الأحد ٣٠ آذار (مارس) ٢٠٢٥

جمالية البيئة في روايات صبحي فحماوي

نعمان ثابت

يتميز بناء الشخصيات في روايات (صبحي فحماوي) بخصوصية بارزة تندمج في الفضاء العام للرواية، إذ نجد أنَّ الشخصيات تكتسب حضورها من خلال علاقتها بالبيئة، وانتمائها لعالم الطبيعة والريف، ومن المؤكد أنَّ موقفنا من الطبيعة هو انعكاس لموقفنا من الإنسان، ولذا فالبحث في موقف كاتب ما من الطبيعة يكشف لنا موقفه من الإنسان ويوضح لنا صورة الإنسان الكامنة في أعماقه.

لقد حفلت روايات (فحماوي) بكم هائل من الشخصيات كانت على وعي تام بالبيئة ومشاكلها، وذلك لأنها ارتبطت برؤية بيئية مؤثرة في رسم المشهد الجمالي للرواية، ومنها: الراوي (عماد المنذر) في (رواية عذبة)، و(الأستاذ مهران و ثريا) في رواية (الحب في زمن العولمة)، و(شهرزاد) في رواية (الأرملة السوداء)، و(اخناتون ونيفرتيتي) في رواية (اخناتون ونيفرتيتي الكنعانية)، والراوي (المهندس مشهور، وبرهان، كنعان الأخضر) في رواية (الإسكندرية 2050)، والراوي (جمال قاسم) في رواية (صديقي اليهودية)، و (بلقيس، وأبو عطا حنجل) في رواية (سروال بلقيس)، والراوي في رواية (على باب الهوى)، و(أبو مهيوب) في رواية (حرمتان ومحرم)، والكثير من الشخصيات وخصوصاً الشخصيات الأوربية التي جاءت على مستوى عالٍ من الوعي البيئي.

ولقد جاءت أوصاف هذه الشخصيات متفاوتة من حيث التدقيق في رسم هيئاتها، ولكن في الغالب تحمل هذه الشخصيات وعياً تاماً بالبيئة وقضاياها والإحساس بجمالها، والاشتراك في حب الطبيعة، والحرص على التواصل مع المحيط البيئي.

في المقابل جاءت الشخصيات النقيضة لتلك الشخصيات المسكونة بالهم البيئي، متمثلة في شخصية (الإمبراطور، والصياد تامي) في رواية (اخناتون ونيفرتيتي الكنعانية)، و(سائد الشواوي، والمستر رالف وود) في رواية (الحب في زمن العولمة)، و(جنود الاحتلال الصهيوني، ولجنة الأمم المتحدة) في رواية (حرمتان ومحرم)، و (أبو الزنديق) في رواية (سروال بلقيس)، وشخصية (توني) في رواية (على باب الهوى)، وغيرها الكثير في عينة الدراسة، وقد جاءت أوصافهم تشي بالسطحية، والأنانية، والجشع، وحب السلطة والمال، وعدم المبالاة بالطبيعة ومنظومتها البيئية.

عندما نتأمل الشخصيات الروائية في المنجز السردي لـ(فحماوي) نجدها لا تحقق ذاتها من خلال أدوارها الاجتماعية والوطنية فحسب، بل تحققها من خلال علاقتها بالبيئة والإحساس بها، مثل شخصية (الأستاذ مهران، وثريا) في رواية (الحب في زمن العولمة)، لقد عمد الروائي إلى اختيار أسماء ذات مضمرات ثقافية وبيئية عميقة، سواء أكانت قد اختيرت بوعي أم من دون وعي، فجاء اسم (ثريا) يحمل معنى الكواكب()، فكانت مطابقة للدلالة البيئية، وكذلك اسم (مهران) مشتق من المهر ولد الفرس()، فكلا الاسمين يحمل دلالات بيئية، وقد أفاض الكاتب في وصف شخصية (ثريا) التي تمتاز بالطيبة والمودّة، ومنها ما جاء بالرواية على لسان الراوي "ثريا فتاة لطيفة ودودة مجاملة، لبقة التَّصرُّف، بهية الطلعة، وجهها الحنطي اللون، بيضوي الشكل، وشفتاها المكتنزتان إثارة أخاذة! وخصرها النحيل، يمنحها رشاقة وخفة... وحذائها الرياضي يوحي بخفة حركتها، بأن روحها رياضية"(). يرسم الكاتب من خلال هذه الصفات الشخصية الروائية التي تتلاءم مع أفعالها ورؤاها البيئية، ونفورها من العالم الحديث، وما آلت إليه المجتمعات بعد عصر العولمة، ويتبدى ذلك للقارئ بعد الحوار الذي دار بينها وبين والدتها، عندما وصل إليها خبر إصابة والدها بمرض الإيدز، فتقول: "أ إلى هذا الحد انتشرت فيروسات الجنس القذر، وتلوث الحب، وانتشرت فيروسات الكمبيوتر، وفيروسات انفلونزا الطيور، وفيروسات الإيبولا والهربس وغيرها، لتقضي على طموحات العالم، في غدٍ مشرق عزيز...! هل نجح العلم في تطوير الحياة، فتغلبت عليه أمراض العصر بتحقيق الموت؟ هل حققت الحياة للعالم كل هذه الصناعات والتجارة...، فأتت الآخر لهم بتلوث البيئة وثقب الأوزون، لتدمّر الأرض وما عليها؟"، فهذه التساؤلات التي تثيرها (ثريا) تنم عن وعيٍ تام بالمنظومة البيئية، والإحساس بما يحصل في العالم من تدهور للنظام البيئي، ليتضح اضطراب الخطاب الثقافي الإنساني رغم التطور الصناعي والتقدم العلمي، مما يؤكد انفصال الإنسان عن الطبيعة، نتيجة التبدل الذي حصل في منظومة القيم والأخلاق، وهذ جعلَ من (ثريا) شخصية مسكونة بالهم البيئي.

ونقرأ في الرواية أيضاً عن شخصية (ثريا) المسكونة بحب الطبيعة "أحب أن أرى الجبال والسهول خضراء مزهرةً ملونة، والينابيع تتدفق في وديانها، أحب أن أفرح، أن أمرح...".

تعد الاهتمامات النسوية بالبيئة مسألة فطرية، إذ كانت قضايا النسوية تتوازى مع نظرة الاضطهاد بأشكاله المختلفة للبيئة، مما أسهم في فهم الطبيعة والمشاكل البيئية المصاحبة لها، وكأن "البيئة والمرأة وجهان لعملة واحدة، لاشتراكهما غالباً في أزمات متقاربة، دامت في إطار الاضطهاد والتهميش من الهيمنة الذكورية أو الاستغلال بنوعيه المادي والمعنوي"().

وكذلك شخصية (الأستاذ مهران)، إنسان واقعي يمثل الإنسانية والصدق والإخلاص، فهو أيضاً شخصية واعية ونابهة لمحيطها الطبيعي، ومنها قوله: "ساق الله أيام زمان! يوم كنا نشرب من وادي الدفلة! جفت مياه الينابيع. ليست الأمطار وتلوث البيئة وثقب الأوزون فحسب، بل لأن المتنفذين ودافعي الرشاوي، حفروا آبار أرتوازية، وصلت إلى قاع الأرض، ونهبوا مياه المواطنين، الذين بقوا دون مياه، فاضطروا لشرب مياه المجاري والمصارف الزراعية"()، نلحظ أنَّ (مهران) ينزعج من استغلال المتنفذين وأصحاب الثروات للمياه الطبيعية، التي كانت نقية رقراقة قبل هيمنة الرأسمالية، وأصبحت قذرة بسبب التلوث الذي خلفته العولمة.

على ما يبدو أنَّ (الأستاذ مهران) لديه حسٌ بالمنظومة البيئية وما يجري لها من تخريب وتدمير بفعل هيمنة المادية على الإنسان الحديث، فهو يراقب العالم الطبيعي والتغيرات التي تؤثر فيه والانتهاكات البشرية له.

وفي رواية (أخناتون ونيفرتيتي الكنعانية)، تتجلى ملامح الشخصية من خلال وعيها البيئي من عدمه، فشخصية (اخناتون، ونيفرتيتي) هي من (الشخصيات الخضراء)() التي تعشق وتمجد الطبيعة، فأكسبها الكاتب هذا اللون البيئي الأثير، وذلك لأنها ارتبطت بأفعال بيئية كان لها الأثر في الحفاظ على البيئة ومحتوياتها، ونقرأ ما جاء في الرواية عن شخصية (أخناتون) التي تؤكد على حب الطبيعة: "إنَّ مظاهر الحياة هي أشياء مقدسة، كالناس والنباتات، والحيوانات، والطيور، والحشرات.. نعم والحشرات.. أليس النحل الذي يصنع العسل، من الحشرات.. وليس النحل وحده، بل جميع الحشرات.. وجميع الديدان ابتداء من ديدان القز التي تصنع الحرير، وحتى الديدان التي تهاجم محاصيلنا.. لا تستغربوا رأيي.. إنها تريد أن تعيش، كما نحن أيضاً... أريد في مملكتنا أن تعيش الكائنات الحية كلها متضامنة متكافلة، بأمان وسلام"، يُشير المقتطع أعلاه إلى أنَّ هذه الشخصية مسكونة بالهم البيئي، التي تبدي تعاطفاً رائعاً تجاه الحيوانات، وامتلاكها وعياً بيئياً وأخلاقياً، والأهم من ذلك كله يحمل نية صادقة لتربية الضمير البيئي. ونقرأ عنه أيضاً "وأنا شاب مسالم، لا أحب الحروب، ولا قتل الحيوانات الآمنة، ولا ذبح الأيائل، بل أحب أن أراها وهي تطارد في الغابة، أو في السهول الواسعة، تصوري يا أميرتي الصغيرة لو أننا أبقينا على الحيوانات البرية، ولم نأكل لحومها، لبقيت الطبيعة متكاملة بمكوناتها، ولصارت الحياة فيها أبهى وأجمل".

وكذلك الحال نفسه في شخصية (نيفرتيتي)، فهي شخصية محبة للحياة وللطبيعة، ونقرأ عنها "وهذا ما أراه أنا أيضاً، فالشمس بحد ذاتها هي التي تنمحنا الحياة، وهي التي تجعلنا نرى مواطن الجمال، ونحس بالمتعة التي نبحث عنها... أحب سماع حفيف الأشجار، وأن أجلس أتأمل تعدد ألوان أوراقها الصفراء والبرونزية والنحاسية"، لقد تميزت هاتان الشخصيتان بحب الطبيعة، والحرص على التواصل مع النباتات والحيوانات، فتتعامل مع عناصر البيئة بشيء من التقديس والتبجيل، فنجد هناك تفاعل بين (أخناتون، ونيفرتيتي) والطبيعة، بحيث نلمس بوضوح وجود وعي بالبيئة والإحساس بها، إذ تنصهر شخصيات الرواية مع عناصر البيئة الحية والجامدة في وحدة كلية تسقط الحدود بين البشر وغير البشر.

وخلافاً للروايات التي تمجد وتضفي الرومانسية على المشاهد الطبيعية من أجل التغزل بها وإبراز جمالها، فإنَّ سرد (فحماوي) غنيٌّ بصور البيئة الطبيعية التي جرى انتهاكها وإفسادها، ومظهرها القبيح ورائحتها الفاسدة، نتيجة الاستغلال المفرط للبيئة، وهذا ما يرصده الكاتب من خلال عيني (مهران)، فيقول: "تحولت مياه الوديان إلى مجاري، تصبغ العشب الأخضر، وأزهار النرجس والبنفسج، بألوان سموم الرّصاص والزرنيخ الرمادي، فكثيراً ما تجد أسماكاً تطفو ميِّتة على شواطئ السدود الآسنة، فيلتقطها الأولاد الخارجون عن الرقابة... لأنَّ الثعالب تعافها وترفض التهامها... وتدرك أنَّها ملوثة بكيماويات المنظفات، التي يدفع أصحاب مصانعها رشى ليُسمح لهم بتركها،... فمصنع الجلود يزيل شعر الغنم والماعز بالزرنيخ، كي تخرج منتوفة محفوفة، جاهزة لصناعة الأحذية والملابس والحقائب الجلديّة الفاخرة، كي تنعم النساء بجلودها الأصلية، وهناك تنساب سوائل الزرنيخ مع المجاري، فتلتقي ببقايا ينابع الوديان". في هذا المقطع السردي يندب (الأستاذ مهران) البيئة التي تعرضت إلى الأضرار، نتيجة الهيمنة الرأسمالية. ومن خلال ما تقدَّم إنَّ كلاً من شخصيتين (ثريا، والاستاذ مهران) يعرضان اهتمامات بيئية رائعة وغالباً ما تعبران عن إلزام منهما دفاعاً عن البيئة، ويكون عطفهما تجاه الطبيعة من القوة بحيث أنهما يضعان اهتماماتهما بالبيئة الطبيعية قبل اهتماماتهما الشخصية.

نعمان ثابت

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى