الأحد ٢٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢١
بقلم سعاد درير

رحيلُك أطفأ وجهَ القمر..

تلك التي تُذَكِّرُكَ لمساتُ أصابعها بقطعة الحرير، تلك التي تُجاوِرُكَ في السرير، تلك التي تَستميت في تحويل حقلِ الشوك إلى أعمدة نورٍ تُضيء مدينةَ الورد المشتعل في خَدَّيْكَ، تلك «أحلى وطن» كما سَمَّاها راعي قمر الشِّعر العربي الحديث واصفاً سيدتَه ومولاته وقرينةَ حياته ومُلْهِمَةَ أوقاته بلقيسَ أيامِه الهاربة من محطة عُمره الأخيرة.

نتحدث، يا سادة، عن مُحِبٍّ، والحُبُّ عِبادة، مُحِبّ عَشقَ نصفَه الآخَر، مُحِبّ هو ذاك الذي صَحَّحَ المعلومات لِمَنْ فَرَّطُوا في تقديس الزوجات.

زوجتُكَ مصباح سِحري يُرِيكَ ما لم يَحلم برؤيته المسكين علاءالدين، وأنتَ أنتَ مازلتَ تَستهين وتَستهين، وتنسى أن تَذْرِفَ الدموعَ تكريما لِمَنْ تُكَرِّمُكَ وعرفانا لِمَنْ تَعترف بكَ وطاعةً لِمَن تُطيعكَ وعشقاً لمن تَعشقكَ، تَعشقك هي ولا تنام، لا تنام إلى أن تَنام أنتَ، بل تَحرسكَ بدعواتها لك سِرّاً بأنْ يَحفظكَ لها مولاك ما حَفِظَهَا.

شاعر، قيلَ عنه إنه زيرُ نساء، قال في الزوجة ما لم يَقُلْهُ في النساءِ الشعراءُ، شاعر أَلْهَمَه الحُبُّ وأَلْهَبَه، شاعِر جَمَّدَه العِشْقُ وذَوَّبَه، هو الباني لِصَرْحِ المعاني لن يَكون بآخَر غير الكبير نزار قباني.

«بلقيسُ
مطعونونَ مطعونونَ في الأعماقِ
والأحداقُ يسكنُها الذُهُولْ
بلقيسُ
كيف أخذتِ أيَّامي وأحلامي
وألغيتِ الحدائقَ والفُصُولْ؟
يا زوجتي
وحبيبتي وقصيدتي وضياءَ عيني..
قد كنتِ عصفوري الجميلَ..
فكيف هربتِ يا بلقيسُ منّي؟» [نزار قباني].

نزار، ذاك الذي سبق أن وَقَفْنَا عند خيمته في بلاد الشِّعر ووجدناه راكعاً لِقِدِّيسةٍ قليل عليها أن يُقَبِّلَ قدمَيْها وهو يقطر بين يديها شهدَ «خمس رسائل إلى أمي»، لم يَغِبْ عليه أن يُرصِّع معصمَ الزوجة بالياقوت نفسه الذي رَصَّع به جيدَ الأُمّ، كيف لا والزوجة المتفوقة في مَدْرَسة الحياة لا تخرج عن الأُمّ الروحية التي تَظَلُّ تُذَكِّره بتلك الأُمّ التي لا يَكبر هو قُدَّامَها، ويَظَلّ صغيرَها الذي لا يُفارِقُ سريرَها، سريرَ حضنها وركبتيها اللتين يَأخذ منهما البركة.

من قلب «الأعظمية» اختطف نزار قباني زهرة اللوز الندية بِحُبّ عَلَّمَ الرَّجُلَ أنَّ المرأةَ خُلِقَتْ له، لكنَّ الأيامَ الشقية عَلَّمَتْه كيف يُصبح اللوز مُرّاً، وكيف يَعِزّ على القلب أن يُحَلِّقَ حُرّاً بعيدا عن سماء تَكفيه، وحضن يُعَشِّشُ فيه، حضن المرأة هو.

«يا أعظمَ المَلِكَاتِ..
يا امرأةً تُجَسِّدُ كلَّ أمجادِ العصورِ السومَرِيَّةْ..
بلقيسُ
يا عصفورتي الأحلى
ويا أَيْقُونتي الأَغْلَى
ويا دَمْعَاً تناثرَ فوقَ خَدِّ المجدليَّةْ..
أَتُرى ظَلَمْتُكِ إذْ نَقَلْتُكِ
ذاتَ يومٍ من ضفافِ الأعظميَّةْ؟!» [نزار قباني].

لِمَنْ يَتَّهِم القباني بأنه يُمَرِّغُ قلبَه في تراب مَعْبَد النساء نَقول إنه أَنْصَفَ المرأةَ أُمّاً وزوجة، وقال فيهما ما لا يَتفوق عليه فيه شاعر.

هل كان نزار في حاجة إلى كتابة مرثية من باب استعراض عضلاته الشعرية، هو الذي تَفَوَّق على شعراء جيله في اختيار أقرب طريق للوصول إلى القلب؟!

أم كان نزار يَبحث عن اقتناص قلب امرأة أخرى هو الذي عَلَّمَتْه بلقيسه أنْ يَزهدَ في غيرها مِن النساء؟!

«بلقيسُ...
كانتْ أجملَ المَلِكَاتِ في تاريخ بابِلْ
بلقيسُ..
كانت أطولَ النَخْلاتِ في أرض العراقْ
كانتْ إذا تمشي..
ترافقُها طواويسٌ..
وتتبعُها أيائِلْ..
بلقيسُ يا وَجَعِي
ويا وَجَعَ القصيدةِ حين تلمَسُهَا الأناملْ..
هل يا تُرى
من بعد شَعْرِكِ سوفَ ترتفعُ السنابلْ؟» [نزار قباني].

بلقيس، تلك هي الزوجة المدلَّلة، وبلقيس دائما هي الزوجة المدلِّلة..
بلقيس تَوَّجَها نزار بمفتاح الأسرار، قلبه، قلبه المنهار بعد رحيلها..
بلقيس بالنسبة لنزار هي القصيدة، هي المرأة القصيدة، وبالْمِثل هي روح القصيدة..
تدمير السفارة العراقية، في بيروت، هو تدمير لِمَنْ كانتْ تُزَوِّدُ قلبَ نزار بالقُوت، هو تدمير للحُلم وتأسيس لتاريخ الكوابيس التي لم تَغِبْ عن ليل نزار منذ أَكَلَ ليلُه النهارَ..
«شُكْرَاً لَكُمْ
فحبيبتي قُتِلَتْ وصارَ بوسْعِكُم
أن تشربوا كأساً على قبرِ الشهيدة..
وقصيدتي اغتيلَتْ
وهَلْ من أُمَّةٍ في الأرضِ
إلاَّ نحنُ تغتالُ القصيدة؟» [نزار قباني].

حين يَبكي نزار بلقيسَه فهو يَبكي نخلةَ العراق وكعبةَ الأشواق.. بابل تَبكي بلقيسَها، ولا حضارة للرجُل إلا في عيون بلقيس..
بلقيس سيدة الربيع تَرحل، ويَرحَل معها الربيع..
بلقيس تُخَلِّفُ في قلب نزار ما يُخَلفُه غيابُ الأُمّ في قلب الرضيع..
«بلقيسُ..
مُشْتَاقُونَ مُشْتَاقُونَ مُشْتَاقُونَ..
والبيتُ الصغيرُ
يُسائِلُ عن أميرته المعطَّرةِ الذُيُولْ
نُصْغِي إلى الأخبار والأخبارُ غامضةٌ
ولا تروي فُضُولْ..
بلقيسُ..
مذبوحونَ حتى العَظْم
والأولادُ لا يدرونَ ما يجري
ولا أدري أنا ماذا أقُولْ؟!
هل تقرعينَ البابَ بعد دقائق؟
هل تخلعينَ المعطفَ الشَّتَوِيَّ؟
هل تأتينَ باسمةً
وناضرةً
ومُشْرِقَةً كأزهارِ الحُقُولْ؟» [نزار قباني].
بلقيس الزوجة والحبيبة والقصيدة وضياء العين، هكذا آثَرَ نزار أن يَصفَها لنا، هي المرأة الْمِرآة التي تَقرأ أنتَ فيها أرقّ الآيات، آيات الجَمال الذي يُحَيِّي جَمال روحك.
في غياب بلقيس تَرى الحزنَ يثقب قلبَ نزار ويَمحو ضوء النهار..

«ها نحنُ يا بلقيسُ
ندخُلُ مرةً أُخرى لعصرِ الجاهليَّةْ..
ها نحنُ ندخُلُ في التَوَحُّشِ
والتخلّفِ والبشاعةِ والوَضَاعةِ..
ندخُلُ مرةً أُخرى عُصُورَ البربريَّةْ..
حيثُ الكتابةُ رِحْلَةٌ
بينِ الشَّظيّةِ والشَّظيَّةْ..
حيثُ اغتيالُ فراشةٍ في حقلِهَا
صارَ القضيَّة» [نزار قباني].

بلقيس مَلِكَة حياة نزار رَحيلُها أطفأ وجهَ القمر، بلقيس رحيلُها مهَّدَ لضياع نزار وزينب وعمر..
«بلقيسُ
كيفَ تركتِنا في الريح
نرجفُ مثلَ أوراق الشَّجَرْ؟!
وتركتِنا نحنُ الثلاثةَ ضائِعِينَ
كريشةٍ تحتَ الْمَطَرْ..
أتُرَاكِ ما فَكَّرْتِ بي
وأنا الذي يحتاجُ حُبَّكِ مثلَ (زينب) أو (عُمَرْ)» [نزار قباني].
بلقيس حكايةُ لوز مُرّ..

بلقيس امرأة لن تَتكررَ، فمثلها لا توجَد اثنتان كما يُقرُّ نزار الفنَّان، الفنَّان حتى في أحوال الرثاء..
تَسْمُو روحُ بلقيس الْمُبْحِرَة في عُيون قلب نزار رغم أن الجسدَ رَحَل، فهَلْ يَكون هذا أقصى ما تَنتظره امرأةٌ مِن رَجُل؟!

نَمْ قريرَ عينَيْ مولاتك وقلبِها يا مذبوحاً حتى العظم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى