
حِواريّة «البان فلوت» على مسرح محمود درويش
«..أمواتكم يعزفون عن حبكم وعن حب الأرض التي كانت لهم مهاداً حالما، يعبرون بوابات قبورهم ويذهبون فيما وراء النجوم، إنهم سرعان ما يصبحون عرضة للنسيان ولا يعودون. أما أمواتنا فلا ينسون أبد الدهر العالم الحلو الذي وهبهم الحياة..»
(من خطبة "سياتل"الزعيم الهندي الأحمر أمام الرجال البيض.)
هدوءٌ وليلٌ..وركحٌ،
وأطياف من عبروا من قديمِ الينابيعِ
أبوابَ أرواحِهم
خلفَ تلك النّجومِ
على شارعٍ في السّماءِ.
نساءٌ، رجالٌ،
وبعض الكلام الشّفيفِ
بخمسين لهجة حبٍّ،
بكلّ الثّقافاتِ، كلّ الدّياناتِ،
كلّ الحضاراتِ.
الأمر أشبه بالرقص فوق حوافِّ الهواءِ.
فقط هكذا،
حين يصبحُ للهمسِ أجنحةً كالفراشِ،
ستصبح وجناتهنّ ورودا،
وتَنضجُ فاكهة القلب
في شجر الكلماتِ بكل اللّغاتِ.
هنا لا تَفاوُتَ في أممِ الحبِّ،
حيثُ يشفُّ البريقُ الرّقيقُ
على بِركِ الحدقاتِ
كبِلوْرِ شِعرٍ نقيٍّ،
ويصبح للملح في الدّمع
معنى أرقّ من الرّوحِ
في جسدِ النّسماتِ،
كمعنى الرّياحِ الطّليقةِ
في أوّل الشّهقاتِ،
وآخرها.
كمعنى تداخُل شمسٍ وظلٍّ..،
كمعنى التّسامحِ،
منْ دونِ حربٍ وعنفٍ وقتلٍ..،
ومعنى التّعايشِ، معنى السّلامِ.
معانٍ بكلّ التّعاليم واحدة
منْذ أوحى الإله إلى الأنبياءِ.
ومذْ أوّل القَطْر ينسابُ
بين أصابع إمرأةٍ في العراءِ،
تهذِّبُ نهرَ السُّلالةِ،
حتّى يلمّع ماء البدايةِ آثارنا
فوق جِلْد الحضارةِ نهرا فنهرا،
فكم تتشابه أزهار ليموننا
في غصون الأساطيرِ،
كم تتشابه آلهة ولدتْ بيننا
كي تُرتّب فوضى انكساراتنا
بعظيمِ النّوايا،
نشكّلها كالسّكاكرِ
نعبدها أو نسدّ بها جوع أطفالنا،
أو نمجّدها فوق نقشٍ قديمٍ
لكارْما المبجّلِ "بوذا"،
بآياتِ "إيروسْ"، "وجايا"،
و "شِيفا"، و"ديڨي"..،
لأنّ إله المحبّة واحدْ.
فهذا الهواءُ الصّديقُ
يقاسمُهم ما يقاسِمُكم ،
لا يغيِّرُ ميثاقَهُ بين إخوتِه،
لو تغيّرَ لونٌ وعرقٌ و دينٌ،
ولا يسرقِ الأرضَ باسمِ الإله.
تضجُّ الرّؤى،
تتغلغلُ عبر مسامِ الهواءِ
كأمزجةٍ منْ أغاني الرُّعاةِ
،"لروحٍ عظيمٍ"
يقدّسها اللّحن في نبرة الأرضْ.
فمذْ زيح هذا السّتار على الرّكحِ
والنّاسُ سكْرى بصوتِ الطّبيعةِ
يورقُ في قصبِ (البانْ فِلوتْ).
يهدهدُ "زامفير" تاريخ شعبٍ جريحٍ،
(كراعٍ وحيدٍ)
يصلِّي لأرواحِ أسْلافهِ العائدةْ.
لذلك تبكي النّساءُ الرّقيقاتُ
من دون قصدٍ،
فتمنحهنّ التّراتيلُ
وردة صدقٍ ليضحكنَ،
تَحضِنهنّ طويلًا،
وتمسحُ فوق رؤوسِ الصّغارِ برفقٍ،
تلاعبهمْ في مراجيح أحلامهمْ،
ثمّ تأخذُ شكل النّجومِ العصيّةِ،
تَعلو على المسرحِ الملحميِّ
كنسرٍ جريحٍ بذاكرةِ (الرجل الأحمر الحرّ).
كانت تفرّ من الضوء
يجرحُ روح الطّبيعةِ،
منْ كهرباءِ التّمدُّنِ،
تَخْدشُ جِلْد الظِّباءِ الوديعةِ،
في ركضِها للجبالِ البعيدةْ.
هنا الأرضُ أنثى،
كما الرّيح والنّار والماء والورد..،
يجرحها العنفُ جدًّا،
مقدّسة فاحترسْ أنْ تُهينَ الحصَى..،
والمراعي الظَّليلة،
إنّ الجواميسَ عند الينابيعِ إخوتُهم،
والسّماءُ الرّحيمةُ،
والشجرُ المشرئبُّ،
وأحلامه الوارفةْ.
لهم دهشة لن تراها
بتلك التّفاصيلِ بين الهوامشِ،
في مِفْصلِ اليوم،
أصغر ممّا تفكّر،
لن تفهم الأمر حتّى..،
ولن تفهم الأمر مهما بقيتَ هنا.
هكذا يشرحُ الأرضُ أصحابُها الطيّبينَ.
مقدّسة في الجليل،ويافا، وحيفا، و غزّةْ.
مقدّسة في فلسطينَ،
يا شاحبَ الوجهِ :
إنَّ الأديمَ الذي تحتَ نعْلكَ
ليس جمادا،
لهُ روح أسلافهم،
فاعتذرْ للتّراب ودسْهُ
بملمسِ أقدامِ أبنائه الدّافئةْ.
وتلك المياه التي
في عروقِ البحيراتِ تجري
كأنشودة من زجاجٍ تلوّنه الذكرياتُ،
دماء الرّجال و تاريخ أجدادهم،
هي ليست مجرد ماءْ.
وهذا المكان الذي
امتدّ يرْشَحُ أحلامَه،
تحتَ شمسِ الظّهيرةِ،
سهلًا، وبحرًا، ووهْدا،
وعُشبا من الكبرياءْ
لن يبيع التّرابَ الجليل
لليلِ الغريبِ،
وليلِ المدافعِ والأوبئةْ.
فاعتذرْ عن نزيفٍ
بخاصرةِ اللّحنِ وارحلْ،
ولا تجرحِ الأرضَ أكثرْ.
٭ النّص عبارة عن حواريّة مع نص "محمود درويش": (خطبة الهندي الأحمر ما قبل الأخيرة أمام الرّجل الأبيض).