الجمعة ٦ أيار (مايو) ٢٠٢٢
بقلم علي القاسمي

حسناء مراكش الفرنسية

حدّثني صديقي وزميلي في العمل، الكاتب سليم الهاشمي، فقال:

لأسبابٍ صحّية، نصحني الطبيب أن أمضي يومَيَ العطلة الأسبوعية، من كل أسبوع، في مدينة مراكش، ذات الهواء الصحي الجاف بعيداً عن رطوبة المحيط الأطلسي. وكان عليَّ أن أحجز في فندقٍ في كلِّ سفرة، وأدفع ما يدفعه السائح الذي ينزل في الفندق بمفرده، وهو حوالي ثلاثة أضعاف ما يدفعه نزيل الفندق ضمن مجموعةٍ سياحية. وبعمليةٍ حسابيةٍ بسيطة، وجدتُ أن ما سأنفقه على الفنادق بعد بضعِ سنين يعادل ثمن شقَّةٍ صغيرة في مراكش. ولهذا قررتُ شراءَ شقَّةٍ في مراكش.

كانت الشقة صغيرة لا تزيد مساحتها على خمسين متراً مربّعاً. ولكنّها في وسط حي كليز في زقاق خلف شارع محمد الخامس مباشرة، فهي هادئةٌ وقريبةٌ من المتاجر الجيدة والمطاعم الفاخرة، ولا تبعد إلا أقلّ من ربع ساعة من المشي عن محطة القطار، في حالة عدم السفر بسيّارتي. كانت مريحة ومناسبة لتمضية يومَي العطلة الأسبوعية بكلِّ المقاييس. بيدَ أن العمارة تعوزها جمعية أصحاب الشقق، التي تنظِّم أمور العمارة؛ ربَّما لأنَّ معظمهم لا يقيم في مراكش، وإنّما اقتنوا الشقق لتمضية عطلهم هم وعوائلهم.

ولكن بعد بضع سنين، نجحَ صاحبُ مطعمٍ في الطابق الأرضي من العمارة في الحصول على رخصةِ تقديمِ المشروبات الروحية مع الوجبات لمَن يختار. ولما كانت أرباح المطاعم من المشروبات الروحية أكثر من أرباحها من الأكلات، فقد حوَّلَ صاحب ذلك المطعم ـ بصورةٍ غير رسمية ـ المحلَّ إلى حانةٍ تقدّم المشروبات، مع الطعام لمَن يريد. وبدلاً من أن يغلق المطعم الساعة الحادية عشرة والنصف مساء، أخذ يبقى مفتوحاً حتّى الساعة الثانية والنصف صباحا، مثل بقية الملاهي والحانات. وبدلاً من استخدام الموسيقى الهادئة كما في المطاعم الجيدة، أستخدم فرقةً شعبيةً تقدِّم موسيقى صاخبةً للروّاد السكارى، تجعلهم يعبّون المزيد من الخمر، فيحقِّق صاحبهُ مزيداً من الأرباح. وعندما يخرجون من الحانة / المطعم في حوالي الساعة الثانية والنصف أو الثالثة صباحاً، يطلقون أصواتاً منكرة أو يدخلون في خصومات كلامية صاخبة.

وسارع أحد رجال الأعمال إلى شراء ثلاث شقق في العمارة، لأجل كرائها بالليلة الواحدة لبعض السكارى لقضاء مآربهم فيها، وكلَّف مساعداً له بالحضور ليلا لكراء هذه الشقق، وكان هذا المساعد بطبعه أشدّ صخباً ونعيقاً من السكارى أنفسهم. وتوقَّفَ المصعد عن العمل لكثرة انقطاع الكهرباء عن الحيز المشترك في العمارة، بسبب عدم تسديد الفواتير بانتظام. باختصار، أمست الشقة مزعجة، ولا يستطيع الإنسان النوم بهدوء فيها. وهكذا انقطعتُ عن استخدام الشقة، في انتظار بيعها وشراء بديلاً عنها في مكان هادئ.

بعد مدّة قصيرة رنَّ هاتفي المحمول وكان المتحدّث سيدة فرنسية، وبعد التحية المؤدبة قالت:

ـ مسيو هاشمي، اسمي لويز لاباتري، اقتنيتُ مؤخَّراً الفيلا الكائنة على سطح عمارتكم في مراكش، وأصلحتُ الأوضاع السيئة التي تُسبِّبها الحانة. وسنعقد اجتماعاً لأصحاب الشقق في العمارة الساعة السادسة مساء يوم الجمعة القادم، بحضور ممثِّل السلطة، لانتخاب لجنةٍ لتسيير أمور العمارة. أرجو مشاركتك في الاجتماع.

قررتُ الذهاب إلى مراكش هذه المرَّة لا لتمضية يومَي نهاية الأسبوع في جوّها الصحي فحسب، ولا للمشاركة في اجتماع أصحاب الشقق فحسب، بل كذلك لأعرف كيف أصلحت هذه الفرنسية الأوضاع السيئة في أيام، في حين عجز أصحاب الشقق ـ وأنا منهم ـ عن إصلاحها خلال شهور طويلة.

واصل صديقي وزميلي الهاشمي قصته وقد أخذ في ارتشاف القهوة من الفنجان الثاني الذي جلبه الشاوش لنا لتوه (وكثيراً ما يمضي الموظَّفون أوقاتاً طويلةً في الكلام عن أمورهم الشخصية، وتناول المأكولات والمشروبات، وليس في عمل المؤسَّسة أو خدمة المراجعين)، فقال:

حالما وصلتُ مراكش، توجهتُ إلى عمارتنا. وعندما أردتُ ولوجها، ألفيتُ رجلآً ضخمَ القامة بزيٍّ أزرقَ غامقٍ شبه رسمي، يرتديه عادةً حرّاس المؤسَّسات الخاصة. استوقفني وسألني بأدب:

ـ السلام عليكم. ماذا تحبُّ، سيدي،

ـ أنا سليم الهاشمي. أسكن هنا في الشقة 26.

أجاب الحارس بابتسامةِ اعتذار:

ـ مرحباً تفضل سيدي. آسف، لم أتشرف بلقائك من قبل. لدينا تعليمات من المدام لاباتري بعدم السماح لغيرِ سكّانِ العمارة وضيوفهم بدخولها. وأخرج من جيبه مفتاحاً صغيراً وقال: هذا لتشغيل المصعد، فلم يعُدْ يعمل بلا هذا المفتاح الذي وزعنا نسخاً منه على أرباب الشقق فقط.

عند دخول العمارة، لفت انتباهي أنه تمّت صباغةُ جدرانها صباغةً جديدةً بألوان زاهية خفيفة، وعُلِّقت على أحد جدران المدخل لوحةٌ فنِّيةٌ كبيرةٌ لآية الكرسي، وأخرى لعددٍ من الفرسان المغاربة على خيولهم الجموح. وعلى الجدار المقابل لوحةُ إعلانات، وعليها إعلان يتعلّق بموعد اجتماع أصحاب الشقق بحضور رجل السلطة الذي يسمونه " القائد" (و"القائد" هنا رتبة إدارية، وليست عسكرية. والمغرب من البلدان العربية القليلة التي احتفظت بتسميات الرتب الإدارية كما كانت مستعملة في صدر الإسلام وخلال ازدهار الحضارة الإسلامية).

استرحتُ قليلاً في شقتي، قبل أن أذهب لرؤية جاري السيد عدنان المقيم طوال العام في شقته رقم25، لا لنتوجه الى الاجتماع بعد ذلك معاً فحسب، بل ليخبرني أيضاً كيف استطاعت هذه السيدة الفرنسية أن تفعل في أيام معدودة ما عجزنا عنه خلال شهور طويلة.

شرح لي ذلك قائلاً:

ـ يبدو أن مدام لاباتري اشترت الفيلا التي على سطح العمارة من دون أن تدري بمشكل الحانة. ولكنَّها حالما اكتشفت ذلك، كتبت خطاباً موجها إلى السيد عامل مراكش، ووقَّعت هي عليه وطرقت أبوابنا واحداً واحداً لإضافة توقيعاتنا على العريضة، وذهبتْ بنفسها إلى بناية العَمالة، وسلَّمت الشكوى إلى كاتب العامل الذي اتصل بها هاتفياً بعد ذلك، وحدَّد لها موعداً لمقابلة سعادة العامل هي وأحد سكان العمارة الآخرين. ولكنَّها في الوقت نفسه استخدمت حارسَين للعمارة، أحدهما في النهار والآخر في الليل، على حسابها الشخصي، لمنع غير سكان العمارة من الدخول فيها، وطبعاً هذا ينطبق على السكارى من الحانة. ولذلك اضطر صاحب الشقق الثلاث لعرضها للبيع. أمّا سعادة العامل، فقد تحقَّق من موضوع المطعم ـ الحانة الذي يبقى مفتوحاً حتى الساعة الثانية والنصف صباحاً، فقرر إغلاقه أسبوعاً كاملاً عقاباً لصاحبه، ليلتزم بوقت الإغلاق الساعة الحادية عشرة والنصف بوصفه مطعماً، وليكسي جدران المطعم بالورق العازل للصوت، لئلا يصل الصوت إلى الجيران. لا بُدّ أن للمدام لاباتري خبرة إدارية.

استأنف زميلي سليم الهاشمي قصته قائلاً:

ـ لقد مرّ اجتماع مالكي العمارة على ما يُرام. ورشَّحت مدام لاباتري معظم المسؤولين في اللجنة: الرئيس، الأمين، المحاسب، إلخ.، وأثبتت الأيام أنَّ فراستها الإدارية صائبة.

بعدما انفضَّ المجتمعون، اقتربتُ من مدام لاباتري وشكرتها على توجيه الدعوة إليّ، وعلى ما بذلتْه من جهودٍ لإصلاح الأمور. واقترحتُ عليها أن أقتسم معها ما تكبَّدته من مصاريف على العمارة. فقالت:

ـ شكراً. لقد فعلتُ ذلك هديةً مني لجيراني الجدد. ومن الآن فصاعداً، ستقوم اللجنة بتسديد رواتب الحارسين من مساهمات سكان العمارة، وتحرص على تسديد فواتير الكهرباء فلا يتعطّل المصعد.

صمتتْ لحظةً كما لو كانت تفكّر في شيء، ثمَّ أضافت:

ـ قيل لي أنك أديبٌ معروف، وأنا من هواة الأدب، وأودَّ أن أدعوك لتناول طعام العشاء معي مساء غد.
قلتُ مازحاً:

ـ شكراً جزيلاً. يبدو أنَّ الذين أخبروك عني لا يعرفون الأدب. ويسعدني قبولَ دعوتك الكريمة مساءَ غد.
عندما دخلتُ إقامتها، لفتَ انتباهي الذوقُ الرفيع الذي بدا واضحاً في تأثيث المكان، والعنايةُ الخاصة بالزهور المتنوعة المبثوثة في ساحةِ الفيلا وزوايا غرفة الجلوس، واللوحات الفنية لبعض كبار الفنانين من القدامى والمحدثين؛ وتبادر إلى ذهني أن بعض قطع الأثاث واللوحات قديمةٌ جدّاً، ربّما ورثتْها من أُسرتها أو اقتنتْها من محلات بيع القطع الفنية الأثرية. وبعد أن جلستُ معها في صالة الاستقبال، خرجتْ من إحدى غرف الإقامة فتاةٌ في أوائل العشرينيات من عمرها واتجهت نحونا، فوقفتُ للسلام عليها، وخاطبتني السيدة لاباتري قائلة:
ـ هذه ابنتي، أمينة المحمود، تودُّ أن تسلّم عليكَ قبل أن تخرج لتلبيةِ دعوةِ عشاء.

في الحال لاحظتُ الفرق الصارخ بين الأم وابنتها، من حيث الجمال الطاغي الذي تزدان به الأم، والأناقة الرفيعة، مقارنةً بابنتها الشابة. كانت الأم في منتصف الأربعينيات من عمرها، ومع ذلك كانت هي التي تبدو الأصغر والأبهى.

ونحن نتناول عصير البرتقال الطازج الذي جلبته الخادمة مع المكسّرات قبل العشاء، أثنيتُ على اللوحات الفنية التي تزدان بها إقامتُها. وكأن السيدة لاباتري أدركت قصدي، فعزمتْ أن تسهّل الأمر عليَّ، فقالت:

ـ نعم، بعض هذه اللوحات أصيلة من إرث أسرتي. وسأسرد عليك سيرتي المختصرة لنتعارف أكثر. جاء جدي الجنرال فرنسوا لاباتري إلى المغرب سنة 1912 مع المارشال لويس ليوطي الذي عيّنته الحكومة الفرنسية مقيماً عاماً في المغرب طبقاً لاتفاقية الحماية. وفي حين أقام المارشال ليوطي في مدينة الرباط التي اختيرت عاصمة للبلاد، بعث بجدي الجنرال لاباتري ليكون نائبه في مراكش. وأنا ولدتُ في مراكش إذ اشتغلَ فيها أبي الذي أصبح فيما بعد جنرالاً وكُلِّف بإدارة الطرق وتنظيم السير في البلاد. فرجالات أسرتنا كلّهم جنرالات عسكريون من أبي إلى زمن الإمبراطور نابليون. باستثناء أخي لويس الذي لم يدرس في الكلية العسكرية، بل فضّل أن يفتح مطعماً مغربياً في مدينة "كان" الفرنسية التي تنحدر منها أسرتنا.

وبعد أن ارتشف سليم الهاشمي قهوته، استأنف قصته قائلاً:

ـ بعد ذلك العشاء في إقامة السيدة لاباتري بمراكش، توطدت صداقتي معها. وصرتُ كلما ذهبتُ إلى مراكش في نهاية الأسبوع، أدعوها لتناول الطعام معي في أحد المطاعم الفاخرة، أو تدعوني لإقامتها حيث تتولى طباختها الماهرة إعداد الوجبات المغربية اللذيذة. وسمعتُها توجّه طباختَها وخادمتَها بلغة مغربية دارجة طليقة.
ومن التفاصيل العديدة التي رواها لي الهاشمي عن صداقته مع السيدة لاباتري، فهمتُ أنها تزوجت وهي في الثامنة عشرة من عمرها بطبيب متخصّص بجراحة الأعصاب في الدار البيضاء من أسرة مغربية من قيّاد القبائل الذين استمالتهم فرنسا وأطلقت أيديهم لتكديس الثروات، على حين أن الأغلبية الساحقة من القبائل قاومت الاحتلال الفرنسي، وحاربت قواته منذ يوم دخولها. وبعد أن وضعت ابنتها أمينة ببضع سنين، انفصلت عن زوجها وعادت إلى فرنسا. وهناك واصلت دراستها الجامعية في الأدب الفرنسي، وكتبت رسالتها للماجستير عن الأديب الفرنسي أنطوان دو سانت أكزوبري.

وكان سانت أكزوبري هذا (1900ـ1944) شاعراً وروائياً من النبلاء الأرستقراطيين ويحمل لقب " كونت". واشتغل طياراً مدنياً على خطِّ باريس ـ الداخلة ـ أمريكا الجنوبية. وتطوَّع في الحرب العالمية الثانية ليقاتل في صفِّ الحلفاء. واختفت طائرته فوق البحر الأبيض المتوسط، بعد سنة واحدة فقط من نشر أشهر أعماله " الأمير الصغير".

وكان صديقي وزميلي سليم الهاشمي يروي لي ما يحصل له في لقاءاته مع مدام لاباتري، بعد كلِّ عطلة نهاية أسبوع يمضيها في مدينة مراكش. فذات مرّة حدثني عن عملها نائبةَ العمدةِ في مدينة "كان"، بعد أن حصلت على الماستر في الأدب الفرنسي من جامعة باريس الأولى" السوربون"، وعادت إلى مدينتها "كان".

ومنصب العمدة ونائبه يتم الوصول إليهما بالانتخابات. ويعتمد نجاح المرشح للمنصب على ذكائه، وشخصيته الجذابة، وقدرته اللغوية، بحيث ينال إعجاب الناخبين فيعطونه أصواتهم. وأضاف بحماسة بالغة:

ـ يكفي، يا أخي عبد الحليم، أن تقف مدام لاباتري بقامتها الممشوقة، وابتسامتها المشرقة، وشعرها الأشقر الطويل المنسدل على كتفيها البضّتين، لكي تكسب أصوات الناخبين، وأنا منهم لو كنتُ بينهم.

ضحكتُ وقلتُ:

ـ وأنا أضمُّ صوتي إلى صوتك، على الرغم من أنّنيَ لم أسعد برؤيتها شخصياً.

وارتشفنا مزيداً من القهوة. واستأنف زميلي كلامه قائلاً:

ـ بعد أن تناولنا العشاء في فيلتها الجميلة ليلة الأحد، وتحدثتْ لي عن عملها في مدينة "كان"، نهضت وجلبت دفترَ صور، وأطلعتني على صورها وهي ترافق أشهر الممثلات العالميات على السجادة الحمراء، في قصر المهرجانات في شارع لاكروازييت على ساحل خليج "كان" اللازوردي. وهنا قال بحماسة بالغة:

ـ أؤكِّد لك أنها كانت تبدو أجمل من أشهر شهيرات الممثلات العالميات. ولا تزال.
قلتُ مازحاً:

ـ هنيئاً لك، يا أخي. " إنَّ الله جميلٌ يحبُّ الجمال"، كما ورد في الحديث.

ومهرجان "كان" السينمائي هو أحد أشهر المهرجانات السينمائية في العالمِ. بدأ سنة 1939، وفي يومه الثالث، انطلقت أولى شرارات الحرب العالمية الثانية، فتوقَّف المهرجان. وبعد انتهاء الحرب سنة 1945، استأنف المهرجان انعقاده سنة 1946. ولا تعود شهرة هذا المهرجان إلى مشاركة عددٍ كبيرٍ من الممثِّلين والسينمائيِّين من جميع أنحاء العالم، ولا للعدد الكبير من الجوائز التي يمنحها مثل : جائزة االسعفة الذهبية لأفضل فيلم، والجائزة الكبرى لأفضل فيلم في رأي لجنة التحكيم الخاص، وجائزة أفضل إخراج، وجائزة أفضل سيناريو، وجائزة أفضل ممثل، وجائزة أفضل ممثلة، وجائزة أفضل فيلم قصير، وجائزة لجنة التحكيم لأفضل فيلم قصير، وغيرها فحسب، ولا بفضل العدد الكبير للأفلام التي تشارك فيه ويفوق عددها ألفي فيلم من جميع أنحاء العالم فحسب، بل كذلك لأنَّ هذا المهرجان يواكب التوجهات السينمائية الجديدة أو يطلقها أحيانا في أروقةِ دوراته.

وفي لقاءٍ آخَرَ بيننا بعد عودته من عطلة نهاية السنة التي أمضاها في مراكش، حدثني الهاشمي عن صديقته المدام لاباتري كذلك، فقال إنَّها دعته لتمضية ليلة رأس السنة الميلادية معها وعائلتها في دارتها في عمارتهما. وقد حضر أخوها لويس وزوجته صاحبا المطعم المغربي الشهير في مدينة "كان"، وكذلك ابنها أرستو وابنتها جانيت اللذين يدرسان التمثيل في باريس، وهما من زواجها الثاني بفرنسي بعد مغادرتها المغرب، وهو زواج انتهى بالطلاق كذلك. وقال إنَّه عندما التقى بهما أعجب بجمالهما الذي ورثاه من أمهما، ولم يستغرب دراستهما فن الـتمثيل. وأخيراً وليس آخراً كانت في تلك المناسبة ابنتها الكبرى أمينة. وأخبرني كيف أنَّه حمل معه بعض الهدايا لهم تحوّطاً، لعلمه بأن الأوربيين يتبادلون الهدايا في أعياد الميلاد المجيد. وفعلاً تمَّ ذلك فقدّموا له الهدايا. فقدَّم لهم الهدايا التي حملها معه، ودعاهم جميعاً لتناول طعام الغداء في اليوم التالي في مزرعة تقع في وادٍ في سلسلة جبال الأطلس الكبير التي تبعُدُ حوالي خمسين كيلومتراً عن مدينة مراكش. وقد حوَّلت صاحبة المزرعة جزءً من مزرعتها إلى مطعم يقدّم لرواده وجبات صحية من منتوجات المزرعة وحيواناتها، وأطلقت عليه اسم "مطعم الورد"، لأنَّ جمع أرجائه مزدانة بالورود من جميع الأنواع والألوان.
وذات مرة أخبرني الدكتور الهاشمي أنَّ مدام لاباتري تنوي إخراجِ فيلم عن الأديب سانت أكزوبري، وهي تكثر السفر إلى مدينة الداخلة، حيث وجدت مُنتِجاً ثرياً يتولى تمويل صناعة الفيلم.

لاحظتُ أن الهاشمي عندما يتحدث عن مدام لاباتري، وفي هذه المرة بالذات، تختلج جفون عينيه، وترتعش شفتاه، وتتناوب الألوان على وجهه. فقلتُ له ملمحاً، وأنا أشفع كلامي بابتسامة ودود:

ـ لا ينبغي أن تشغلها الداخلة عن مراكش، فهي عوض لازم لك بعد وفاة زوجتك المرحومة.
قال، وكأن كلامي إساءَ إليه:

ـ على الرغم من صداقتنا وزمالتنا، فأنت لا تعرفني حقَّ المعرفة.

قلتُ مدافعاً عن وجهة نظري بحيث تحوّل التلميح إلى تصريح:

ـ ولكن الاستمتاع بالجنس ضرورة صحّية، لأنَّ كبت اللذة الجنسية يؤدي إلى اضطراب في أجهزة الجسم، كما أثبتت البحوث الطبية مؤخراً.

ـ يا أخي عبد الحليم، إنَّ اللذَّة على نوعَين: لذة حسيّة ولذَّة روحانية. والنوع الثاني هو الأقوى والأسمى. فلذَّة الخدَر ثم السُّكر التي يحصل عليها شاربُ الخمرة، أو لذَّة التحليق في الأعالي والغياب التي قد تنتاب مَن يتناول المخدِّرات، أحصل عليهما أنا من خلال النظر إلى جمال الوجود والموجودات والتأمل فيه ساعة أو أكثر.

توقّفَ عن الكلام لحظات ثمَّ أضاف:

ـ مع فارق جوهري واحد، وهو أنَّ الخمر والمخدرات لهما أضرارهما الجسدية والاجتماعية، وأن التلذذ بالتأمل في جمال الوجود والموجودات له منافعه النفسية والروحية.

ـ وما يدريك أنهما اللذة نفسهما.

قال الهاشمي بشي من الإصرار والثقة بالنفس:

ـ أنا أدري. فعندما كنتُ طالباً في جامعة تكساس، أُجريت على ساقي اليسرى عمليةٌ جراحية للتخلّص من الدوالي، وكانت هذه العملية تجري بعد إخضاع المريض للتخدير العام، أما اليوم فبالتخدير الموضعي. أعطاني طبيبُ التخدير حقنةً من الميروانا أولاً؛ وبعد لحظات أخذتُ أحلّق في الأعالي، وبدت لي الممرضتان اللتان كانتا تدفعان سريري إلى صالة العمليات، مثل الحور العين. وأردت أن أمدَّ يدي لأداعب خدَّ أقربهما إليّ. ولكن يدي لم تتحرّك، لأن مفعول المخدِّر بدأ سريانه. وذات يوم، كنتُ أجلس على ضفة بحيرة أوستن، أتمتع بجمال غروب الشمس، وأخذتُ أتأمل جمال المشهد الرائع أمامي وأحدِّق في ماء البحيرة المتموج المتلألئ، فخالجتني تلك اللذة التي خبرتها عند العملية الجراحية في المستشفى، وبعدها لم أذكر شيئاً حتى أفقتُ وقد حلّ الظلام، واكتست البحيرة بجلباب جمالها الليلي الأخاذ. نعم اللذة ذاتها.

قلتُ مكابراً:

ـ لعل تلك الحالة خبرة شخصية نادرة لا يُقاس عليها. ألم تسمع بمقولة النحويين: " لا يجوز القياس على القليل الشاذ، بل يجوز على الكثير المطرد".؟

قال الهاشمي وهو يبتسم كمنتصر في مبارزة ودّية:

ـ وأنتَ، ألَمْ تسمع بشيءٍ اسمه الخمرة الصوفية التي يسكر بها المتصوِّفة عندما يمارسون الذكر في خلوةٍ، فينفصلون عن الوجود المحدود ويتَّصلون بالمطلق؟ أولَم تسمع بقولهم في الخمرة التي ينالونها بذكر حبيبهم الله؟ كما وردً على لسان أحد أقطابهم، ابن الفارض، الملقَّب بـ " سلطان العاشقين":

شَرِبْنَا على ذكْرِ الحـبـيـبِ مُدامَةً... سكِرْنَا بها مِن قبل أن يُخلَقَ الكَرْمُ

وإنْ خَطَرَتْ يوماً على خاطرِ أمرئ ... أقامتْ به الأفراحُ، وارتحلَ الهمُّ

فالخمرة الصوفية ليست تلك الخمرة الدنيوية المعروفة بل هي المحبة التي يكنونها للخالق، ولها مفعول شبيه بمفعول الخمرة العادية وأسمى. أو كما قال القطب الصوفي السهروردي:

رَقّ الزُّجاجُ وَرَقَّتِ الخَمْرُ ...
فَتشابَها فَتَشاكلَ الأَمرُ
فَكَأَنَّها خَمـــرٌ وَلا قَـــدحٌ ...
وَكَأَنَّها قَدحٌ وَلا خَمـرُ

وخلال ثلاث سنوات، كانت مدام لاباتري، مدار أحاديث زميلي الهاشمي، كلَّما عاد من عطلةِ نهايةِ الأسبوع التي يمضيها في مراكش. وذات يوم، فاجأني، وصوته يتهدج تحت وطأة مشاعره المثخنة بالأسى والأسف، بقوله إنَّه ذهب كعادته إلى مراكش مساء الجمعة الماضية، فلم يجد مدام لاباتري في دارتها. حاول الاتصال بها هاتفياً. لم يرن الهاتف. سأل جاره السيد عدنان، فقال إنه لم يرها منذ مدة. فذهب إلى حارس العمارة ليسأله عنها، فأخبره بأنها انتقلت إلى مدينة "الداخلة" ونقلت جميع أثاثها معها.

ـ وماذا عن الدارة نفسها؟

ـ علمتُ أنَّها باعتها إلى شخصٍ فرنسي، لم أرَهُ بعد. وتمَّ البيع بواسطة وكالة عقارية في فرنسا.

ـ وهل أودعت لديك رسالةً لي؟

ـ لا، سيدي، لم تعطني شيئا.

ـ وعنوانها الجديد؟

ـ لم تترك عنواناً.

لم ينقطع الهاشمي عن الذهاب إلى مراكش معظم عطل نهاية الأسبوع، السبت والأحد، بغية تغيير الهواء الذي يتنفُّسه، كما نصحه الطبيب، فدرجة الرطوبة منخفضة جداً في تلك المدينة العريقة الجميلة ذات الشمس الدافئة طوال العام ما عدا أشهر الصيف التي تشتدُّ حرارتُها فيها. بيدَ أنه لم يعُد يتحدّث إليَّ عن مدام لاباتري. كان يأخذ حاسوبه المحمول معه وكتاباً أو كتابين في حقيبة الحاسوب، ويستقلّ القطار مساء يوم الجمعة وبعد أقلّ من أربع ساعات يكون في شقّته القريبة من محطة القطار بحيّ كليز في مراكش. كان يستمتع بالساعات التي يمضيها في القطار ذهاباً أو إياباً، إما في قراءة كتابه، أو في الكتابة بحاسوبه، أو في الاطلاع على أخبار أصدقائه بواسطة هاتفه المزود ببرنامج الواتس آب، أو في التأمُّل وهو يتابع المشاهد الطبيعية الخلابة التي يمرّ بها القطار أو التي تمرُّ بالقطار.

بعد بضعة شهور، تحدّث إليَّ الهاشمي بحماسة ملحوظة، كما لو كان عالِم محيطات اكتشف لتوّه جزيرةً مجهولة في المحيطِ المتجمّدِ بالقطب الجنوبي من كرتنا الأرضية، فقال:

ـ أنتَ تعلم أنني عندما أذهب إلى مراكش أمضي الصباح كلَّه يومي السبت والأحد في القراءة والكتابة منتبذاً مكاناً قصياً في حديقة المقهى الشتوية المطلة على شارع محمد السادس الذي أسميه بالشارع البستان لكثرة أشجاره الباسقة المتنوعة الزاخرة بأعشاش العنادل والبلابل الصادحة المحلِّقة بالقرب منا. وهناك في الحديقة/المقهى، أستمتع بتناول الفطور المغربي التقليدي اللذيذ المكوّن من الباغرير، والحرشةِ، والمسمَّن، يسبقه عصير البرتقال الطازج، ويصحبه الشاي الأخضر بالنعناع. ثمَّ أزاول القراءة والكتابة وشجيرات الزهور تنوس بأغصانها المتمايلة بفعل النسيم العليل. وفي ذلك المقهى التقيتُ برجل من كبار القوم في أواخر السبعينيّات من عمره اسمه نور الدين الشريف. وأخذنا نتجاذب أطراف الحديث أحيانا، وعلى وجه الخصوص بعد أن رحلت مدام لوباتري من مراكش. وألفيتُ فيه ثقافةً فلسفيةً عميقة. فأخذنا، بين الفينة والفينة، نتناول القهوة معاً ونناقش موضوعاً من الموضوعات. وقبل يومين تحدّثنا عن أقسى التجارب التي يمرّ بها الإنسان. فأخبرتُه عن بحثٍ نفسيٍّ اجتماعيٍّ أكاديميٍّ اطلعتُ عليه قبل مدَّةٍ طويلةٍ جداً، حدَّد الحالات العشر الأصعب التي يمكن أن يقاسيها الإنسان مرتَّبة بحسب شدّتها، فذكر: الجنون، والسجن، وموت عزيز، والجوع فقراً، وحالات أخرى لم أعُد أذكرها.

قال الأخ نور الدين:

ـ أما أنا فأجزم أنَّ أصعبَ حالةٍ تواجه الإنسان هي الفقدان، وليس الجنون، لأنَّ المجنون قد لا يعي حالته ولا يدركها. ولدي اقتناعٌ بذلك ناتجٌ عن تجربةٍ أليمةٍ مرَّ بها صديقٌ عزيز، ملئتْ قلبه جروحاً، وصبغتْ نفسه والدنيا حوله باللون الأسود القاتم الحزين، ودمَّرتْ شخصيته، وقضتْ على حياته بعد مدة قصيرة.
قلتُ له:

ـ أرجوك أن تتكرَّم بسردِ قصَّته عليَّ، فقد شوَّقتني بوصفِك المثير.
اعتدل الأخ نور الدين في جلسته، وراح يأخذ أنفاساً عميقة عدّة مرات، وكأنَّه مُقِبلٌ على مصارعة شخصٍ ما أو ثورٍ ما، وقال:

ـ " كان لي صديق من علية القوم منذ الطفولة في المدرسة، ودرس الطب في شبابه في فرنسا متخصِّصاً في جراحة الأعصاب. وعادَ إلى البلاد وفتح عيادةً خاصَّةً به وحقَّق نجاحاً منقطعَ النظير وكوّنَ ثروةً طائلة. ولسببٍ أو لآخر لم يتزوج بل بقي منشغلاً في استثمار أمواله وجميع الأموال والممتلكات الأخرى التي ورثها، في مزرعةٍ شاسعةٍ اقتناها وهي لا تبعد إلا بثلاثين كيلومتراً تقريباً عن الدار البيضاء. وأمضى سنين طويلة في تشييد قصرٍ منيفٍ، وتحويل معظم المزرعة إلى منتزهٍ فسيحٍ ملحقٍ بالقصر. وأنشأ في وسط المنتزه بحيرةً واسعة تعجُّ بأنواع الأسماك الطبيعية الملوّنة، وتحلِّق فوقها وحولها أصنافُ الطيورِ المغرِّدة. وعلى ضفافها بعض القوارب بالمجاذيف. وضمَّت حدائقُ المنتزه أكثرَ من ألفِ نوعٍ من النباتات والزهور. وكان بعد أن يعود من عمله في العيادة يجلس للتأمل في جمال الكون، فقد كان عاشقا للجمال، مولعاً في مشاهدة الكون وكلِّ ما هو جميل.

وفي أوائل الخمسين من عمره، التقى ـ لحسن حظه أو لسوء حظه ـ بفتاةٍ فرنسيةٍ فاتنةِ الجمال من عائلةٍ مرموقةٍ متنفذة أيامَ الحماية الفرنسية في المغرب. فوقعَ في حبِّها على الرغم من أنّها كانت في ربيعها السابع عشر من العمر فقط. وأعجبت هي بالقصر ومنتزهه، الذي يذكّرها بقصور النبلاء في فرنسا والمزارع والحدائق التي تحيط بها.. وفعلَ صديقي كل ما في وسعه لتتزوجه حتّى تمَّ له ذلك."

قاطعته سائلاً بلطف:

ـ ما اسم صديقك هذا، إن لم يكن لديك مانع؟

ـ أحمد المحمود.

وهنا وجدتني، بلا إرادة مني، أتجه إليه بجميع جوارحي لمعرفة قصته، وأستمع إليه بحواسي كلها.
استأنف الأخ نور الدين الشريف سرد قصَّته فقال:

ـ لم يذهب الدكتور أحمد المحمود بعد الزفاف إلى العمل في عيادته، حيثُ ألتقي به في فترة الغداء لنتناول وجبتنا في أحد المطاعم المطلَّة على المحيط. ولم يردَّ على اتصالاتي الهاتفية المتكرِّرة. ظننتُه يستمتع بشهر العسل. ولكن بعد مضي شهرين، قرّرتُ أن أزوره في قصره. وعندما فتح الحارس الباب ورآني، وهو يعرفني ويعرف علاقتي الحميمة مع سيّده، استأذنني بإبلاغ الدكتور أحمد بحضوري أوّلا. وبعد دقائق عاد ليفتح باب القصر، لأدخل بسيارتي. وهناك وجدته مسترخياً على كرسيٍّ مريح، وهو ينظر بشغف وحب إلى عروسه الفاتنة وهي تمتطي جواداً أصيلاً وتجري به في أطراف المنتزه. وبعد أن تناولنا القهوة التي حملتها الخادمة لنا، سألته عن سبب انقطاعه عن الذهاب إلى عيادته للعمل. أجاب الدكتور:

ـ تعلم أني مولعٌ بجمال الكون والكائنات، وتعلم ـ كما أعلم ـ أنَّ الحياة قصيرة. ولهذا نويتُ أن أستمتع بما تبقّى لي منها في الراحة والتأمل والسعادة العائلية. وسيتولّى العمل في العيادة طبيب بديل. (ومن المتعارف عليه بين الأطباء أن الطبيب البديل يقتسم المدخول مناصفة مع صاحب العيادة الأصلي.)

لم أرَ صديقي الدكتور أحمد بعد ذلك عاماً كاملاً تقريباً، حتى بلغني أنه وزوجته رُزقا بطفلة فذهبتُ إلى قصره للتهنئة.

في تلك السنوات، كان المغرب يسعى إلى رصِّ صفوف العرب والمسلمين وتوحيد كلمتهم، لأجل إيجاد حلٍّ عادلٍ لقضيتهم الأولى، القضية الفلسطينية. فدأب على عقد مؤتمرات قمَّة. ولما لم تكُن في البلاد قصورُ ضيافةٍ كافية، ولم يكُن من اللائق أن ينزل رؤساء الدول في فندق، كانت السلطات تلجأ إلى استعارة بعض قصور الأغنياء أيام المؤتمر. وقبل انعقاد المؤتمر بمدَّة كافية، تُرسل تلك السلطات مهندسَ ديكور لإلقاءِ نظرةٍ على الأثاث الداخلي لكل قصر، واستكمال ما ينقصه ليكون لائقاً بإقامة رئيسِ الدولةِ الضيف.

وعندما اتجهت النية إلى عقد مؤتمر القمة العربية ذلك العام في الدار البيضاء، وقع الاختيار على مجموعةٍ من القصور، وتمَّ الاتصال بأصحابها، الذين رحبوا بذلك، لا بدافع الكرم فحسب، ولا لما سيًذكَر به دارهم دوماً من أن الملك الفلاني أو الرئيس الفلاني أقام فيه، بل كذلك لأنَّهم يعدّون ذلك واجباً وطنياً. ومن بين تلك القصور المختارة كان قصر الدكتور أحمد المحمود. واستعارة القصر لا تستغرق عادةً أكثر من خمسة أيام، والدكتور المحمود وعائلته لن يبتعدوا كثيراً عنه، فثمة دارة صغيرة للضيوف تقع في أطراف منتزه القصر، والعائلة ستنتقل إليها خلال تلك الأيام الخمسة. وجرت الأمور على ما يرام.

ولكن ما لم يكُن في الحسبان، أنَّه بعد أقّل من شهر، تلقى الدكتور المحمود اتصالاً هاتفياً من مسؤول كبير قال فيه إن العاهل العربي المشرقي الذي نزل ضيفاً بالقصر، أعجب به، ويودُّ شراءه. كان جواب الدكتور المحمود واضحاً: القصر ليس للبيع. بيدَ أن مسؤولاً رفيعاً جداً اتصل به بعد أسبوع ليقول له:

ـ دكتور أحمد، إن ما أحدّثك به ليس مسألة تجارية بسيطة، تقبلها أو ترفضها، بل هو واجب وطني عليك لتحسين العلاقات مع دولة العاهل المشرقي الذي يودُّ اقتناء قصرك، وتطوير السياحة في بلادنا. ليس لك أنْ ترفض، أبداً، ولكن لكَ أن تطلب ما تريد من ثمن، الثمن الذي ترغب به أو تحلم به، مهما كان مرتفعاً.
وهكذا بدأت إجراءات البيع. وبعد مدَّةٍ قصيرة، وصل محامي العاهل المشرقي وهو يحمل شيكاً أوربياً مضمونَ الدفع.

وأنهى السيد نور الدين الشريف قصَّته بقوله:

ـ وفي صباح اليوم التالي، أفاق الدكتور أحمد المحمود، ليجد أنَّ زوجته الحبيبة قد حملت شيكها وابنتها، وغادرت المغرب إلى فرنسا. وفي لحظة واحدة فقَدَ الدكتور المحمود زوجته وابنته وقصره ومنتزهه وسعادته ومعنى حياته. وهو الخسران الأكبر.

هنا اعترض الكاتب سليم الهاشمي على رواية صديقه نور الدين الشريف بقوله:

ـ لا يمكن للزوجة أن تحصل على الشيك، مالم يكن القصر وملحقاته مسجلة باسمها.

أجاب نور الدين الشريف بكل هدوء:

ـ هذا صحيح، فقد كان الدكتور أحمد المحمود قد فعل ذلك، لتقتنع الفتاة الصغيرة بالزواج منه، وتطمئن إليه، وتثق بحبِّه لها..

واستأنف نور الدين الشريف سرده قائلاً:

ـ ومنذ ذلك اليوم، بدأت رحلة الدكتور أحمد المحمود الطويلة المريرة مع الاكتئاب الرهيب. كنتُ أزوره، أو بالأحرى أعوده، في الشقَّة الصغيرة قليلة الإنارة التي صار يسكنها، فأجده مطأطأ الرأس، ملبَّدَ الوجه بغيومٍ كثيفةٍ سوداءَ، عيناه لا تُبصران، وشفتاه لا تنفرجان عن أيِّ حرف، وأذناه لا تسمعان ما أقول. كان الاكتئاب يتسرَّب أعمق فأعمق إلى حنايا روحه، فيهصرها ويحيلها إلى رمادٍ خالٍ من أيِّ وهج.

كان لا بُدَّ أن أحاول إنقاذه. وذات يوم حدّثته بطريقة حادة قائلاً إنَّ الحزن سيأكل قلبك ويقضي عليك. لا بُدّ أن تنسى حبَّك القديم بحبٍّ جديد. ليس حب امرأة بالضرورة. أقترح عليك ان تضطلع بمشروع صحي تساعد فيه أبناء وطنك. قمْ ببناء أكبر مستشفى في البلاد يضم جميع التخصصات ويشتمل على أكبر عدد من الأسرَّة، وإذا أحببت هذا المشروع الإنساني الكبير، ستنسى تلك الفتاة. فالحب الجديد يقضي على الحب القديم. وهذا ما رمى إليه أبو نواس بقوله:

دَع عَنكَ لَومي فَإِنَّ اللَومَ إِغراءُ ... وَداوِني بِالَّتي كانَت هِيَ الداءُ

وهذا ما فعله الإمبراطور المغولي شاه جيهان، لينسى أحزانه على حبيبته زوجته، ممتاز محل، بعد أن اختطفها الموتُ منه، فقرر أن يبنى لها أفخم ضريح في العالم يخلِّد حبهما إلى الأبد. فبنى ضريح أو مسجد تاج محل الذي هو درة العمارة الإسلامية في الهند، وإحدى عجائب الدنيا السبع. واستغرق البناء 21 عاماً خلال النصف الأول من القرن السابع عشر الميلادي. وأثناء تلك السنوات لم يستطع الحزن التسرب إلى نفسه، فقد كان عاشقاً لعملية بناء ذلك الصرح العظيم، عشقاً أنساه زوجته الفقيدة والحزن عليها. والآن يلهج العالم كلُّه، بذكر ذلك الإمبراطور العاشق.

ابتسم الدكتور المحمود ابتسامة صفراء ساخرة، وقال بصوت واهن:

ـ وبأي مال أبني مشروعك الكبير. حتى البنوك الوطنية لا تقرضني درهماً واحداً، لأنني لم أعُد أملك أية ضمانة.
قلتُ بشيءٍ من الثقة:

ـ هذا صحيح. فقد فكرتُ في الموضوع، وأقترح عليك أن تقوم بلقاء العاهل المشرقي الذي اشترى قصرك، فهو كثيراً ما يأتي في عطلٍ للراحة. وسيرتِّب لكَ اللقاء به رئيسُ خدمه الذي تعرفتَ عليه أثناء إقامتهم الأولى في القصر، وبينكما مودة، وتعرض على العاهل المشروع. ولديه المال الكافي لتمويله. وسترى أنَّ هذا المشروع سيكون حبَّكَ الأكبر، وسيخلّصك من مأساتك، ويعيدك نجماً لامعاً في سماء الوطن.

وفي كلِّ مرة أزوره فيها أو أحمله على الخروج معي إلى البحر لتناول الطعام، كنتُ أزيّن له فكرتي وأحبِّبها إلى نفسه. وأخيراً وافق.

وفي أول زيارة للعاهل المشرقي لقصره المغربي، رتَّب رئيس خدمه لقاءً للدكتور المحمود، فتحدّث المحمود باختصار عن الحاجة إلى ذلك المشروع الصحي العظيم الذي سيحمل اسم العاهل الكريم ويبقى بمثابة صدقة جارية له، وفي نهاية حديثه، ركَّز على الأرباح التي سيجنيها جلالته من مشروعه الإنساني الكبير.

فجأة انفجر العاهل ضاحكا، وغلب عليه الضحك، واستمر في الضحك طويلاً، حتى خشي الدكتور أن يموت العاهل الكريم من الضحك، وهي حالة طبية يطلق عليها مصطلح "الضحك المميت". فاتسعتُ حدقتا عيني الدكتور متسائلَتين عن سبب الضحك. هنا التقط العاهل الكريم أنفاسه وقال بلطف:

ـ في كل صباح، عندما أفيق من النوم وأفتح عيني، يدخل في حسابي الشخصي مليون دولار. فلماذا أشتغلُ في مشروع طبي يستغرق سنوات طويلة قبل أن يجني بعض المال؟!!

وانتهى الاجتماع. وبعد مدة قصيرة مات الدكتور المحمود كمداً، من الحزن والاكتئاب والفاقة والفقدان.*

من مجموعة قصصية عنوانها " الآنسة جميلة وقصص أخرى" حظيت بمقدمة وخاتمة نقدية للشاعر الكبير الدكتور قصي الشيخ عسكر، ستصدر الشهر القادم عن دار الثقافة للنشر والتوزيع بالدار البيضاء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى