الاثنين ١١ تموز (يوليو) ٢٠١٦

حوار مع القاص أحمد المؤذن

زينب علي البحراني

"كلنا نستسلم لسطوة أقدارنا، الفرق أن مُقاومة وصمود بعضنا تتفاوت في تذبذبها"، هذه الرؤية الفلسفية في قصة "يا صاحب تنكة المبيد" للقاص البحريني "أحمد المؤذن" تلخص بكلمات قليلة مصائر أبطال شخصياته في كل قصة ورواية، حيث تكمن في سراديب السطور وجوه حزينة، أرواح معذبة، أنوثة هشة، وبقايا طفولة مكدسة بين ردهات الذاكرة. اقتربنا منه قليلاً طارقين إحدى نوافذ روحه، ففتح لنا أبوابها بسخاء لا حدود له مستضيفا اسئلتنا، ومستفيضا في ردوده عليها بجرأة من لا يخشى الخوض بآرائه الصريحة في حقل الغام الهموم الأدبية الشخصية والهموم المُجتمعية العامة.

لكل أديب همومه الشخصية فضلاً عن هموم مجتمعه العامة، تلك الهموم لا بد وأن تنعكس على صفحة النص الأدبي سواء بوعي من المؤلف وعن سابق تصميم وتصوّر؛ أو يتسلل بها "لا وعيه" إلى روح القصة.. هموم "أحمد المؤذن" تطل برأسها تحت عنوان كل قصة من قصصه، لكن هل تدسها بوعي بين السطور أم تنفلت من الدهاليز السرية في مكان من عقلك الباطن دون أن تدري؟

جـ 1 : أعتقد أنني هنا لا أستطيع التنصل من أية أفكار أو هموم تتوارى في تلافيف نصوصي القصصية التي أكتبها، يبقى هناك ممارسة الكتابة وهي عملية معقدة تتجاوز التصميم الذي نضمره بدواخلنا، فمن الصعب نوعا ما شرح هذه الجزئية لكون الكاتب غير معني " بشرح " ما يقدمه للقارئ، هذا ليس بتعالٍ، إنما أسميها حالة المشاركة التفاعلية مع المتلقي ليذهب ويفسر فحوى القصة أو الرواية التي أمامه حسب رؤيته وخلفيته المعرفية. على ضوء هذه المشاركة التي أشرنا إليها، وعي الكاتب بهمومه الشخصية وهواجسه هل تجسدت في كتاباته أم لا؟ يظل الكاتب هنا في مساحة ضيقة من الانفعال الإبداعي، يتوتر لديه فعل الكتابة و ربما مع تدفقها تخرج شحنات عفوية تعبر عن ذاته، نكتشف فيما بعد و نتيقن أنها صفحة من مذكرات الكاتب، سيرته الذاتية في مرحلة عمرية لاحقة، من يدري؟

أنت أديب من الطبقة المُجتمعية الكادحة، بنيت اسمك بنفسك وبمجهود شخصي من تحت الصفر، كيف استطعت تحقيق هذا الإنجاز الذي يشبه المُعجزة في مثل تلك البيئة؟

جـ 2 : أكاد قبل إجابة هذا السؤال تحسس تلك النصال المتكسرة تحت جلدي والتي لم أستطع إخراجها، سواء القديمة منها أو تلك التي لا تزال تباغت خطواتي على الطريق بين وقت وآخـر. أن تبني لك أسما في الساحة، يقرأه البعض من جانب المنافسة، أن هذا (الآخر) القادم يشكل خطرا عليّ! هنا تبدأ مخاوف الفاعلين في الساحة من كتاب وهم يراقبون نجاحات (زيد من الناس) هذه المخاوف تتحول مع مرور الزمن إلى كراهية وتسقيط في شخص هذا الكاتب ثم تتحول إلى تهميش لمسيرته بغية محاصرته إعلاميا بكل السبل. هي ذي أمراض ساحتنا الثقافية.. إن كنتُ أغار من نجاحاتك فسوف أسعى للتشكيك في إبداعيتك وحتى مصداقية ما تكتب، لا أقصد هنا ممارسة النقد الموضوعي البناء بل ذاك النقد المفخخ المدمر و الذي يترصد أي تجربة فتية بغية النيل منها لإزاحتها من الساحة، لكن عندما تكون من حيتان الساحة ولا استطيع الوقوف بوجهك، فعليّ أن "أقبل" يدك كي أنال بركاتك يا مولانا!

بنيت نفسي في مراحل صعبة بالغة القسوة .. حيث لم أجد إلا القلة من الأحبة و الأصدقاء وأمي طبعا، كل هؤلاء ساندوني في بداية المشوار في وقت عمل فيه الآخرون على محاولة إقصائي وحتى عدم الاعتراف بحقي في الكتابة. مارتن لوثر كينغ ألهمني ذات يوم برؤيته الحياتية المتبصرة حينما قال: ( أنا لديّ حلم ) لحظتها قبضت على حلمي الغض كما لو كان شمعة، صرت أحميها من الأفواه التي تحاصرها كي تغتال ضوءها الشحيح. صرت أذكر نفسي كل يوم وحتى هذه اللحظة.. أنه ما دام لديّ حلم فعليّ أن أقاتل في سبيله بلا هوادة بشرط أن لا أتنازل عن مبادئي ونظافة ضميري.

للمرأة حضور واسع في نصوصك، لكن من المُلاحظ أن مُعظم بطلات قصصك مهزومات وبلا قدرة على مواجهة ذواتهن ومواجهة الآخر سواء كان هذا الآخر خطر فردي أو خطر مجتمعي يهدد انسانيتهن باستثناء بطلة قصة "وحزنها يتفاقم" التي نفد صبرها في مجموعة "رجل للبيع"، و شخصية "مديحة" المنحرفة أخلاقيًا – وفق نظرة المجتمع- في رواية "وقت للخراب القادم"، لماذا تختار لهن دائمًا هذا القدر اليائس المستسلم بدلاً من الثورة على ظروفهن والانتصار عليها؟

جـ 3 : نعم .. المرأة لها حضور واسع في نصوصي القصصية، أربط هذا الأمر بمرحلة طفولتي على الأرجح التي شكلتني، فأنا الذكر الأول على رأس أربع بنات ترعرعت بينهن وحتى تعلمت كيف أشاركهن في ألعابهن، أجمل صداقات طفولتي كانت مع البنات. عندما أرصد في كتاباتي (ضعف المرأة) هذا ليس عن سابق تصميم كي يقعن في اليأس و الحزن، بـل هناك واقع من رحم البيئة التي نشأت فيها، تصر على ترويض المرأة وجعلها خاضعة لقدرها، هذا ما خبرته من طفولتي حتى شبابي. ليس بودي حتى في عقلي الباطن حبس ردة فعل المرأة التي تتحرك في عوالمي القصصية عن الثورة على واقعها، لكني بذات الوقت أرى في قريتي كيف تنصاع المرأة لتشدد رجل الدين حينما يمنع حقها من دخول النادي لممارسة الثقافة أو الرياضة.

هنا تقاطعات إشكالية مربكة على مستوى التفسير المنطقي لا أدري إن كنت سأتمكن من شرحها لكنها في نهاية المطاف شكلتني من الداخل، مع هذا وجود شخصية المرأة الثائرة على واقعها وسط مجتمع ذكوري متسلط ضمن كتاباتي عليّ أن أعيد قراءته كي أنصف المرأة وهذا جسدته أكثر من أي وقت مضى في عملي الروائي القادم "فزاعة بوجه الريح" ليكن مفاجأة للقراء.

بما أن كثير من نصوصك تحاول سبر أغوار العالم الداخلي للمرأة العربية لا أستطيع منع نفسي عن هذا السؤال: لو كنت امرأة في مُجتمع مُحافظ كالمجتمع الخليجي الذي تعيش فيه الآن؛ هل كنت ستعبر عن ذاتك بجُرأة وتحرر أم كنت سترضخ لواقع يفرض عليك الانزواء والصمت؟

جـ 4 : بلا شك .. سوف أفعل كي أعيش حرا بعيدا عن وصاية من يحاولون اعتقال المرأة في قوالب العرف و التقاليد و تجيير الدين لهذا الغرض. طبيعة الثقافة المحافظة لمجتمعنا الخليجي تحد من حراك المرأة، لست بحاجة هنا لتقمص جسد امرأة كي أصل لفهم إحساسها العميق، يكفي أنني أعرف أن المرأة تعاني من إرث بنات جنسها عبر التاريخ، يؤلمها حد الفاجعة كيف كانت في جاهلية أسلافي يتم وأدها بصمت لأنها أنثى! وكيف كانت أول مكاسب الغزو عند إغارة قبيلةٍ على أخرى، فتتحول إلى محظية تحت رحمة الغالب أو سلعة في سوق النخاسة يُــزايد عليها بدنانير الذهب و الفضة.

بين أبطال نصوصك كثيرًا ما نصادف شخصية البطل الذي يعيش حرمانًا من المرأة، هذا الأمر يُذكر القارئ بأزمة ازدواجية الإنسان العربي في تعامله مع رغباته الداخلية من جهة، وتعامله مع الحدود المجتمعية المعقدة من جهة ثانية فيحرم شخصيته من النضج الكافي للانطلاق في الحياة دون عقد نفسية، ككاتب رجل؛ هل تصادف مثل تلك الشخصيات الذكورية كثيرًا في حياتك الواقعية؟

جـ 5 : الشخصيات التي تعيش حرمانها الجنسي و تبقى حبيسة جدرانها النفسية، اقتربت من معاناتها، في حركتي اليومية أصادف الكثير من النماذج البشرية، بعضها يحدثني صراحة عن حاجاته الجنسية، حتى الطرف الآخر، ذات مرة اتصلت بي فتاة أجنبية تطلب مني أن أكون صديقها. مثل هذه النماذج موجودة بيننا هناك شغفٌ خفي يحركها كما يحرك خيال الفتى المراهق في المجتمع العربي، تجده يحتفظ بصورة امرأة عارية في هاتفه الجوال، في محاولة للإشباع الغريزي المستعر للتملص من (التابو) المجتمعي وسلطته. معرفة هذه الأمور و تحليلها ضمن سياقات الكتابة مهم بالنسبة لي، أنا لا زلت أتذكر أن لأبي صديقة جريئة و عفوية عندما تزورنا في البيت بينما أبي يدخن نارجيلته، كيف تحييه على غير اكتراث بأمي حيث تناديها: "كيف حالك يا عدوتي"!!

المحصلة .. تناقض كبير بين هذه النماذج البشرية التي أصادفها في حياتي، اقرأ أوجاعها ومتاعبها، أقدم أفراحها أحزانها وأقف على مسافة بسيطة منها لكن برغم ذلك لا أسلم من التورط معها، أنا أعيش مع هذه الشخصيات حتى تتخلق كلحم و دم، وهذا ما يجعل زوجتي ثم قرائي من وقت لآخر يتساءلون : أحمد أنت بطل هذه القصة الفعلي لا تنكر؟!

كثير من المبدعين في عالمنا العربي يعيشون ظروفا مادية لا تليق بمكانتهم المعنوية في المجتمع؛ ما هي الحلول الممكنة لتجاوز تلك الظاهرة من وجهة نظرك؟

جـ 6 : الكاتب وهو يتجول على مساحات البياض الشاسع في أوراقه أو صفحاته الحاسوبية الافتراضية فنان في رسم المآزق و المصائر و وضع الحلول لشخصياته لكنه حينما يقترب من تخوم أوجاعه كي يصلح بعض شأنه يصير ضعيفا محاصرا، نحن معشر الكتاب و المثقفين من الصعب علينا الخروج من جلدنا كي نبحث عن حلول لمشاكلنا المادية، عن نفسي حاولت طوال الأعوام الماضية الهرب من الكتابة حينما عرفت أنها لا تملأ جيبي بغير الفواتير، لكن كنت في كل مرة أجدني أغوص في عوالمها وأدمنت لسع جمرها لدرجة أصرح فيها لبعض الأحبة ممن يعتقد أنني منتظم في سلك التربية و التعليم، أقول لهم: أنا كاتب ولا أفعل شيء في حياتي العملية غير الكتابة كي أعيش.

الحلول التي تكفل للكاتب كرامته الإنسانية ليست صعبة المنال، أذكر أن اتحاد الكتاب العرب في دمشق بعام 1998 كان وقتها عنده نظام تقاعدي لأعضائه ولا يزال إلى الآن حسب علمي، أين نحن من هذا الرقي الحضاري في التعامل مع الكاتب العربي، نحن دول نفطية وتعجز ميزانياتنا الضخمة عن احتضان كتابها؟! سؤال أتركه للمؤسسة الرسمية التي ترفع لواء الثقافة.

زينب علي البحراني

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى