لكل امرأة انطلاقها. وتقول له (1915) ان توجيه النساء لرغباتهن صوبه هو شيء طبيعي، وانها لا تحتقر النساء لأجله ـ وانه يجب الا يقلق هو (اذا كانت مبيضات امرأة ما تزعجها، واسمح لي ان اتكلم بصراحة) قال خليل: يسرني ان اسمعك تقولين ذلك. ومع هذا فهو يؤكد ان ليست له من صديقة سواها هي (1914).

والآن لنا ان نتساءل كيف احتلت ماري هذه المكانة لدى جبران خليل جبران؟

كانت ماري تسمي جبران طفلها، وكانت ترفع اللقمة عن فمها لتعطيها له ولسواه، وانها من محبتها تعطي لا من الفائض عنها (ألست تضحين تضحية كبيرة كيما اتمكن من البقاء في باريس) يسألها في رسالة (1909).

وفي ظل هكذا علاقة بين اثنين لماذا لم تنته الى الزواج؟

ـ البعض عد هذه العلاقة بين محسنة وفنان موهوب وينكر ان عرض الزواج قد حصل اطلاقا.

والبعض (ميخائيل نعيمة) يقول: ان جبران كان في علاقته مع ماري يرغب في استمرار الضمان المالي لا الحب الصحيح.

ويأتي البعض الثالث فيقول: ان جبران لم يعرض الزواج على الآنسة هاسكل الا عندما كان قد اضحى رجلا ثريا، وقصده ان يترك لها جميع ممتلكاته عربون شكر لافضالها السابقة عليه.

والواقع ان الرسائل المتبادلة بين جبران وهاسكل تلقي الضوء على ذلك. فبعد عودة جبران من باريس في خريف 1910، وبعد سبعة اسابيع من ذلك في 10 ديسمبر (كانون الاول) 1910، يذهب جبران وماري الى احد المتاحف، ثم يقضي العشية عندها ـ تقول: (قال لي انه يحبني وانه سيتزوجني اذا امكنه ذلك، لكني قلت له: ان عمري يجعل ذلك غير موضوع بحث. قال: يا ماري.. كل مرة احاول فيها الاقتراب منك اكثر بما اقوله، واحاول ان اصبح شخصيا الى اي حد، فانك تطيرين عني الى ارجاء قاصية لا يمكن الوصول اليها. قلت: لكني آخذك معي. وقلت اني اود جدا ان احتفظ بالصداقة الدائمة بيننا، واني اخشى ان نضحي بصداقة جيدة من اجل علاقة حب سقيمة. حدث هذا بعد ان اوضح خليل، ما الذي كان يقصده). غير ان القصة لا تنتهي على هذه الشاكلة. فالظاهر ان جبران لم يتوقف عن السعي لاقناعها، فنراها تلجأ الى طريقة مبتكرة: تجمع كل ما تيسر لها جمعه من صور قديمة لها، (وبعضها مرعب مخيف)، وتعرضها على جبران (كيما ابعث فيه نفورا مني). لكن الخطة لا تنجح، فجبران يتلذذ برؤية هذه الصور، ولا تفعل فيه المفعول الذي ارادته هي. كانت ماري حين تفكر في نفسها بأنها ستتزوج جبران في يوم من الايام، تشعر شعورا قويا بأنها مخطئة ـ كيف ان عمرها يقف حاجزا لا يمكن تخطيه، وكيف انها (بالرغم مما فيّ من شباب وقوة سأبدأ قريبا في طريق النزل، في حين انه سيبقى لوقت طويل في صعود وتسلق) ـ كيف انه (ما زال لم ينضج بعد، وما زال نتاجه الافضل وحبه الافضل امامه، وانهما سيأتيان معا، غير اني لن استطيع ان اكون تلك المرأة ـ كيف انه اذا كان مرتبطا بي عندما يجيء هذا الحب الجديد، فإن كل ما هو نبيل وفروسي فيه سيصرخ ناقما عليّ)، الى آخره الى آخره.

ويتضح من الرسائل المتبادلة بين جبران وماري ان اية علاقة جسدية حميمية بينهما كانت علاقة محدودة جزئية لم تصل ذروتها الطبيعية قط، وان الطرف منها الذي كان مسؤولا عن ابقائها محدودة جزئية وعن صدها في الوصول الى حيث كان مقدرا لها ان تصل انما كان هو جبران لا ماري.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى