سوف
وادي سُـــوفْ منطقة صحراوية تقع في الجنوب الشرقي الجزائري على الحدود التونسية فوق بحر من الرمال الذهبية عاصمتها (الوادي) سوف منطقة بشرية صحراوية، وحدة متفرّدة صنعها الإنسان بعرقه وكدّه على الرمال.
رغم صعوبة المناخ الصحراوي، لماذا يعيش سكانها في هاته المنطقة الصعبة ؟ لماذا يعملون هنا وعلى بُعْد كيلومترات إلى الشرق، أو إلى الغرب الظروف أقلّ صعوبة ومشقّة، ولمّا نتوغّل باحثين في تاريخ هذه المنطقة نجد أن الإنسان السوفي تمسّك بهاته الربوع الحارّة لأنه ، ولأنه فقط هو الذي صنعها (فسُــوفْ صنيع الرجال). حوّل الإنسان الصحراء بعبقريته الرائعة، وذهنيته الفريدة إلى واحات للنخيل أخّاذة، وعمارة ساحرة أمس واليوم، وحتى الغد، وحوّلها اليوم إلى منطقة تجارية تشعّ لا على منطقة سوف فحسب، بل في منطقة الجنوب الشرقي وما شماله.
لقد حدث تزاوج بين قساوة الطبيعة، وشجاعة الإنسان في هاته المنطقة فأنجبا التحديّ فارتسمت ملامح الإنسان السوفي ، ونمط حياته وتفكيره..لهذا المجتمع شعاراتٌ وأعْلى القيم هي الشرف، والانضباط، والحياء، واحترام الآخر، وروح التعاون.
المرأة في هذه الربوع سيّدة البيت بدون منازع..راعيته، وضامنة لقدسية الحياة الزوجية فيه، أناملها بصماتها في كل مكان، وفي كلّ نشاط ، تشارك الزوج في النشاط الاقتصادي أكان زراعيا، أم تجاريا، وإنْ لم يكن ذلك ولا هذا فهي تنسج الفُرش، والبرنس والقشابية، والزربية، وتخيط الملابس لها ولزوجها، ولأبنائها...
بهذا المدخل نعرض لكتاب متميّز يعرّف بهذه المنطقة صدر للكاتب الباحث في تاريخ المنطقة الأستاذ بن سالم بن الطيب بالهادف، عنوانه : سُـــوفْ، تاريخ وحضارة. الكتاب من الحجم المتوسط يقع في 194 صفحة طبْع مطبعة الوليد لمجمّع الورود لصاحبه الحاج البشير الجديدي.
بعد الشكر والعرفان، والتقديم والمقدمة، وبعض الأبيات الشعرية تمدح المنطقة قسّم الكاتب محتوى الكتاب إلى واحد وعشرين فصلا دون أن يشير إلى ذلك ولكن من خلال إبراز العناوين باللون وحجم الخط يتّضح للقارئ ذلك، وهي:
1 ـ الجغرافيا2 ـ التاريخ3 ـ حرب التحرير الكبرى في سوف4 ـ معالم في سوف5 ـ مظاهر السطح6 ـ الحياة الاجتماعية7 ـ رجال أعمال8 ـ أعلام سوف9 ـ سوف والهجرة10 ـ الحياة الروحية11 ـ لغة التخاطب في سوف12 ـ التنظيم الإداري في سوف13 ـ عادات وتقاليد في سوف14 ـ الساحة الثقافية15 ـ السياحة16 ـ الزراعة وتربية الماشية17 ـ الحيوانات والطيور والحشرات والزواحف18 ـ العمل الجواري19 ـ خصائص البادية20 ـ الحرف اليدوية21 ـ منوعات
سوف منطقة صحراوية وأرضٌ عمّرها الإنسان وبنى فيها عمارته المتميّزة وأقام عليها واحته الظليلة..فيها عاش كادحا مقاوما لطبيعةٍ قاسية طول السنة.سُــوف ليست منطقة طبيعية بل هي تجمّعٌ سكّاني يعتمد على التضامن وأساسه العيش الجادّ المثابر، وليست منطقة معزولة عن العالم، بل هي منطقة تفاعل مستمر، وطرْد بشري.
ومنطقة هجرة للذين لا تسعهم المنطقة لكسْب الرزق..ومع ذلك بيقى الارتباط بها وثيقا متينا، كذلك نجد الاقتصاد وما يحرّك دواليبه السمة الغالبة في المنطقة من تجارة بالدرجة الأولى، ومن فلاحة بالدرجة الثانية، ومن قطاع خدماتي، ومن صناعة.
وما يجنيه السوفي يخصصه للعمارة في أرض الأجداد، ولغراسة النخيل، والاستثمار في الفلاحة العصرية.لقد ساهم السوافة المهاجرون سواء في داخل الوطن، أو خارجه بقسط وافر في ازدهار المنطقة ..أهل سوف بحكم جوارهم للوطن التونسي فقد استفادوا كثيرا من جامع الزيتونة، لقد وفدوا له أفواجا أفواجا، نهلوا من ينابيعه، واستفادوا من شيوخه ؛ ولذلك تسجل الجزائر المستقلّة أنها استفادت كثيرا خاصة في مجال التربية والتعليم من منطقة سُــوف التي حمل أبناؤها لواء العلم والمعرفة في وقتٍ عصيبٍ أبت أمتنا إلاّ أن تعتمد على القدرات الذاتية لبلورة مبدإ الجزأرة .
لقد صدق منْ قال: إن كل مناطق العالم الأرضُ فيها هي التي تصنع الإنسان ؛ إلاّ " سُــــوف" فهي التي صنعت وتصنع الرجال، لقد تميّزت ربوع سُوف قبل الفتح الإسلامي فكانت تُدعى: ( تاكشبت) ما ترجمته في لغة الطوارق (قلمٌ وكتابةٌ)، وهذا تقديسٌ للعلم والمعرفة، وقد احتضنت المفكر الفيلسوف" القديس تولوت"
وجاء الفتح الإسلامي المبارك فتميّز فتحُها على يد أحد أعوان الفاتح الكبير عقبة بن نافع الفهري الذي أرسل حسّنا أحد نقبائه ففتح سُوف فتحا هادئا لم تسلْ فيه قطرة واحدة من الدماء، ودخل الناس أفواجا في دين الله.
تميّزت سُوف تميّزا خاصا في الإعداد لثورة التحرير المباركة، حيث كانت نقطة انطلاق لتجسيد نظرية الشهيد بلوزداد الذي أعلن من ربوع سُوف ( أنه ما أُخِذ بالقوة لا يُستردُّ إلاّ بالقوة )، وبدأ التحضير الجادّ الناجح من سوف.وبعد الاستقلال سُوف كانت رافد خير وبركة ولا تزال، وستبقى بإذن الله على الأمة في مجال الكفاءات، ومجال تأمين الغذاء ففيها أجود أنواع التمور وخاصة تمر دقلة نور، والبطاطا، والفول السوداني ، وأجود أنواع الإبل والغنم، ومن أنشط وأشهر مواطن الحركة التجارية الوطنية.
الإنسان السوفي رغم الرمال وقساوة الطبيعة والمناخ ما زال يحمل التحدّي يريد أن يجعل من ربوعه أغْنى الواحات، وأزْكى المناطق.
إن هذا الكتاب يعدّ بحقٍّ رحلة في تاريخ سوف التي هي قطعة عزيزة من الجزائر، ومنطقة استراتيجية ، ومفصل مهمّ لكونها محور رئيس بين ولاية ورقلة وولايات تبسة، وبسكرة وخنشلة وولاية توزر من تونس الشقيقة..الكتاب رحلة في تاريخ سوف أرضا وإنسانا..الكتاب رسْمٌ لملامح الإنسان الذي تحدّى الطبيعة وطوّعها لفائدته، وتأمّل فيما تحمله هاته الربوع من أمجاد وكنوز ثقافية .
الكتاب جدير بالقراءة للقارئ العادي، وضروري للباحث وللمثقف، وللطالب، وللمهتمّ بالتاريخ بخاصّة.