(ظاهرة الشعر الحديث) لأحمد المعداوي
إضاءات تاريخية لا بد منها :
* الإضاءة الأولى: أحمد المعداوي، أحمد المجاطي، كبور المطاعي ثلاثة أسماء لكاتب واحد خلف ثلاثة أعمال أدبية لا غير هي:
1 – ديوان الفروسية – صدرت طبعته الأولى سنة 1987. وقد وقعه صاحبه باسم أحمد المجاطي.
2 – أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث. صدر سنة 1993. وقد وقعه باسم أحمد المعداوي. والكتاب في الأصل أطروحة جامعية لنيل دكتوراه الدولة.
3 – ظاهرة الشعر الحديث والكتاب في الأصل رسالة جامعية نوقشت بالرباط عام 1971 لنيل دبلوم الدراسات العليا. والعنوان الأصلي الذي اختاره المعداوي لرسالته هو: حركة الشعر الحديث بين النكبة والنكسة (1947-1967). صدر الكتاب عام 2002 أي بعد إحدى وثلاثين سنة من مناقشته، وبعد سبع سنوات من وفاة المؤلف، وهو الأمر الذي يفسر توقيع الكتاب نيابة عنه باسم ثلاثي هو أحمد المعداوي المجاطي.
* الإضاءة الثانية: إضافة إلى الأعمال الأدبية السابقة خلف المعداوي جملة مقالات نشرت بمجلات محلية وعربية كان يوقعها باسمه الصريح أحيانا، وباسم مستعار هو كبور المطاعي حينا آخر.
* الإضاءة الثالثة: كتاب (ظاهرة الشعر الحديث) متقدم تاريخيا على كتاب (أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث) رغم صدور هذا الأخير في سنة سابقة عن صدور الكتاب الأول. ومعناه أن الكتاب الثاني تكملة لمشروع المعداوي، وكثير من الآراء لا يمكن الإلمام بها إلا بالرجوع إلى الكتاب الثاني.
* الإضاءة الرابعة: استيعاب القضايا العروضية في كتاب (ظاهرة الشعر الحديث ) مشروط بأمور منها:
– أن تكون للقارئ دراية كافية بعلم العروض قديمه وحديثه.
– استحضار مؤلفيه معا لأن أحدهما يكمل الآخر.
- استحضار ثلاثة مؤلفات مهمة هي عمدة المعداوي وعدته في عرض هذه القضايا، ويتعلق الأمر هنا بـ:
1 – قضايا الشعر المعاصر لنازك الملائكة. وكتاب (ظاهرة الشعر الحديث) للمعداوي رد مباشر على قضايا الكتاب في جانبه الإيقاعي . ويستعين في رده بمؤلفين هامين هما:
2 – الشعر العربي المعاصر لعز الدين إسماعيل.
3 – قضية الشعر الجديد لمحمد النويهي. وتقديم هذه الإضاءات التاريخية للقارئ الكريم تسعف لا شك في فهم بعض القضايا المتضمنة في الكتاب.
الإضاءة الخامسة: القضايا العروضية في كتاب المعداوي لا تشكل سوى نصف الفصل الرابع والأخير من الكتاب. وهذا الحيز يغطي أربع وعشرين صفحة تبدأ من الصفحة 176 إلى غاية الصفحة 200. ولكنه حيز كثيف ومتشعب يستدعي توافر الشروط المذكورة لاستيعابه استيعابا جيدا وكاملا.
ويتضمن هذا الحيز محورين في الكتاب هما:
أ – مقدمة يمهد فيها لأسس الشعر العربي الحديث من ناحية الإيقاع، ويلاحظ أنه بالرغم من الأشكال المتطورة التي عرفها الشعر العربي على مستوى اللغة والصورة والأسطورة والرمز ما يزال بعض الشعراء لم يطوروا أشكالهم الموسيقية ويتمسكون بالنظام الخليلي القديم مما جعله يؤكد أن الشعر الحديث ليس ظاهرة عروضية (الكلام موجه لنازك التي قالت إن الشعر المعاصر ظاهرة انطلاقا من كتابها ظاهرة الشعر المعاصر).
ب- أما الأسس الموسيقية للشعر الجديد ، فيفرعها إلى قضايا مهمة هي:
القضية الأولى: الأوزان:
من العلوم أن نازك بنت تنظيرها للشعر المعاصر على ما يسمى بالحور الصافية. وهي البحور التي تتشكل من تفعيلة واحدة، ويقابله مصطلح البحور المركبة.
وقد حدد هذه الأوزان في ثمانية هي:الهزج = (مفاعيلن)الرجز = (مستفعلن)الرمل = (فاعلاتن)الكامل = (متفاعلن)الوافر = (مفاعلتن)المتقارب = (فعولن)المتدارك = (فاعلن)وقد أضافت إلى هذه الأوزان السبعة وزن السريع (مستفعلن مستفعلن مفعولات) قياسا على الوافر. فأصبح عدد الأوزان المسموح بها ثمانية .
أما المعداوي فإنه يقلص العدد ثمانية إلى ستة في كتابه (ظاهرة الشعر الحديث) وإلى سبعة في كتابه (أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث)، يقول في كتابه الأول: "نلاحظ أن عدد البحور الشعرية المستخدمة في الشعر الحديث أقل كثيرا مما هو معروف في العروض الخليلي، ذلك أن جل ما كتب من شعر حديث لا يخرج عن ستة بحور يجري كل بحر منها في واحدة من التفعيلات التالية:
مفاعيلن (الهزج)فاعلاتن (الرمل)مسفعلن (الرجز)متفاعلن (الكامل)فعولن (المتقارب)فاعلن (المتدارك)
ويقول في كتابه الثاني: (إن الشاعر الحديث قد تخلى عن الكتابة بجملة هامة من بحور الشعر، وحبس نفسه في سبعة أبحر بعد ستة عشر بحرا كانت متاحة للشاعر التقليدي)
ولا نفهم كيف تجاوز المعداوي في كتابه الأول وزنين هما الوافر والسريع. وتجاوز وزنا ثامنا لم يكشف عنه لعله السريع كما سنبين لاحقا.
والفرق بين رأي المعداوي ونازك – إضافة إلى اختلاف العدد المسموح به في الأوزان - هو أن هذه الأخيرة منعت بشكل قطعي أن ينظم الشاعر المعاصر على الأوزان المركبة.
أما المعداوي – وإن كان لا يحظر هذه الإمكانية مباشرة – أي إمكانية النظم على البحور المركبة - فإنه يشير إلى انسداد أفق من حاولوا تجربة الأوزان المركبة في الشعر المعاصر كما فعل بدر شاكر السياب حين جرب وزني الطويل والبسيط على بعض قصائد ديوان ( شناشيل ابنة الجلبي )، لذلك ترى المعداوي يقوم التجربة قائلا: " فقد سبق أن أشرنا في مطلع هذا الموضوع إلى أن من الشعراء من دأبوا على تطعيم قصائدهم الطويلة خاصة بمقاطع كاملة ، يجرونها على أحد الأبحر التقليدية، دون أن يمنعهم ذلك من أن يوفروا لهذه المقاطع سائر عناصر الحداثة الأخرى، بل لقد انصرف بعضهم إلى الأبحر المختلطة في محاولة لتفتيت وحدة البيت فيها ...فبدا واضحا أن حرية الشاعر وقدرته على الحركة محدودتان، وأن التجربة لم تبتعد كثيرا عن الإطار الموسيقي التقليدي للبحرين الطويل والبسيط"
وإذا كان السياب يمثل نموذج الشاعر الذي لم يوفق في تشكيل شعر معاصر على الأوزان المركبة فإن أدونيس – في نظر – المعداوي – استطاع أن يمارس حريته في كسر وحدة الشطر ووحدة البيت ذي التفعيلتين المختلفتين (فاعلاتن + مستفعلن) وأن يتصرف فيها كما لو أنهما تفعيلة واحدة .
ونجاح أدونيس في تجربة الأوزان المركبة جعلت المعداوي يناقض رأي عز الدين إسماعيل الذي لم يرفض هذه التجربة صراحة ولكنه علق قائلا (الشاعر المعاصر يستطيع أن يستخدم الأوزان القديمة المتنوعة التفعيلة كاستخدامه الأوزان الموحدة التفعيلات، ولكنه في الحالة الأولى لا يمارس حريته كاملة كما يمارسها في الحالة الثانية)
وإذا استطاع الشاعر أن يطوع الوزن المركب كما فعل أدونيس فإن ذلك لا يكفي ليحقق لشعره تنغيما يبعده عن الملل ، بل لا بد له من تقنيات عروضية أخرى منها:
القضية الثانية: التنويع في الزحافات:
لاحظ المعداوي أن الشعراء قديما كانوا يتمسكون بالقوانين الصارمة للزحافات ولا يكثرون منها، فانتبه الشعراء المعاصرون إلى أن تكرار التفعيلة بشكل متواتر يؤدي إلى الرتابة والملل، فحاولوا أن يكسروا هذه الرتابة بتنويع الزحافات .
يقول المعداوي: " هكذا استطاع الشاعر أن يستخدم إيقاعين اثنين دون أن يلجأ إلى البحور ذات التفعيلات المختلطة، ولا شك في أنه فتن بهذا النوع من التلوين الإيقاعي فأكثر من الزحاف إلى حد أن معظم الدارسين لعروض الشعر الحديث قد التفتوا إلى هذه الظاهرة وخصوها بعنايتهم غير أن أحدا منهم لم ينتبه إلى العلاقة القائمة بين إكثار الشعراء المحدثين من الزحاف وبين اقتصار حركة الشعر الحديث على الأبحر الصافية التي تعتمد على التفعيلة الواحدة "
القضية الثالثة: وحدة الضرب / تنويع الأضرب:
مصطلحان مرتبطان بالتفعيلة الأخيرة من السطر الشعري ، وقد بنى المعداوي رأيه على طرفي نقيض لرأي نازك التي ألزمت الشاعر المعاصر بوحدة الضرب، كما كان الشاعر القديم ملزما بوحدة العروض، وعد تنويع الأعاريض عيبا سمي بالتحريد.
يقول المعداوي: (غير أن الشاعر الحديث ..لم يقم وزنا لهذا الذي عدوه عيبا، بل لقد استأنس بما يوفره لأبياته من تنويع في الإيقاع وتلوين في النغم)
القضية الرابعة: (مستفعلان)/ فاعلن في ضرب الرجز:
يشير المعداوي إلى مسألتين عروضيتين أقحمهما إقحاما في المحور الخاص بتنويع الأضرب أو وحدتها هي الإتيان بتفعيلة (مستفعلان) في ضرب الرجز . وكذا تفعيلة (فاعلن) في ضرب الرجز.
والأصل في ضرب الرجز أن يصيبه القطع فقط فتصبح التفعيلة (مفعولن)، ولكن النويهي ونازك وجدا أن كثيرا من الشعراء، وهم يحاولون التنويع من الزحافات لتحقيق ذلك التناغم الذي تحدث عنه المعداوي – خرجوا عن القواعد المسموح بها في العروض العربي. ومنه (مستفعلان) في ضرب الرجز. فقبله النويهي7 واستثقلت نازك ذلك قائلة: " يقع بعض الذين ينظمون قصائد من بحر الرجز في خطأ شنيع هو أنهم يوردون التفعيلة (مستفعلان)في ضربه ولا يقع هذا في الشعر العربي قط لأن الأذن تمجه "
وتفسر نازك سبب وقوع الشعراء المعاصرين في هذا الخطأ الشنيع قائلة : " لعل التعليل الوحيد له أن الشاعر الناشئ سمع أن في الشعر الحر حرية فظن أن معنى تلك الحرية أن يخرج على العروض وقواعده"
أما المعداوي فإنه ينتصر لرأي النويهي رغم أنه يعلن عدم خوضه في مثل هذه المناقشة فيقول : " إن إقدام الشاعر على مخالفة العروضيين باستخدام (مستفعلان) في ضرب الرجز يدخل في إطار رغبته في تنويع الإيقاع في البحور الصافية حتى لا تتوارد كل تفعيلاتها على وتيرة واحدة "
أما تغيير (مستفعلن) لتصبح (فاعلن) في ضرب الرجز فإنها تؤدي بالشاعر إلى المزج بين وزنين هما الرجز والسريع الذي لم يدرجه المعداوي ضمن الأوزان الصافية . ونفهم الآن ذلك الإقصاء بأنه دعوة إلى إدماجهما واعتبارهما وزنا واحدا، ويتأكد هذا الفهم حين يعلن صراحة بهذا قائلا: " وحتى مزجه بين البحر الرجز والبحر السريع يمكن اعتباره التفاتة ذكية تضع حدا لما نستشعره جميعا من تعسف العروضيين في الفصل بين هذين البحرين اللذين رأينا مبلغ ما بينهما من شبه .."
القضية الخامسة : فاعل في حشو الخبب :
" المعروف أن تفعيلة الخبب (فعلن) ليست إلا زحافا يعتري تفعيلة المتدارك الأصلية (فاعلن) .وبتكرار (فعلن) هذه ينشأ وزن الخبب أو (ركض الخيل) كما يسمونه أحيانا".
ثم جاء العصر الحديث فإذا نحن – تقول نازك - نحدث تنويعا جديدا لم يقع فيه أسلافنا . ذلك أننا نحول (فعلن) إلى (فاعل) . وليس في الشعراء –فيما أعلم – من يرتكب هذا سواي بدأت فيه منذ أول قصيدة حرة كتبتها سنة 1947 ومضيت فيه حتى الآن . هذا مثلا مطلع قصيدتي (لعنة الزمن) من الخبب:
كان الـــمغرب لون ذــــبيحفاعلن فاعل فاعل فعلن
والأفق كآبة مجروح
وتقر نازك بأنها وقعت في الخروج عن القاعدة العروضية من غير تعمد . تقول : " إن فاعل قد تسربت إلى تفعيلاتي الخببية وأنا غافلة ..والحق أن قليلا من التأمل في التفعيلتين فعلن وفاعل لا بد أن يقودنا إلى أنهما متساويتان من ناحية الزمن تساويا تاما لأن طولهما واحد .. ورأيي أن إقرار ذلك في بحر الخبب يضيف سعة وليونة إلى هذا البحر..والرأي الأخير لأغلبية العروضيين والشعراء المتمكنين في الوطن العربي"
يستجيب عز الدين إسماعيل لنداء نازك مجوزا ما ابتدعته من تفعيلة جديدة : " إن العروض القديم لا يمكن أن يسعفنا بما يبرر استخدام (فاعل) في حشو الخبب ، ولكن هذا لا يمكن أن يكون سيفا مسلطا على تجارب الشعراء الجديدة ، فقد أعلن الرأي العام تقبله لهذه التفعيلة الطارئة على وزن الخبب بعد أن تفشت في قصائد كثيرة من الشعر المعاصر الجديد "
ويقول النويهي مجيزا وملبيا نداء نازك : " نبادر فنؤكد للشاعرة إذا جاز لنا أن نجز بنفسنا بين من تسميهم العروضيين المحدثين أننا لا نعترض على ما فعلت بل نقبله قبولا تاما "
وأما المعداوي فإن له تفسيرا آخر يتماشى مع المرونة التي يمنحها للشاعر المعاصر وهي أن هذه الابتكارات جاءت نتيجة رغبة الشاعر في تكسير حدة التفعيلة في البحور الصافية وتنويع إيقاعها بالقدر الذي يغنيه عن الرجوع إلى البحور المركبة .
وإذا كان رأي المعداوي يبدو مهادنا من خلال رأيه السابق ، فإنه يعود في كتابه الثاني ليناقش المسألة من عدة وجوه وبشكل تطبعه الصرامة والحدة:
أولا : القول إن الأذن العربية المدربة هي التي هدت نازك إلى ابتكار فاعل في حشو الخبب مردود لأن التسليم بذلك يعني أن الأذن العربية للسيدة نازك هي أذن مثالية لم يتقدم لها نظير من الجاهلية حتى الآن .
ثانيا صحة هذه الدعوى (أي الأذن العربية المدربة) تضع نازك أمام مسؤولية قومية كبرى تتمثل في واجب استخدام هذه الأذن السحرية من أجل تطوير جميع البحور لا أن تقف بالتطوير عند بحر واحد هو الخبب .
ثالثا : الحجة التي تقدمها نازك بكون (فاعل) = (فعلن) لأن كلا منهما هي عكس الأخرى مردود عليها لأن ثمة كثيرا من التفاعيل يصدق عليها ما يصدق على تفعيلتي فاعل وفعلن .
رابعا : لا صحة لما زعمته نازك من أن استخدام فاعل في حشو الخبب يزيد إيقاع البحر سعة وليونة .
إحالة المسألة على جمهور الشعراء والنقاد لقبول هذه المسألة أو رفضها خاصة أنها موجودة في شعر أدونيس لا يمنع من إقرار المعداوي بأن أدونيس ليس حجة في الموضوع لأنه ..لم يترك بابا من أبواب الخرق العروضي إلا طرقه في سنوات التجريب الأولى
القضية السادسة : التفاعيل الخماسية والتساعية :
تعتبر نازك أن الشاعر حر في اختيار عدد تفاعيله ، باستثناء عددي خمسة وتسعة، تقول عن الرقم الأول : " ننبه أولا إلى أن الشعر العربي في مختلف عصوره لم يعرف الشطر ذا التفعيلات الخمس ، وإنما كان الشطر يتألف إما من تفعيلتين كما في الهزج والمجتث والمضارع ، أو من ثلاث كما في الرجز والرمل والكامل ، أو من أربع كما في الطويل والبسيط والمتقارب والخبب ، وعند هذا وقف الشاعر فلم نقرأ له أشطرا ذات خمس تفعيلات إطلاقا " .
أما استثناء رقم تسعة من حرية الشاعر في اختيار عدد تفاعيله فرده في نظرها إلى أمرين أولهما " أن العرب لم يكتبوا شطرا مدورا أطول من ثماني تفعيلات ، وثانيهما أن الرقم تسعة هو نفسه ثقيل الوقع في السمع كالرقم خمسة تماما "
لا يرد في كتاب المعداوي عنوان خاص يشير إلى هذه القضية التي ناقشها كثير من الدارسين أمثال عز الدين إسماعيل ومحمد النويهي اللذين رفضا هذا الحظر . وترد بعض الإشارات في عنوان آخر اختار له المعداوي (مسألة التدوير ) التي لا علاقة لها بالتفاعيل الخماسية والتساعية كما سنرى .
الإشارة الأولى تعلن حملة نازك على الشعراء وردود الجمهور على هذه الحملة : ولقد حملت نازك على الشعراء المحدثين لتمسكهم بالتفعيلة الخماسية والتساعية بحجة أنهما لم تردا في الشعر العربي وأن الرقم خمسة في حد ذاته شنيع كالرقم تسعة تماما ولكن جمهور النقاد قد أنكروا عليها هذا الرأي ، وأكدوا حق الشاعر في التعبير عن مشاعره وأفكاره بالقدر الذي يراه مناسبا من التفعيلات "
الإشارة الثانية تعلن انتصاره للجمهور قائلا: " ولا ريب في أن الحق مع الجمهور لأنه أدخل في حسابه أن المتحكم في طول البيت الشعري وقصره هو طول الدفقة الشعورية أو قصرها دون التفات إلى علاقتهم العاطفية مع الرقمين خمسة وتسعة"
الإشارة الثالثة تعلن موقفه من قضية التفاعيل الخماسية والتساعية دون الدخول في التفاصيل قائلا: " سبق أن أشرنا إلى أن عدد التفعيلات في البيت الشعري الواحد غير محدود ولا ضابط له سوى النسق الشعوري والفكري والخيالي الذي يختلف من قصيدة إلى أخرى "
الإشارة الرابعة تشير إلى التناقض الصارخ الذي وقعت فيه نازك وهي تستعمل في شعرها تفاعيل خماسية.يقول المعداوي عن أبيات من قصيدة (طريق العودة ): "لاحظ أنها استعملت خمس تفعيلات في البيت الذي استشهدنا به منذ قليل " 21.
والذي لم يطالع كتاب (ظاهرة الشعر المعاصر) لنازك الملائكة يخال أن المعداوي راح ينقب في أشعار نازك ليقف عند تناقضها الصارخ بين ما تبدعه وما تحظره على الشعراء . ولكن الحقيقة أن نازك تعترف في كتابها – ومن تلقاء نفسها – بهذا التناقض قائلة : " نبه أكثر من أديب إلى أنني أنا نفسي أستعمل التشكيلات الخماسية في شعري ، وقد أدهشني هذا فرجعت إلى قصائدي فإذا الأمر صحيح . ومن ثم فإن الظاهر أنني مجزأة إلى جانبين : جانب مني ذهني يرفض كل تشكيلة خماسية رفضا كاملا، وجانب مني سمعي يتقبلها ولا يرى فيها ضيرا ، أو لنقل إن الناقدة فيَ ترفض، والشاعرة تتقبل "
القضية السابعة : التدوير :
التدوير في الشعر القديم هو اشتراك شطرين في كلمة واحدة . أما التدوير في الشعر المعاصر فهو اشتراك سطرين في تفعيلة واحدة . وانسجاما مع تحقيق وحدة الضرب الذي نادت به نازك واعتبرته لازما حظرت على الشعراء اللجوء إلى التدوير أي إلى تقسيم التفعيلة . لأن هذه العملية تخل بوحدة الضرب الضرورية . كما أن الشاعر ليس مضطرا إلى التدوير ما دامت له الحرية في اختيار عدد تفاعيله.
ويقف المعداوي إلى جانب نازك بخصوص هذه القضية ضدا على رأي النويهي الذي اعتبر التدوير في الشعر الحديث أقرب إلى التضمين مع اختلاف طفيف معها . يقول المعداوي : "يكون ما ذهبت إليه نازك من امتناع التدوير في الشعر الحديث تاما أمرا صحيحا بالنسبة للبيت ، أما بالنسبة للجملة الموسيقية فهو غير صحيح لأن الجملة قد تمتد أحيانا حتى تتجاوز الخمس عشرة تفعيلة .. ولا يعقل أن تمتد جملة موسيقية حتى تضم هذا القدر من التفعيلات دون أن يقع فيها تدوير "
ولتفسير هذا المعنى لا بد من فهم بعض المصطلحات مثل البيت الشعري والجملة الشعرية وهي تحضر في كتابه (أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث) حيث يقول:" وانطلاقا مما تقدمت الإشارة إليه من أن السطر الشعري قد يصل إلى اثنتي عشرة تفعيلة ، فإن الجملة الشعرية القصيرة تبدأ من ثلاث عشرة تفعيلة إلى حدود الست عشرة تفعيلة ، وما زاد على ذلك يعتبر جملة شعرية طويلة "
القضية الثامنة: القافية
تفتيت نظام البيت واعتماد نظام التفاعيل اللامتناهية جعل الشعر المعاصر يتميز من ناحية القوافي بخصائص تختلف عن الشعر القديم الذي كان أساس قافيته حروف الروي .
ومن أبرز هذه الخصائص أن الشاعر المعاصر أصبح ينظر إلى القافية بصفتها نظاما إيقاعيا يعتمد على عدة أحرف وليس على حرف واحد هو الروي الذي كان يعتبر ضوءا أحمر ينبغي الوقوف عنده .
لجوء الشعراء إلى قافية ذات نبر بارز يعوض القافية المعهودة في آخر كل بيت .
ضرورة الإشارة إلى أماكن الوقف بعلامات الترقيم .
ولعل الدعوة إلى قافية ذات نبر بارز مع الإشارة إلى علامات الترقيم تشير إلى خاصيتي الشعر الخطية والملقاة .
تصحيح بعض المفاهيم التي تخطئ الشعراء من ناحية القافية ، وأبرز مثال على ذلك قول فدوى طوقان:
كانت سرابا في سراب
مستفعلن مستفعلان
كانت بلا لون بلا مذاق
مستفعلن مستفعلن فعول
وخطأت نازك فدوى واعتبرت بأن سطريها يتضمنان خطأ في القافية قائلة: "إن ضرب الشطر الأول ليس هي كلمة (سراب) كما تتوهم فدوى ،وإنما هو كونها (با في سراب) التي تساوي التفعيلة (مستفعلان)، وأما ضرب الشطر الثاني فهي كلمة (مذاق) وحدها لأنها تفعيلة كاملة "
ويتمسك المعداوي بمفهومه التقليدي للقافية التي تجعلها من آخر ساكن إلى أول ساكن يليه مع الحرف الذي قبله ، فيعترض على نازك ولا يجد في شعر فدوى طوقان خطأ لأن قافية السطر الأول حسب القاعدة هي كلمة (راب) وكلمة (ذاق) في السطر الثاني ، وهما متساويتان .
ويعزو المعداوي وقوع نازك في هذا الخطأ إلى خلطها بين مفهوم القافية ومفهوم الضرب .
ويكرر المعداوي الفكرة نفسها في كتابه (أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث) بشيء من التدقيق معتبرا أن اختلاف الأضرب مسألة مرتبطة بالقافية . ليقول إن الأصل في أضرب القصيدة الواحدة هو الثبات ، أي أن يلتزم الشاعر بأحد تحولات التفعيلة من أول القصيدة إلى آخرها ، وقد لاحظت السيدة نازك أن الشعراء المحدثين لم يتقيدوا بهذه القاعدة فعابت عليهم ذلك بما يفيد أنهم أول من خرج على سنة الثبات في هذا الشأن ، والحقيقة هي أن الشاعر عندما تخلص من وحدة حرف الروي باستخدام القافية المرسلة (أي الخالية من الروي)لم يعد بإمكانه أن يتقيد بشيء في ما يخص السطر الشعري .
تقويم عام :
يعتبر الكتاب من الناحية التاريخية عملا رائدا في مجال الدراسة الإيقاعية في المغرب . لذلك ألفينا نجيب العوفي مقدم الكتاب يقول : " كانت أول دراسة مغربية تقارب الشعر العربي الحديث وتضعها على محك البحث والدرس"
كتاب ينبغي أن يوضع في إطاره التاريخي الذي بيناه سلفا حتى نتبين قيمته الفعلية . فقد مرت على إنجازه أربعة عقود كاملة .ولم تكن حينها الدراسات العربية المهتمة بإيقاع الشعر العربي تتعدى أصابع اليد الواحدة ، لذلك لا ينبغي تقويمه بالمعايير الآنية . وإلا اعتبر كتابا متجاوزا نظرا لتقادم قضاياه .
تستدعي قراءة الكتاب ضرورة استحضار مرجعياته النقدية المتمثلة في ثلاثة مؤلفات نقدية هي : ظاهرة الشعر المعاصر لنازك الملائكة – الشعر العربي المعاصر لعز الدين إسماعيل – قضية الشعر الجديد لمحمد النويهي . يمثل الأول واجهة المناقشة باعتباره كتابا تنظيريا ، ويمثل الآخران سند المعداوي وعمدته ومتكأه في هذه المناقشة .
تستدعي قراءة الكتاب استحضار مؤلفه الثاني (أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث) لفهم بعض القضايا لأن الكتاب الثاني يكمل الأول ، وهو الأمر الذي يجعلنا أمام باحث كان له مشروعه النقدي.
مشروع نقدي أنجز من خلاله مؤلفين هما في الأصل بحثان جامعيان ، الأول رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا، والثاني أطروحة لنيل دكتوراه الدولة . الأمر الذي يعطي لمؤلفيه طابع الأبحاث العلمية الأكاديمية .
يفتقر الكتاب في طبعتيه إلى مقدمة المؤلف التي من المفترض أن تشكل عناصرها مفاتيح للبحث . وقد عوض هذا الغياب بمقدمة غيرية دبجتها أنامل نجيب العوفي صديق المرحوم المعداوي . قدم للقارئ من خلالها كل ما يمكن أن يساعد على فهم ظروف نشر الكتاب أو زمن كتابته .
قد نجد لغياب مقدمة المؤلف عن الكتاب في طبعته الأولى وتعويضها بمقدمة غيرية تفسيرا موضوعيا هو غياب المؤلف المتوفى إذ نشر الكتاب بعد وفاته . وقد لا تكون المقدمة التي وضعها المرحوم المعداوي لرسالته مناسبة لمؤلف قرر لتلاميذ التعليم الثانوي نظرا لخصوصية مقدمات الرسائل والأطاريح الجامعية التي تكون في الغالب طويلة ومفصلة وصارمة .
لا نجد تفسيرا لغياب المقدمة الغيرية التي وضعها الناقد نجيب العوفي عن الطبعة الثانية وهي الطبعة المتداولة لدى التلاميذ والأساتذة على حد سواء إلا إذا كان حضورها في الكتاب زيادة في تكلفته .
المراجع:
1- ظاهرة الشعر الحديث – أحمد المجاطي المعداوي – شركة النشر المدارس – البيضاء – ط 1 – 2002 – ص : 184 .
2- أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث – أحمد المعداوي– الشركة المغربية للطباعة - الرباط – ط 1 – 1993 – ص : 69 .
3- ظاهرة الشعر الحديث – أحمد المجاطي المعداوي – ص : 185 .
4- الشعر العربي المعاصر – عز الدين إسماعيل – دار الكاتب العربي – ط 1966 – ص : 98 .
5- ظاهرة الشعر الحديث – أحمد المجاطي المعداوي – ص :189 .
6 – نفسه – ص 189 .
7- قضية الشعر الجديد – محمد النويهي – دار الفكر – ط 2 – 1971 – ص 293 .
8- قضايا الشعر المعاصر – نازك الملائكة – دار العلم للملايين – بيروت – ط 1 – 1962 – ص 128.
9- نفسه – ص 129 .
10- ظاهرة الشعر الحديث – أحمد المجاطي المعداوي – ص :190 .
11- نفسه - ص :191 .
12- ظاهرة الشعر المعاصر – نازك الملائكة – ص 132 .
13- نفسه – ص 134 .
14- الشعر العربي المعاصر – عز الدين إسماعيل – ص 108 .
15- قضية الشعر الجديد – محمد النويهي – ص 306.
16- أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث – أحمد المعداوي – ص : 74 .
17- ظاهرة الشعر المعاصر – نازك الملائكة – ص 126 .
18- ظاهرة الشعر الحديث – ص 193 .
19- نفسه – ص 193 .
20- نفسه – ص 192 .
21- نفسه – ص 193 .
22- نفسه – ص 193 .
23- نفسه – ص 195 .
24- أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث – أحمد المعداوي – ص : 58 .
25- قضايا الشعر المعاصر – ص 181 .
26 - أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث – ص 66-67 .
27- ظاهرة الشعر الحديث – ص 5 .
مشاركة منتدى
8 آذار (مارس) 2014, 22:59, بقلم nabila
ضاهرة الشعر الحديث
هي كتاب نقدي مغربي ورسالة جامعية قدمها الناقد احمد المعداوي المجاطي في الدراسة العليا كرسالة جامعية لنيل الديكتاوراتي في الدولة .
....