الاثنين ٦ آب (أغسطس) ٢٠٠٧
بقلم عادل الأسطة

ذاكرة وصورة اليهود

ذاكرة عنوان كتاب الكاتب سلمان ناطور، وقد صدر في العام 2006، وهو، على أية حال، مختارات من كتب ثلاثة أصدرها المؤلف من قبل، هي على التوالي: "الشجرة التي تمتد جذورها إلى صدري" (1979)، و"ما نسينا" (1983) و"هل قتلتم أحدا هناك؟" (1999). وتدرج تحت أجناس أدبية مختلفة هي: القصة القصيرة، الأدب التسجيلي: سيرة شعب، والسيرة الذاتية أو ما يقترب منها.

ولمن يهتم بمرايا الذات والأخر في الأدب، فإن "ذاكرة" تبدو لافتة في هذا الجانب، ذلك أنها تبرز صورة للذات الفلسطينية، وثانية للآخر: اليهودي والإنجليزي. وربما توسع المرء في الأمر فكتب عن الذات العربية أيضا. ولا عجب في ذلك، فموضوع الصراع العربي- الإسرائيلي على أرض فلسطين، منذ اشتداده في العام 1948 وحتى العام 1999، حاضر في النصوص، وتكاد حرب العام 1948 تشغل أكثر صفحات ذاكرة. وفي تلك الحرب كان الإنجليز حاضرين على أرض فلسطين، وكذلك حضر جيش الإنقاذ العربي، بالإضافة إلى طرفي الصراع.

ولا أدري أنا شخصيا، أنا الذي درس صورة اليهود في الأدب الفلسطيني ما بين 13 و1987، وصورة الإنجليز في الأدب الفلسطيني، لا أدري لماذا لم ألتفت، بما فيه الكفاية، لأعمال سلمان التي كنت درستها وتابعتها؟ ألأنها أدب تسجيلي؟، بخاصة كتاب "وما نسينا"، ربما، علما بأنه كان يفترض أن أفرد لها صفحات خاصة بها، لأن تصور الذات والآخر فيها يصدر عن فئات اجتماعية شعبية، علما بأن هذه تبرز في القصة والرواية، خلافا للشعر الغنائي.

في القصة والرواية، كما نعرف، لا يكتب الكاتب القصصي والروائي عن شريحة اجتماعية واحدة هي التي ينتمي إليها، واعني بها شريحة المتعلمين والمثقفين. إنه يكتب عن شرائح اجتماعية متعددة متنوعة، لأنه يلتقط شخوصه من المجتمع، وقد يعبر في الرواية، عن شرائح اجتماعية متنوعة: عن العمال والفلاحين، عن سكان المدن وسكان الريف، عن المتعلمين والأميين، عن المتسولين والمعلمين.... الخ. وهذا ما نعثر عليه، على أية حال، في قصصنا ورواياتنا. وهذا ما أبرزته وأنا أكتب عن صورة اليهود في أدبنا بعامة.

وفي الشعر الغنائي يعكس الشاعر انعكاس العالم على ذاته، ما يعني أنه يكون هو محور نصوصه غالبا، وبالتالي قد لا يكتب عن آخر متعدد متنوع، لأنه قد لا يقابل شرائح متنوعة من الآخر. محمود درويش مثلا كتب عن جندي وعن (ريتا) و(شولميت)، لكنه لم يكتب عن عامل يهودي. ربما لأنه لم يلتق بعامل.

سلمان ناطور في "وما نسينا" الذي ظهر أكثره في "ذاكرة" لا يكتب عن اليهود الذين التقى بهم. إنه يلتقي فلسطينيين شهدوا حرب العام 1948 وكانت لهم ذكرياتهم عنها، وكان هؤلاء عرفوا اليهود عن قرب، قبل النكبة، وفي أثنائها وبعدها، وهكذا قصوا عن تجربتهم. إن تصور اليهود، في هذا الجزء من "ذاكرة" (ص29- ص132) لا يبرز تصور سلمان نفسه لهم. إنه يبرز تصور أهل فلسطين الذين مروا بتجربة مرة في العام 1948. والسؤال الذي يثيره المرء هو: ما الصورة التي يبرزها هؤلاء لليهود؟ الصورة التي تشكلت من تجربة، لا التي ورثت أو تشكلت من خلال القراءة أو السماع فقط. وهل تختلف هذه الصورة عن تلك التي ظهرت لهم في نصوص كتاب لم يعرفوا اليهود عن قرب، ولم يصغوا مباشرة إلى أشخاص عرفوا اليهود؟ بل هل تختلف تلك الصورة عن تلك التي ظهرت في أعمال أدبية إسرائيلية أنجزها أدباء مروا بتجربة الحرب في العام 1948، وكانوا شهودا عليها، مثل (يزهار سميلانسكي) في "خربة خزعة" و"الأسير"، و(بنيامين تموز) في "منافسة سباحة"، وقد ترجمت هذه كلها إلى العربية.
يبرز اليهودي في بعض قصص سلمان ديوثا. يمارس الضابط الإنجليزي الحب مع زوجته الشقراء ويمل منها، ويبدي رأيه أمام شلومو قائلا:

" سئمت منها... أبحث عن واحدة سمراء قمحاوية"
ويقهقه الخواجه شلومو ويعد الضابط قائلا:
"غدا مساءً" (ص14و 15)

وربما تذكر المرء هنا رواية توفيق فياض "وادي الحوارث"، وهي رواية صدرت في بدايات التسعينيات من القرن العشرين- أي بعد كتابة سلمان قصته بستة عشر عاما تقريبا، وهنا يتساءل المرء: هل الديوث اليهودي موجود حقيقة ام أنه تصور عربي ليس أكثر؟
في 13/4/2004 نشرت جريدة الأيام في ملحقها "المشهد الإسرائيلي" مقالة عنوانها: "بحث إسرائيلي جديد: الحركة الصهيونية أقامت أيام الانتداب جهازا خاصا لفتيات يهوديات مضيفات!" ومما ورد فيه:

"نشرت صحيفة "هآرتس" في ملحق عددها الصادر يوم الأحد (11 نيسان 2004) تحقيقا كشفت فيه معدته (دانيئيلا رايخ) النقاب عن أن الحركة الصهيونية أقامت في عهد الانتداب البريطاني في فلسطين جهازا خاصا يضم آلاف الفتيات "المضيفات" اليهوديات اللاتي كانت كل مهمتهن في نطاق هذا الجهاز هي "الترفيه والترويح" عن جنود وعساكر القوات البريطانية وغيرها من جيوش دول الحلفاء الذين كانوا ينزلون للراحة على شواطئ البلاد خلال الحرب العالمية الثانية وذلك في إطار مساعي الزعامة الصهيونية لكسب تأييد تلك الدول لمشروعها الكولونيالي وتسهيل تحقيقه على الأرض الفلسطينية".

ولم يكن سلمان أول من أتى، في قصصه، على هذا. إن دارس الأدب الفلسطيني، في ثلاثينات القرن العشرين وأربعينياته، يعثر على نصوص برز فيها هذا (الموتيف) بروزا لافتا. الفتيات فيها يرسلن من الحركة الصهيونية للإقطاعيين العرب حتى يبيع هؤلاء أرضهم لليهود. ولعل مسرحية محمد عزة دروزة "الفلاح والسمسار"، وفي روايات أخرى "الملاك والسمسار"، من أبرز تلك النصوص، ومثلها أيضا مسرحية برهان الدين العبوشي "وطن الشهيد".
يتكرر في القصص التي كتبها سلمان، وفي الشهادات التي سجلها أيضا نموذج اليهودي الذي يحكي باللغة العامية البدوية. ما يعني أن ما يرد في القصص التي كتبها هو ليس خيالا أو اختراعا، فالشيخ مشقق الوجه الذي يروي لسلمان يتحدث عن يهود على هذه الشاكلة، في مقطع المسيرة (ص26) يحكي شلومو باللغة العامية البدوية عن تجارة الخيل وعن مغامراته في المطلة، وفي ص30 يحكي الشيخ عن اليهودي الخبيث الذي جاء من رومانيا ويزعم أنه من صفورية. هذا اليهودي يتقن أيضا اللهجة العربية البدوية. وربما تذكر قارئ الأدب الفلسطيني إحدى قصص نجاتي صدقي في مجموعته "الشيوعي المليونير" (1963). هناك كتابهُ عن يهودي يعرف لغة العرب ولهجتهم وعاداتهم وتقاليدهم أيضا. وليس الأمر بمستغرب على أية حال، فهناك يهود عرب، وهناك يهود أوروبيون جاؤوا إلى فلسطين ودرسوا اللهجات والعادات والتقاليد.

وفي "ذاكرة" تبرز أسماء يهودية حقيقية، وليس هذا بمستغرب، ذلك أن الشيخ مشقق الوجه يروي أحداثا عاشها، وعن أشخاص حقيقيين عرفهم، فثمة علاقات بين العرب واليهود، قبل العام 1948، علاقات تجارية، وعلاقات عمل، وعلاقة جيرة. كان (موشيه دايان)، وزير الدفاع الإسرائيلي في فترة من الفترات، كان راعيا، ولما تأسست الدولة غدا وزيرا. ويلتقي ببعض معارفه العرب، بعد النكبة، ويتمازحان: صرت وزيرا يا (دايان)، فيرد عليه: "غصب عنك. خليك انت راعي" ولم يراع الوزير الصداقات القديمة، مثله مثل يهود كثيرين في "ذاكرة"، غدا ولاؤهم للدولة أولا، ويردد الشيخ مشقق الوجه في داخله:

 حتى من هاي النعمة حرمتونا.. أي هو بقي أرض نرعى فيها؟!

إن وفاء السموأل الذي قرأنا عنه ونحن ندرس الشعر الجاهلي، يبدو لدى يهود دولة إسرائيل في أكثرهم، ضربا من الوهم، الوفاء هنا للدولة، لا للحق. الأرض للدولة لا لأصحابها، وقليلون هم اليهود الذين يضحون بأبنائهم أو بأنفسهم من اجل إعادة الأمانة إلى أصحابها.
يكتب سلمان، طبعا على لسان الشيخ مشقق الوجه، عن فنان يهودي لطيف سكن في بيت عرب، وقد أدرك مأساة هؤلاء، وبهذا قرر أن يترك البلاد. هذا مثل السموأل، لكن هناك فنانين آخرين يختلفون عنه. والفنان رقم 2 فنان سيء، يقيم في بيت عرب، وحين يعود هؤلاء ليطالبوا به، يرفض الخروج منه، بل إنه يطالب بتعويضات لأنه حفظ البيت وأصلحه.

"قيل مرة للفنان ايتشي مامبوش: هل تعلم أن الدار التي تسكنها لها أصحاب مشردون في مخيم جنين؟ فأجاب: إنهم مدينون لي بالشكر، فقد حافظت على البيت وزدت عليه وأصلحته ونظفته!
وإذا جاء يطالبك به؟
  سأجبره على دفع التعويضات عن كل ما أنفقته، وعن تعبي في صيانته" (ص37).
في "ذاكرة" يتكرر على لسان الشيخ أيضا عبارات نعت بها اليهود في نصوص أدبية أنجزها أدباء كتاب لم يصغوا فيها إلى شخصيات تقص، ودوّن الكتاب ما سمعوا. لقد توقفت أمام هذا في كتابي "اليهود في الأدب الفلسطيني ما بين 13 و 1987" (1991). يرد على لسان الشيخ كلام عن خبث اليهود وعن ابتسامتهم الصفراء، وينعتون بأنهم أبناء ميتة (ص32) ويوصفون أيضا بأنهم داهية. ترد في ص57 الفقرة التالية عن دهائهم:
"بعثوا لي: أرضك مصادرة! نزلت قابلت موظف اسمه (دافيد ياو) سألني:
  وين أنت ساكن؟
  في شفا عمرو
  اللي غادر بيته مسافة أربعين متر صار لاجئ!... أرضك مصادرة!.. بدك تمشي حسب القانون: تفضل، بدكش سكتر من هون!
  أرضي 180 دونم... أعطوني 30 دونم."
وفي مكان آخر يأتي اليهود إلى القرية ويجتمعون بأهلها ويخبرونهم بأنهم يريدون بناء مدرسة، لكنهم، بعد أن أخرجوا السكان من القرية، هدموها كلها (ص89، ص90).

والجنود اليهود في العام 1948 كانوا قساة، يقتلون بلا رحمة. فلقد رحلوا العرب بالقوة. وربما تذكر المرء هنا ما ورد في كتاب التطهير العرقي لـ(إيلان بابيه)، بل إن المرء سيتذكر هذا، وهو يقرأ "ذاكرة"، مرارا، ما يعني أن الصورة التي يبرزها الشيخ مشقق الوجه لليهود ليست نابعة من حقد سببه تهجير العرب، وليست صورة غريبة غير صحيحة. وربما تذكر المرء الصورة التي أبرزها (يزهار سميلانسكي) في "الأسير" و"خربة خزعة" للجنود اليهود وما فعلوه بالقرى العربية. ومن المؤكد أن المرء سيتذكر قصة (بنيامين تموز): منافسة سباحة"، وهو يقرأ ما يرد في " ذاكرة" تحت عنوان: "المختار" (ص40 وص41).

يطلب مختار القرية من الضابط يهودا أن يعيده إلى القرية، يطلب منه هذا بحق الجيرة والمعرفة السابقة، ولكن الضابط يكون "لطيفا وإنسانيا"، فيتركه يرحل، ليقوسه الجنود بعد لحظات.

في القسم الثالث من "ذاكرة"، وهو المستل من كتاب "هل قتلتم أحدا هناك؟"، الكتاب الذي يبدو أشبه بسيرة ذاتية لسلمان، يكتب المؤلف عن نماذج يهودية التقى بها وجها لوجه. الصورة التي يقدمها هنا ليست معتمدة على روايات سمعها من الآخرين، وليست شخصيات قصصية يجري عليها تعديلات وتغييرات، فيكون لها نصيب من الواقع وآخر من الخيال.

يذهب سلمان ليرى بيت الشاعر الفلسطيني الذي مات في المنفى: عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، وهناك تقيم امرأة يهودية عجوز قدمت من رومانيا. ترحب به هذه، وتشكو مما هي عليه.

"- البيت قديم، وقد طلبت من البلدية أن تعطيني بيتا آخر، ولكن لا يوجد فلوس.. أسكن في غرفة واحدة، هنا مطبخ وهنا حمام وهنا غرفة مسدودة بالباطون.. سدتها البلدية، إنها تدلف، جدرانها مشققة، وشبابيكها محطمة...

مد حنا يده وصافح السيدة العجوز.. الدمعة التي تراخت على الرموش الذابلة انقسمت، وتساقطت على خده". (ص170).
وحنا هو حنا نقارة صديق أبي سلمى. ولأنه شيوعي فقد أشفق على هذه العجوز اليهودية التي تعاني. ليس حنا، ومثله سلمان الذي كان عضوا في الحزب الشيوعي، ضد اليهود لأنهم يهود. وربما تذكر المرء هنا رواية غسان كنفاني "عائد إلى حيفا" (1969)، وربما تذكر (ميريام) و(ايفرات كوشن) اللذين احتلا بيتا عربيا وأقاما فيه، وشعرا في البداية بأنهما خدعا.

ولأن لسلمان تجربة مع المحققين من رجال الشرطة، فقد كتب عن هؤلاء أيضا. لم يتصرف هؤلاء معه بالقسوة التي تصرف بها جنود الدولة مع السكان العرب في العام 1948. تغيرت الظروف، ولم تعد عقدة إنشاء الدولة اليهودية تحكم الصهيونيين. لقد قبلوا، على مضض، ببعض السكان العرب.
المحقق هنا سادي، والمحققون ثلاثة: طيب وشرير وبشع، الأول يطلب منه أن يرتدع عن خطه السياسي المناهض للسلطة، ويغريه بالمال والمنصب، وحين يرفض سلمان ذلك، يتركه ويغادر. والشرير/ الثاني يهدده بأن بإمكانه أن يخرب بيته، وأن يجعل حياته جحيما، وأما الثالث فينظر إليه نظرات مرعبة ويخاطبه قائلا:

"- من أنت؟ ماذا تساوي؟.. أنت لا تساوي الرصاصة التي ستخترق دماغك... لا.. لن نخسر عليك حتى رصاصة" (ص173).
ويهدده بأنه سيدهس. فجأة ستأتيك سيارة شحن كبيرة (سيمترلر)، وتدوس عليك كما يدوس الفيل على النملة.هكذا يتعامل الإسرائيليون مع العربي المعارض سياسيا لسياسة الحكومة.

وهذه هي الصورة التي تبرز في كتابات سلمان ناطور لليهود، في كتاباته القصصية والتسجيلية والسير ذاتية. وربما تساءل القارئ: ولكن ماذا عن صورة الإنجليز، باعتبارهم آخر ثانيا، ثم ماذا عن صورة الذات أيضا؟
لعلني أقارب هذا في مقالة ثانية.

* ملاحظة: النصوص المقتبسة منقولة كما وردت في كتاب "ذاكرة".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى