الأحد ٢١ شباط (فبراير) ٢٠١٠

جميلاتنا في شعرنا الجزائري

بلقاسم بن عبد الله

وهل تخلفت جميلاتنا المليحات عن موكب ثورتنا المجيدة، وإلى أي حد استطاع الأدب الجزائري أن يساير ويجسد ملاحم الشهداء والمجاهدين وهم يصنعون البطولات والنصر المبين؟.. تساؤل شرعي صادفني وصافحني في غمرة تخليد اليوم الوطني للشهيد، الذي يصادف 18 فيفري الجاري، وسرعان ما أشرقت وأزهرت بذهني أسماء جميلاتنا المليحات الفاطمات ودورهن في ثورتنا الخالدة. ثم امتدت يدي إلى كتابي الأنيق: في الأدب والثورة الذي نال جائزة وزارة الثقافة لسنة 1995، توقفت عند الصفحات الممتدة من 110 إلى 115 لأقرأ بصوت مسموع ومكتوب عن أثر وتأثير الجميلات المعذبات في الشعر الجزائري..

ساهمت الثورة في خلق إنسان جديد، سماته الصمود والشهامة والشجاعة، وحولت المرأة الجزائرية من مجرد ربة بيت، أو عاملة في مكتب أو معلمة في مدرسة، أو ممرضة في مستشفى، إلى رفيقة نضال وكفاح، تشارك الرجل ـ حسب طاقتهاـ في أرض المعركة جنبا إلى جنب، وتحولت من ليلى العاشقة أو المعشوقة إلى جميلة أو فاطمة المناضلة والمكافحة، تتعرض مثل رفيقها الرجل للسجن والتعذيب، والتنكيل والاستشهاد،لتظل رمز خصب النضال وإبداع النصر.

وقد عبر جل الشعراء وقتئذ ـ إن لم نقل كلهم- عن هذا التحول الكبير في حياة حواء الجزائر، فنقلوا إلينا مشاركتها الحميدة والفعالة في الكفاح التحريري وما تعرضت له من قمع واضطهاد، منوهين ببطولاتها، وقدرتها على التضحية والتحدي.

وقد سارع الشاعر محمد الصالح باوية في قصيدته "إنسانة الطريق" التي ضمنها مجموعة "أغنيات نضالية" إلى تصوير انتفاضة المرأة، وهي تحطم الأغلال لتمضي لحمل السلاح، مشجعا إياها على معانقة البندقية بين الروابي والحقول، حيت يقول:

لم تعودي خمرة للظلم ـ أختي ـ لم تعودي زفرة الكوخ الذليل

عانقي المدفع والريح فطفلي يرقب الثدي مع النصر الجمـيـل

أنت للمدفـع، للراية، للـثـأر.. هـنـا بـيـن الـروابـي والـحـقـول

أنت شلال رهيب وشروق يحضن البعث مع النصر الجمـيـل.

وقد ساهم اندماجها في قلب المعركة في رفع معنويات الثوار، وأكسبتهم الثقة في قرب ساعة النصر، ويجسد الشاعر أحمد عروة هذه المشاركة الفعالة في قصيدة "نشيد الثائرات" المنشورة بمجموعته "ذكرى وبشرى".

قلدتك الثورة الكبرى وسام الثائرات

ورأيناك تجوبـين الجـبـال الـشـاهـقـات

فشهدنا النصر خفاقا بأرض المعجزات.

والشاعر مفدي زكريا ينظم نشيد "بنت الجزائر" بسجن بربروس في شهر أوت 1956 كما يشير في ديوانه "اللهب المقدس" حيث يبرز أشكال ومجالات كفاح المرأة على لسانها، ومعاني ودلالات نضالها الذي حير الرجال.

في صفوف القتـال
أنـا ألهـب نــارا
من أعالي الجـبـال
أنا أدعو الـبـدارا
في معاني النضال
أنا كنت الـمـنـارا
وتـركـت الـرجـال
في جهادي حيارا

وساهمت الثورة التحريرية في تقييم واقع المرأة الجزائرية، فهي: مجاهدة، ومكافحة وفدائية وممرضة، إلى جانب إخوانها الثوار.. تتعرض مثلهم للاعتقال والتعذيب والتنكيل والاستشهاد.. فقد كانت الجميلات والفاطمات عنوان التحدي والصمود، ومطلع قصائد عدد من الشعراء هنا وهناك الذين بهرتهم بطولات الجميلات الثلاث... جميلة بوحيرد، وجميلة بوباشا، وجميلة بوعزة.

ولذلك لا عجب أن نجد شاعرا مثل صالح خرفي وقد وهب "حبه قربانا وبايع الجزائر... بعد أن أمسى الحب ثورة بين الحنايا، واستحال الورد شوكا ودما وضحايا" كما يقول في قصيدته "نداء الضمير" التي غنتها وردة الجزائرية من تلحين الأستاذ رياض السنباطي، في أوج أعوام الثورة.

هذا الشاعر يهزه إقدام المستعمر على إصدار حكم الإعدام على "جميلة" الذي ضمنه ديوانه "أطلس المعجزات" فيتمنى لها أن تموت على يد الجلادين، فاستشهادها نصر مبين لهذا الشعب المكافح، وويل وسكين للعدو المتغطرس.

حـيـة أنـت، فـديـت الـشـعـب، فـأفـديـه قـتـيـلـه
صرخة منـك عـلـى مـشـنـقـة الـظـلـم الـنـذيـلـة
سكـتـة مـنـك عـلـى مـقـصلـة الـغـدر الـذلـيـلـة
سـوف تـعـلي صرخات الشعـب في عـيـد الـبـطـولـة.

والشاعر أبو القاسم سعد الله يكتب وقتئذ قصيدة "حقل الزيتون" المنشور بمجموعة "ثائر وحب" ليحكي أسطورة فتاة وطنية واجهت الاستعمار لتصنع الحياة الجميلة الزاهرة، والمزدهرة.

يا غنوة حقلي
شدى الأوتار المرخية
واحكي للصخر وللنخل
أسطورة أنثى وطنية
عاشت في الحقل وللحقل
عصفورة حب رفرافة
نسجت للحقل أمانيه
وشدت للكون أغانيه
في رجة مدفع
في طعنة خنجر!

والشاعر صالح خباشة يطلق على جميلة المضطهدة اسم اللبؤة الجزائرية ليصدر قصيدته المنشورة بمجموعته "الروابي الحمر" منددا بوحشية المستعمرين الذين هاجوا وارتكبوا أكبر الفظائع، ولم تسلم حتى بناتنا من الحكم بالإعدام.. فأصبحت المرأة الجزائرية رمز الفداء والبطولة.

أصبحت يا بنت الجز ائر للبطو
لة والفدا عـلـمـا مـن الأعـلام
ورسمت للـبـنـت الأبـيـة لـوحـة
من مثلها عجزت يد الرسام
لا تيأسي فالفـجـر لاح ضـيـاؤه
أمع الـضـيـاء بـقـيـة لـظـلام !

وللشاعر محمد بلقاسم خمار قصيدة جميلة عن "جميلة" البطلة كتبها بدمشق يوم 6أوت 1959 وضمنها مجموعته "إرهاصات سرابية".. فهي عنده نضال وعزة وبطولة، وقد سجدت عند راحتيها الرجولة ..

يا جميـلـة ومـا عـهـد نـسـاك إلا
دعـوات لـلـجـهـاد جـمـيـلـة
لملمي الجرح فـالـنـهـار تـجـلـى
والربيع الندي أرض ظليله
لك من حـولـنـا رفـيـقـات عـهـد
جئن يحملن للعـلا أكـلـيـلـه
كل بنت منهن أمضى من السهم
و للحرب والفخار سلـيـلـه.

تلك هي ملامح وقسمات الجميلات والفاطمات، وقد تزينت بالشهامة والبطولة متحدية عذاب وتعذيب السجون والزنزانات.. وقد رسمت البطلة جميلة بوحيرد صورة لمعاناة زميلتها جميلة بوعزة في مقال لها نشر بمجلة " كل العرب" بتاريخ 7 نوفمبر 1984 حيث تقول عنها ".. لم تكن أقل جرأة عندما اختتمت محاكمتها بقولها: "أنا لست مجرمة وما فعلته إنما فعلته باعتباره مثلا أعلى" وتحملت بعد ذلك بهدوء وبرباطة جأش كالأخريات الإقامة في زنزانة المحكومين بالإعدام ".

إذا كان القهر الاستعماري لم يفرق بين هذا وذاك، بين تلك والأخريات، فإن الثورة التحريرية قد ضمت إلى صفوفها جميع الوطنيين المخلصين، من الرجال والنساء... حتى الأطفال ولدوا كبارا، وكان لهم إسهامهم حسب حدود طاقتهم .. لقد ساهمت كل أسرة جزائرية بنصيبيها في معركة التحرير فكان من بين أبنائها الشهداء والمعطوبون والمسجنون والمجاهدون الأبطال.

قد رسم معظم الشعراء الجزائريين بما يملكون من أدوات فنية متفاوتة من حيث درجة الجودة، نماذج حية من صور البطولة والشهامة والشهادة... بل أن أغلبية قصائدهم لا تخلو من التفاتة إلى مثل تلك الموضوعات التي وجدت لدى الشعراء الأرضية الخصبة، والمنبع الفياض، لأدبهم الثوري الذي يتجاوز حدود المناسبات العابرة، ليمتد إلى المواقف النضالية والإنسانية الصادقة.. وهل هناك أبلغ من السجن كمدرسة للثوار والمناضلين والوطنيين المخلصين..

وهكذا ظل السجن ميدان مقاومة وصمود، فرغم عذاب الزنزانات فقد استمر النضال مكملا لتأجج الكفاح... وقد وجد معظم الشعراء في موضوع السجن والمعتقلات التعذيب والتنكيل مادتهم الأساسية في كثير من قصائدهم النضالية.. ولعل أبلغ القصائد الثورية للشاعر مفدي زكريا هي التي نظمها داخل سجن بربروس الرهيب، وسجل من خلالها ما كان يتعرض له السجناء من أصناف التعذيب على الطغاة الجلادين..

أطوي الكتاب الأنيق عن الأدب والثورة، وأضعه في مكانه المناسب بمكتبتي الخاصة، وأعود للتساؤل من جديد.. وهل تخلفت جميلاتنا المليحات عن موكب ثورتنا المجيدة، وإلى أي حد استطاع الأدب الجزائري أن يساير ويجسد ملاحم الشهداء والمجاهدين وهم يصنعون البطولات والنصر المبين؟..

بلقاسم بن عبد الله

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى