الجمعة ١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٢
ضيف في بيته

زوج نصف ساعة . . في اليوم!

ربما نثلج هذه السطور قلوب الزوجات . . ربما تطفئ قليلاً تلك النيران المشتعلة والمتأججة في النفوس . . ربما تلطف بعض الشيء من سخونة ذلك الاحتجاج النسائي اليومي الذي يرتطم صداه على جدران وحوائط بيت الزوجية دون أن يجد إجابة شافية. المشهد يتكرر في معظم البيوت المصرية والعربية زوجة تضع يدها على خدها في انتظام زوج لا يأتي إلى بيته سوى لدقائق معدودة. مجرد نصف ساعة في اليوم!

زوجة تعاني الوحدة . ينهشها الملل وتنالها الكآبة . . زوجة تربي وحدها أبناءها وتجدف بساعديها مركب الأسرة الذي يبحر في أمواج الحياة المتلاطمة. البيت صار فندقاً! يتناول فيه الزوج طعامه . . يأخذ حمامه . . يستبدل ملابسه . . يستريح في فراشه قليلاً ليعاود مرة أخرى الخروج . وحينما يتذكر فجأة دوره كأب، ويشعر برهة من الزمن بتأنيب الضمير، يسأل زوجته لاهثاً وبشكل عابر "الأولاد عاملين إيه؟" ثم يردف وكأنه يجيب على تساؤله "كله تمام" وأخيراً يضيف بشيء من الاهتمام المصطنع "مش ناقصهم حاجة؟" أو في أحيان أخرى يسأل وهو يفتح باب الشقة ويهرع الى الخارج "مش عاوزين حاجة أجيبها معايا؟" . . وقبل أن يتلقى الإجابة يصفق الباب خلفه، وتتسارع قدماه قافزة الدرج في نشاط وحيوية.

تلك كانت صورة قلعية للزوج الهارب من بيته . . الزوج الضيف الذي لا يكاد يعرف شيئاً عن أحوال أسرته . . الزوج الزائر الذي يتفقد أرجاء الغرب والحجرات ويستفسر عن "أخبار" أبنائه وبناته تماماً مثل زائر غريب عن البيت!

ترانا قد بالغنا في وصف صورة الزوج الضيف الذي يمكنث نصف ساعة فقط في بيته؟ أم ترانا قد أصبنا الهدف في الصميم؟

نعم أن تلك الصورة سوف تضغب الأزواج وسوف تثير أيضاً الخلاف والشجار ولكن كمايقولون لا يصح إلا الصحيح . . الأب – سادتي – ليس مجرد حافظة تزخر بالنقود والأموال . . والزوج ليس رجلاً يحقق فقط الأمان المادي للزوجة . . إنه أكثر من ذلك بكثير . . أنه ضلع أساسي في مثلث الأسرة . . ذلك المثلث الذي لا تستقيم أحواله إلا بأضلاعه الثلاث: الأب، الأم، الأبناء، إنه أولاً وأخيراً زوج يغمر زوجته بحنانه وحبه واهتمامه. . أب يرعى أبناءه يسهر لراحتهم ويسعد لرؤية طرحه الأخضر الندى ينمو ويترعرع أمام عينيه. .

قالت لي زوجة تعيش ف يخضم المجتمع المخملي الناعم المقرف "لا أكاد أرىه .. لا أكاد أقابله سوى مصادفة في البيت . . ربما وهو يتناول بعض الكلمات العابرة . . يسألني عن أحوالي وأخبار الأولاد . . وفي أحيان أخرى يترك لي نقوداً على البوفيه ويستغسر عما إذا كنت أحتاج الى المزيد . . ماذا أقول . . أنه لا يفهم ولا يقدر أنني أحتاجه هو معنا في البيت مع الأولاد . . في حياتنا . . نعم لدى كل ما تحلم به أي امرأة في هذه الدنيا، ولكن ليس لدى زوج يشاركني عاملي وحياتي!"

التواصل . . بالمحمول!

وقال لي زوجة أخرى والمرارة تسكن ملامح وجهها: "تصوري لولا اختراع اسمه المحمول لما تمكنت يوماً من أن أتواصل مع زوجي . . لما استطعت أن أعرف أخباره ومشاريعه . . في السابق كنا نتبادل الراسئل والخطابات! أعود من عملي فأجد ورقة مطوية فوق المنضدة . . أفضها وأقرأ سطورها التلغرافية القصيرة التي تخبرني عن أحواله في اقتضاب . . .

أما الآن وبعد ظهور "الموبايل" في حياتنا صرنا نتبادل كلمات سريعة يومية . . يسألني عن الأخبار والأحوال وفي بعض الأحيان يستفسر عن أمور الأولاد . .

تصوري سألني مرة وهو يضحك وكأنه يقول دعابة "هي البنت بقت في سنة كام دلوقت؟ في الابتدائية مش كدة؟ صمت برهة قبل أن أجيبه . . كنت أعرف أنه لا يهزر وأنه لا يعلم حقاً في أي سنة دراسية ابنته!!"

كالزوبعة . . يأتي !!

ولم تختلف كلمات نهلة زوجة في الأربعين وأم لثلاثة أبناء في مراحل التعليم المدرسي المختلفة عن الكلمات السابقة. .

كانت المرارة قاسماً مشتركاً لحديثهما . .
تقول وهي تضرب يداً على يد "إنه مجرد ضيف في بيته .. زائر عابر يزورنا في الظهيرة ليتناول طعامه أو ربما ليستريح قليلاً ليعادو الخروج، أو يأتي الينا في المساء ليخلد فقط الى النوم . .

وحينما يتكرم ويمنح بيته دقائق سريعة لاهثة يثير المشاكل ويلاحق الأولاد بالاستفسارات والأسئلة، ويقلب نظام البيت وقوانينه رأساً على عقب، ثم يمضي في طريقه ولا يحفل بتلك الزوبعة التي أثارها خلفه!

نحن سادتي من خلال هذا التحقيق لا نشعل بالتأكيد حرباً . . ولا نفتعل معركة ضد الرجال . . ولا نبحث عن فتيل نزيد به من حمرة لهيب الجمر . . نحن نسعى فقط الى سعادة الأسرة المصرية واستقرار أحوالها ونهدف الى تفنيد أوضاع مجتمعية خاطئة طال بقاؤها.

لكل هذه الأسباب دعونا نناقش الأمر بصراحة دون زيف أو افتعال. . دعونا نستمع الى آراء الخبراء.

أضلاع مثلث الأسرة!

دكتورة سامية حافظ خبير علم النفس الاجتماعي بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية تفند معنى أبعاد تلك المشكلة المهمة وتقول لنا في لهجة مؤكدة: "تختلف أسباب تغيب الزوج عن البيت بوجه عام .. فالزوج في الشريحة العليا من المجتمع، في تلك الطبقة المرفهة التي لا تعاني من مشاكل مادية يتغيب عن البيت للهو .. ولإشباع هوايته وحياته الاجتماعية وربما أيضاً لمجرد بعثرة الأموال! أما الزوج في الطبقة المطحونة، تلك الطبقة التي تكد وتتعب وتعمل ليلاً ونهاراً لمجرد سد الاحتياجات الضرورية والأساسية للأسرة فهو يتغيب لأسباب قهرية ليس له يد فيها، إنه مجبر ولا خيار لديه . . ولكن في الحالتين، في حالة الطبقة الثرية المرفهة والطبقة الفقيرة المعدمة، نحن أمام أسرة تعاني من التفكك وعدم الاستقرار، وفي الحالتين ايضاً يكون الأبناء ضحية لهذا التغيب. فهم قد يعانون من مشاكل نفسية وعصبية وقد تتفاقم الأمور وتصل الى حد الإدمان والسلوك غير السوي. .

فالأبناء هنا يفتقدون لأبيهم، ولتعويض هذا الفقدان يبحثون عن وسيلة إشباع من الخارج، هذا الإشباع قد يكون صديق سوء، صحبة سلبية، فالإمكانات المادية المتوفرة – لدى الطبقة المرفهة، قد تقودهم الى طريق سلبي، وحينما تصبح الزوجة يوماً في احتجاج وثورة مطالبة تدخل زوجها وبقاءه في البيت مدة أطول، يهتف بدوره في خنق وضيق "أنت عايزين مني إيه أكثر من كده . . عايشين أحسن عيشة .. إيه اللي ناقصكم؟ وكأن دور الأب ينحصر في مجرد تلبية الطلبات المادية وتوفير النقود . .

الأسرة الفقيرة تبدو أحوالها مختلفة، لكنها تعاني، كما أشرنا – من ذات المشكلة فالأب غيابه يطول، إنه يشغل عدة مهن من أجل أن يوفر عدة جنيهات فقط لأسرته، والأم مطحونة تباشر شؤون الأولاد وقد تعمل أيضاً، ضغوطات عديدة إذن تواجهها، ورغماً عنها وبسبب تلك الظروف الصعبة وعدم سيطرتها الكلية على أحوال البيت، قد ينفلت عيار الأبناء، فيتعرضون للانحراف . .

على صعيد آخر تؤكد الدكتورة سامية أن الزوجة تحتاج الى زوجها ليس فقط من أجل الأبناء، ولكن من أجل استقرارها النفسي .. من أجل إشباع احتياجاتها ورغباتها المختلفة، والمرأة التي تفتقد وجود زوجها في حياتها تنعكس أحوالها صحياً ونفسياً بالسلب مما يؤثر بالتأكيد على أسلوب تربيتها للأبناء. .

مقاطعة أسألها: "هل تعد تلك الأزمة بمثابة ظاهرة مجتمعية؟" على الفور تقول: "أخشى أن تصبح كذلك، لقد بدأ نطاقها يتسع في مجتمعنا، والناحية الاقتصادية عامل أساسي في تدعيم تلك الأزمة، ها نحن عبر هذه السطور ندق الأجراس . . وننادي في الوقت نفسه بتكوين أسرة أعضاؤها أسوياء ومتماسكون، ونطالب بوجود الأضلاع الثلاثة لمثلث الأسرة.

اثنان . . وثالثهما التليفزيون

الدكتور مجدي عرفة أستاذ الطب النفسي بقصر العيني يؤكد لنا على صعيد آخر أن المشكلة لها بعد عام واقعي لا يمكن تجاهله بأي حال من الأحوال، بعد متعلق بإيقاع العصر الحديث، هذا الايقاع السريع اللاهث الذي بات سمة من سماته.. فالزوجان قد يعملان صباحاً ومساءً، وحينما يلتقيان يكتفيان بمجرد تبادل كلمات سريعة قليلة تترجم ذلك الإرهاق الذي يشعران به .. فحتى هذا الوقت القليل المحدود الذي يجمعهما يكون فيه التليفزيون شريكهما، يجلسان أمامه، يحدقان في شاشته، ليستحوذ هذا الجهاز على انتباههما على حساب الحوار والتواصل العاطفي المتجدد الذي تحتاجه أي حياة مشتركة.

من ناحية أخرى يختلف نمط سلوك الزوج خارج البيت، وتختلف بالتالي شخصيته، حيث يجد متعته في نمط حياة بعيد عن الأسرة والتزاماتها وواجباتها التي لا تنتهي . . مع أصدقائه . . في خضم علاقات ونشاطات يسترد من خلالها حيويته وانفاسه .. فتراه يقبل بقوة على الحياة خارج البيت ويتغيب بالتالي لفترات طويلة عن أسرته .. ولأن المجتمع في النهاية يسمح بتلك المساحة من الحرية، بل نراه أحياناً يباركها، ربما لهذا السبب يقضي الزوج فترة محدودة في بيته.

ويؤكد الدكتور مجدي عرفة أن الزوجة على صعيد آخر تبدو مثل الطفل الذي يريد أن يستأثر باهتمام والده ومشاعره طوال الوقت دون إدراك لأي اعتبارات وقتية أو عملية لاحتياجات الطرف الآخر، إنها علاقة أخذ فقط، وليس علاقة أخذ وعطاء وفهم مشترك.

والحل .. أسأله في إلحاح . . ماذا نفعل لكي نعيد التفاهم والتواصل بين الأزواج؟

يقول ضاحكاً: "الأمر ليس سهلاً .. ليست هناك نصائح ذهبية جاهزة أقدمها للطرفين، ولكن المفتاح يكمن في قدرة الإنسان في الوصول الى النضج الذي يمكنه من إدراك أهمية هذا الاحتياج، والعبرة هنا ليست بالوقت الذي يقضيه الزوج داخل بيته، ما يصنع الفرق هو نوعية الوقت ، كيف يكون زاخراً بالحضور الحقيقي . . بالحب والتفاهم ، تلك هي القضية الأساسية في رأيي . .

العيش في جلباب الزوج!

دكتور إسماعيل يوسف أستاذ الطب النفسي بجامعة قناة السويس يقول لنا في لهجة واثقة وحازمة في آن واحد: "الإنسان حيوان اجتماعي، لايجد متعته سوى بوجود الآخر في الحياة، لا يعرف كيف يأكل ، كيف يشرب، كيف يقضي ساعات يومه سوى بصحبة الآخر .. تلك هي قوانين الطبيعة ..

الزوجة هنا في قضيتنا التي تناقشها تريد زوجها لها فقط إنها تريد أن تستأثر به دون أن يشاركها الآخرون، وتلك الحالة نراها كثيراً في مجتمعنا المصري، إنها تريده خالص مخللص كما يقولون، وهذه بالطبع إشكالية والرجل هنا يصبح لديه حق في أن "يطفش" من البيت! يهرب من إلحاحها، من ملاحقتها المستمرة. . تبدو الزوجة وكأنها تعيش في جلباب زوجها .. في كل أمور حياتها ومجرياتها المختلفة لا تملك سوى مخرج واحد: إنه الزوج.. فهي مثلاص لا تملك هوايةخاصة بها .. عالم يشغلها ويطرد الملل من أيامها، هذه المشكلة تتبدى على وجه الخصوص حينما يكبر الأبناء ويشبون ويخرجون عن دائرة الأم ويصبح لديهم اهتماماتهم الخاصة. وهنا تلتفت الزوجة، تبحث عما يشغلها فلا تكاد تجد شيئاً .. المجتمع مسؤول بالطبع عن هذا الوضع، فهو لا ينمي هوايات الفتاة منذ الصغر. ولا يحفل بأن يكون لها اهتمام خاص ينم عن شخصيتها، والمرأة على صعيد آخر تتنازل عند أول أزمة عن عملها، بسهولة كبيرة تتخلى عن "كريرها" العملي وتعود الى البيت في سعادة وسرور، لماذا؟ لأن المجتمع في الحقيقة لا يتعرف جدياً بعمل المرأة، إنه يتعامل مع ه باعتباره شيئاً ثانوياً لا أهمية له وهنا تتحول الفتاة والمرأة الى كائن اعتمادي كلية. . ربما يشجع الرجال والأزواج هذه الفكرة . . أعني فكرة المرأة الاعتمادية التي لا تستطيع أن تتصرف أو أن تتحرك دون أن تلجأ الى زوجها، لكنه على صعيد آخر يضيق الزوج ذرعاً بتلك المطاردة وتلك الملاحقة التي تمارسها المرأة عليه .. لذلك نراه يكتفي بتلك النصف ساعة التي تتحدث عنها! ويشعر وهو أيضاً يقضيه أن يؤدي واجباً ثقيلاً، يفعله كارهاً!

الأمر يحتاج الى وعي متبادل من الطرفين، الزوج والزوجة، ويحتاج أيضاً، وهذا هو الأهم، الى وعي مجتمعي، لنيتحقق هكذا دفعة واحدة بل يتطلب سنوات وسنوات!

ليلى الراعي

عن الطبعة العربية من "الاهرام" الصادرة في الثامن عشر من اكتوبر 2002 .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى