الجمعة ٢٩ تموز (يوليو) ٢٠١١

شجرة العابد

رواية تعزز الواقعية السحرية العربية

حسام إبراهيم

بين اليواقيت والجواهر.. بين نفحات إيمانية وإشراقات روحية وأنوار رمضانية تهل على مصر والمصريين، تبقي ثقافة التصوف معينا لا ينضب لإبداعات وكتابات بين الشرق والغرب وها هي نفحات إبداع تلهم روائيا مصريا بالتأسيس للواقعية السحرية في الرواية العربية المعاصرة بقدر ما تشد بالفضول المعرفي باحثا في جامعة هارفارد الأمريكية للكتابة عن مصر المتصوفة في زمن المماليك وهو الزمن ذاته الذي اختاره الروائي المصري عمار علي حسن في روايته «شجرة العابد».

وفي دراسة مستفيضة للرؤية النقدية لابن خلدون للصوفية علي مستوي الخطاب والفلسفة والسياسة أظهر الباحث جيمس ونستون موريس المتخصص في الفلسفة الإسلامية والحاصل علي الدكتوراة في لغات وحضارات الشرق الأدنى من جامعة هارفارد اهتماما كبيرا بالجوانب والأبعاد الاجتماعية ـ السياسية والمعرفية للصوفية مؤكدا أن التصوف كان بمثابة المعين الصافي والمنجم الثري للعديد من التجليات والصيغ الإبداعية البعيدة الأثر في الثقافة والحياة بالعالم الإسلامي.

وهكذا لم يكن من الغريب أو المدهش أن يقف مفكر في حجم وقامة ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع أمام التصوف بالتأمل والتحليل عبر الإبحار في هذه الموجات الإبداعية المتشابكة والمعبرة عن الأبعاد الثقافية للتصوف بجذوره العميقة في الوجدان العربي ـ الإسلامي فيما ينبه الباحث جيمس موريس، في دراسة له نشرها بإحدى دوريات جامعة هارفارد، إلى أحد الأسئلة الكبرى لثقافة التصوف كجزء من التقاليد المعرفية الإسلامية ككل وهو: «كيف السبيل للمعرفة الحق وما الذي نستطيعه ويجوز لنا معرفته كبشر؟».

وعلي طريق المعرفة ولج مفكرون مصريون وعرب من أبواب ثقافة التصوف ساعين للنهل من هذا العالم الثري وتحتفظ الذاكرة الثقافية العربية بإسهامات جليلة لأستاذ الفلسفة الراحل الدكتور عبد الرحمن بدوي صاحب كتاب «شهيدة العشق الإلهي» كما كتب هذا العالم الذي عرفته جامعات مصر وفرنسا وحاضر في العديد من الجامعات الأخرى في العالم كتاب تاريخ التصوف الإسلامي.

وكأن الأديب المصري الراحل الدكتور زكي مبارك قد قدم للمكتبة العربية كتاب "بين التصوف والأدب" كما قدم الأمام الأكبر الراحل وشيخ الجامع الأزهر الدكتور عبد الحليم محمود سلسلة غنية من كتب التصوف والثقافة الصوفية فيما أبحر صاحب نوبل وهرم الرواية المصرية والعربية نجيب محفوظ في التصوف ضمن بحاره الإبداعية وأرهص في رواية "ليالي ألف ليلة" بنزعة تشير للواقعية السحرية التي جاءت الآن لتشكل المعمار الروائي الكامل عند عمار علي حسن في "شجرة العابد" لتكون روايته هي المؤسسة لهذا الاتجاه في الرواية العربية المعاصرة.

واذا كان عمار علي حسن الذي عرف باهتمامه بالدراسات عبر النوعية والعلاقات بين الظواهر المختلفة والأنساق المعرفية المتعددة منطلقا من علوم السياسة قد حصل علي أطروحة الماجستير بدراسة عن "التنشئة السياسية للطرق الصوفية" ثم الدكتوراه بدراسة عن القيم السياسية في الرواية العربية فها هو ينتقل لغصن آخر في شجرة المعرفة الوارفة ويحط علي فرع إبداعات التجليات الروائية للثقافة الصوفية بـ"شجرة العابد" ليتجول في فضاء بأكمله من الواقعية السحرية وشخوص من عالم الأنس وعالم الجن ورحلات مثيرة بين الأرض والسماء والشك واليقين.

وتحققت الأصالة والجدة عبر صنع هذا الفضاء الواقعي السحري من التراث العربي ـ الإسلامي بنبعه العذب وحده دون أي مؤثرات دخيلة أو منابع غريبة علي مدركات رجل الشارع العربي فهنا النسيج الروائي مصري ـ عربي بالكامل وأسماء مثل عاكف وبرسوم وحفصة وبهي القناوي وابن رشد وابن حزم وابن خلدون الذي ورد اسمه في الرواية كنموذج للفهم الإنساني.

وعرف الأدب العالمي روائيين يشار لهم بالبنان وخاصة في أمريكا اللاتينية أبحروا بعمق في مجري الواقعية السحرية مثل الروائي الكولومبي وصاحب جائزة نوبل جابرييل ماركيز برواياته التي تزول فيها الحواجز بين الواقع والخيال ولكنها روايات تأتي في سياق ثقافي مغاير للسياق الثقافي العربي ـ الإسلامي الذي كان ينتظر واقعيته السحرية الخاصة به في الرواية المعاصرة.
ومن المفارقات الدالة وحسن الطالع أن رواية "شجرة العابد" التي تؤسس روائيا لواقعية سحرية عربية وتدور زمنيا في مصر المملوكية تأتي لكاتب مصري مخلص للمعرفة ومسكون برعشة الفن الأصيلة بعد أن كأن الباحث جيمس ونستون موريس قد لاحظ بأسف أن جمهرة الباحثين الذين تعرضوا للجوانب الثقافية للتصوف لم يدركوا بما فيه الكفاية أن قاهرة المماليك التي عاش فيها عبد الرحمن بن خلدون أسهمت بفعالية وبطرائق وسبل متعددة في التجليات الإبداعية للثقافة الصوفية بما في ذلك الفن والعمارة.

وكأن الناقد الدكتور حامد أبو احمد قد سعي لتأصيل الواقعية السحرية في الرواية وتتبع جذورها في التراث العربي في كتاب تناول فيه جذور هذا التوجه عبر ثلاثة جوانب أساسية هي روايات ألف ليلة وليلة وحواديت الجدات القديمة ثم الجانب الأسطوري فالجانب السريالي فيما جاءت رواية "شجرة العابد" كنص مؤسس بعمق وثقة للواقعية السحرية العربية الخالصة في الرواية المعاصرة بعيدا عن أي مؤثرات خارجية أو ما يسمي بالتجريب وأن كانت قد سبقتها إرهاصات أو نزعات تؤشر لهذا المجري الإبداعي الذي كأن ينتظر من يسبح فيه بالكامل.

وعبر صفحات رواية شجرة العابد تتردد أسماء شخصيات صوفية وأماكن روحية أسهمت في تشكيل الوجدان المصري والعربي بقدر ما اهتم بها "الغرب الثقافي" وفي صدارتها ذو النون المصري ومعروف الكرخي ومحيي الدين بن عربي جنبا إلي جنب مع القديس أنطونيوس الأب الروحي لنظام الرهبنة والسالك الأول للطريق الذي اتبعه الرهبان في كل العصور وصاحب الدير الذي يحمل اسمه علي سفح جبل الجلالة بالصحراء الشرقية.

وبين شجرة العابد وشجرة التصوف المباركة تتألق أسماء صوفية خالدة أسهمت في الحياة الثقافية للإنسانية كلها ناهيك عن العالم العربي ـ الإسلامي مثل محيي الدين بن عربي وجلال الدين الرومي والحلاج والجنيد والشبلي ورابعة العدوية وأبو الحسن الشاذلي وأبو حامد الغزالي وأبو العباس المرسي والسيد البدوي وإبراهيم الدسوقي ومعروف الكرخي وعبد الرحيم القنائي وصولا للإمام الأكبر شيخ الأزهر الراحل الدكتور عبد الحليم محمود والشيخ العلامة محمد متولي الشعراوي المحب للصوفية والمتصوفة وصاحب الإلهامات والفيوضات في تفسيره للقرآن الكريم وحتى الإمام الأكبر الحالي الدكتور أحمد الطيب الذي يعد من إعلام التصوف المعاصر.

وأوضح الباحث جيمس موريس أن العقدين الأخيرين شهدا اهتماما غير عادي علي مستوي دوائر البحث في الغرب بأعمال الشيخ الأكبر للصوفية محيي الدين بن عربي بل أنه يصف هذا الجهد البحثي "بالجهد المتعدد الجنسيات لمؤرخين ومثقفين وباحثين في تخصصات مختلفة بما يعبر عن حقيقة تعدد إبداعات بن عربي في حقول ومجالات مختلفة من بينها الشعر فيما يصعب فصل الأبعاد الثقافية عن الجوانب الصوفية والمؤثرات السياسية " وكأنه يتناغم عن غير قصد ودون ميعاد مع صاحب رواية شجرة العابد في مصر الذي يبغض الفصل والانشطار المعرفي والتقوقع داخل خانة ضيقة في بحر المعرفة ومحيطات الإبداع.

وذهب موريس إلي أن المحور الأساسي في فكر محيي الدين بن عربي ومفسريه وشارحيه هو الشمول المطلق لعمليات وأنشطة الحياة الروحية الإنسانية ونموها والضاربة بجذورها في أعماق وعي كل أنسأن أو "الطاقة المطمورة" فيما يستكشف عمار علي حسن في شجرة العابد هذه الطاقة المطمورة عند بطل روايته والتي حلقت به في النهاية لتجسيد الحلم الإنساني في السعادة المطلقة التي لا ينالها إلا أصحاب العزم وأولئك الموعودين الذين بمقدورهم تفجير الإمكانية والوصول للطاقة المطمورة عبر المجاهدة والمجالدة والصبر والنمو الروحي المتواصل.

توقف جيمس موريس ليتأمل مليا مفهوم النمو الروحي عند المتصوفة والارتقاء من حال لحال وكأن من المثير للدهشة حقا أن يتفق الباحث الغربي في دراسته بدورية جامعة هارفارد مع الروائي والباحث المصري عمار علي حسن في "شجرة العابد" علي أن عملية النمو الروحي هذه بكل مجاهداتها ومجالداتها هي اختيار للإنسان بكامل حريته وملء إرادته ولا يجوز فرضها من خارج الإنسان ولا موضع فيها لنفاق أو مراءاة ومن ثم فهي "عملية ديمقراطية تماما" ولا يمكن أن تتحقق دون هذا الشرط الديمقراطي أو ممارسة الإنسان الموعود لحريته كما يلاحظ الباحث موريس.

واللافت أن هناك تيارا مؤثرا في الدوائر الثقافية الغربية المعنية بالشرق أنكب منذ زمن بعيد علي تقصي ودراسة الإنجازات الإبداعية للتصوف الإسلامي وانعكاساتها علي الحياة اليومية للعرب والمسلمين فيما ينوه موريس في دراسته التي نشرتها دورية جامعة هارفارد الأمريكية المرموقة بأن هذا الاهتمام يعكس فهما للحقيقة المتمثلة في أن هذه التجليات الإبداعية لثقافة التصوف نهضت بدور بالغ الأهمية في تشكيل تصورات ومفاهيم كتلة هائلة من سكان العالم الإسلامي.

وأعاد الباحث جيمس موريس للأذهان أن هذه الموجات الإبداعية للثقافة الصوفية امتدت بعيدا منذ زمن بعيد حتى الصين وأندونيسيا فضلا عن آسيا الوسطي وجنوب آسيا كما أنها كانت حاضرة في التجليات الثقافية المميزة للإمبراطوريتين العثمانية والصفوية بل أنها أثرت بعمق علي المغول الذين اهتدوا للإسلام بعد أن عاثوا فسادا في الأرض.

وسواء في رواية شجرة العابد لعمار علي حسن أو الدراسة المستفيضة للباحث جيمس موريس في دورية جامعة هارفارد تتوالي مفردات وصور ومشاهد التكايا والأولياء والأضرحة والأسبلة والمدارس والإلهامات والأزهر الشريف والبر وتقوي العباد الصالحين والمكابدات والمجاهدات الروحية والاحتفال بالكون والوجود رغم الحكام الظلمة وجور الأنظمة الكارهة للعدالة والحرية.

ومن الإشارات الموحية أن الدكتور عمار علي حسن كأن قد حصل علي جائزة الطيب صالح للإبداع الكتابي فيما يعد الروائي السوداني الراحل الذي تحمل الجائزة اسمه صاحب إرهاصات في الواقعية السحرية للرواية العربية كما تجلت في رواية "بندر شاه" غير أن الروائي المصري جاء ليؤسس ويرسخ في "شجرة العابد" التي تقع في أكثر من 400 صفحة الواقعية السحرية التي أرهص بها المبدع السوداني الكبير في تواصل حميم بين أجيال المبدعين العرب.

واذا كانت قاهرة المماليك قد احتلت مكانة مركزية في شجرة العابد بتجليات الثقافة الصوفية في مجال الإبداع الروائي فإن جيمس موريس يشدد في دراسته علي أن الفترة التي عاش فيها ابن خلدون في القاهرة المملوكية كانت فترة قاهرية خصبة للتأويلات الفكرية والثقافية الصوفية والأمر ذاته ينطبق علي بلاد المغرب التي جاء منها ابن خلدون ليحل ضيفا كريما علي مصر المحروسة.

وكان عملاق البحث الالكتروني "جوجل" قد احتفل بذكري ميلاد مؤسس علم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون الذي ولد في الأول من رمضأن سنة 732 هجرية الموافق السابع والعشرين من مايو عام 1332 ميلادي حيث وضعت صورة لابن خلدون علي الصفحة الرئيسية لجوجل وبيده كتاب فيما تقود هذه الصورة بالضغط عليها لمئات المواقع الالكترونية علي شبكة الانترنت والتي تحمل معلومات شاملة عن المفكر العربي الكبير باللغتين العربية والإنجليزية.
يقول جيمس موريس في سياق دراسته وتناوله للمشروع الفلسفي والسياسي لابن خلدون ومواقفه حيال الصوفية ورؤاه المغايرة لرؤي محيي الدين بن عربي أن التقاليد الفكرية للثقافة الإسلامية سمحت وتسمح بالخلاف والاختلاف كما أن هذه التقاليد العريقة تسمح دائما بالاجتهادات المتعددة طالما كأن مناطها مصلحة الأمة والعباد وما دامت تتوسل بسبل المعرفة وصولا للحق مبديا إعجابا كبيرا بثراء المناقشات بين اتجاهات متعددة وتعدد الطرق للوصول للحقيقة والتي أفضت بدورها لثراء الثقافة الإسلامية.

وإذا كانت الثقافة الصوفية في أحد معانيها قراءة مجاهدة للذات والوجود ثم الكتابة أو الشهادة بعد هذه القراءة وإذا كان ذلك ما فعله الروائي عمار علي حسن في روايته المؤسسة لواقعية سحرية عربية في الفن الروائي العربي فهكذا تكون القراءة وهكذا تكون الكتابة.. بين قراءة الذات والوصول للطاقة المطمورة وتفجير الإمكانية للموعود أن يصل لشجرته وينعم بلحن السماء ونور اليقين.. هنا تتهادي الإجابات وتنكشف الأسرار فطب مقاما أيها العبد الصالح.

رواية تعزز الواقعية السحرية العربية

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى