الأحد ١٩ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٨
بقلم رابعة حمو

عكـا الكنعانية التي هزمت نابليون

تجثم على صدر أعدائها

تأسست مدينة عكا الساحلية في الألف الثالثة ق.م على يد احدى القبائل الكنعانية العربية فسميت "عكـو" أي الرمل الحار، وهؤلاء القوم هم الذين استنبطوا صناعة الزجاج، حيث نـزل ملاحو سفينة كنعانية كانت محملة (بنيترات البوتاسيوم) على شاطئ عكا وجعلوا من كتل البوتاسيوم أثافي يضعون القدرعليها للطهو وأضرموا النار, فاختلطت نيترات البوتاسيوم بالرمال فنتج عن ذلك الزجاج ومنذ ذلك الوقت انتشرت صناعة الزجاج على الساحل المتوسطي، فاقتفى أثرهم الفنيقيين وهم فخد من أفخاد الكنعانين استوطنوا شمال فلسطين وهو ما يعرف اليوم بلبنان صناعة الزجاج فبرعوا في صناعة الزجاج الأرجواني.

ولكن لم يكن يعرف أجدادنا الكنعانيين عندما سموا مدينة مدينة "عكا" أو"الرمل الحار"، أن هذه المدينة ستكون حراً ووقوداً على كل من يدخل إليها غازياً، ولم يكونوا يعرفوا أن هذه المدينة الساحلية سيدخلها من بعدهم أكبر قادة في التاريخ وسيمروا على شاطئها الرملي الذهبي من الملك تحتمس الفرعوني، والملك سرجون الأكدي، والملك نبوخذ نصر البابلي، والقائد قمبيز الفارسي، والاسكندر الأكبر، والملك انطيوخوس الروماني، والقائد بومبيوس الروماني، والقائد ريكاردوس الروماني، ونابليون بونابرت الفرنسي، والصحابي شرحبيل بن حسنة الذي تم على يديه الفتح الإسلامي لمدينة عكا، والقائد معاوية بن عبد الملك، والقائد صلاح الدين الأيوبي فاتح القدس، والقائد أحمد بن طولون، والوالي إبراهيم باشا التركي، والإنجليز، واليهود.

فعكا هذه المدينة الفلسطينية الخالدة التي استعصت برمالها الحارة على كافة الغزاة عبر العصور، وكانت مسرحاً للمعارك التاريخية كنست الغزاة بكافة ألوانهم، كونها مدينة ساحلية ومحطاً لأطماع العالم القديم والحديث. فجاءها الغزاة وانصرفوا وبقيت عكا متربعة على قمة البحر تسخر من غزاتها وترنو على شاطئها الأزرق، ولا زال سورها العتيد وقلاعها المنيعة ومدافعها المتمرسة أمام مسجد أحمد باشا الجزار دليل ثوري على شدة أهل عكا ورفضهم للغزو، وعشقهم للحرية وتقديم أرواحهم رخيصة فداؤها. وفي التاريخ القريب نستذكر وقفة ثلاثة من زينة شباب فلسطين على أعواد المشنقة في سجن القلعة الشهير في عكا، وهم الشهداء محمد جمجوم وعطا الزير وفؤاد حجازي، الذين تدفقت دماؤهم بعد تنفيذ حكم الاعدام من قبل الانجليز عام 1930.

ولا تقف أهيمة عكا على نضال أهلها في المعارك والساحات، بل نستذكر أيضا أن خيرة مثقفي فلسطين وكتابها الذين حملوا قضيتها إلى العالمية وجاهدوا بلقلمهم كما جاهد أخوانهم بأنفسهم هم من أبناء هذه المدينة الموغلة في القدم، كالدكتور إدوارد سعيد، والشهيد غسان كنفاني، والشاعر الكبير محمود دوريش، وكذلك القائد الكبير مؤسس منظمة التحرير الفلسطينية أحمد الشقيري.

وبعد سقوط عكا قاهرة الغزاة على أيدي الصهاينة المحتلين في 16 أيار 1948، قامت القوات الإسرائيلية بمساعدة الإنتداب البريطاني بتهجير سكانها العرب، وارتكبت مجازرعديدة منها مجزرة الخوري، ومجزرة السرايا العربية، فهاجر الكثير منهم إلى لبنان لأنها الأقرب لعكا حيث تبعد 15 كلم، وسكن أهل عكا الشداد في كانتونات ومخيمات بحجة المحافظة على حق العودة، وكأن حق العودة لا يضمنه فلسطينيو لبنان إلا أذا عاشو في مخيمات ووضع بائس مزري يندى له جبين الإنسانية، وهذا ما يطبق عليه قول الشاعر:

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
على المرء من وقع الحسام المهند

ومنهم من إلتجأ الى حيفا شقيقة عكا على البحر، ومنهم من زحف إلى ما عرف فيما بعد بقرى المثلث، ومنهم من بقي في عكا إلى يومنا هذا يعيشون على أرضها، يتفيئون بظلالها ويتنسمون عبيرها وجاثمون على صدر الصهاينة المحلتين. ولهذا يتميز الوجود العربي في مدينة عكا، عن باقي المدن الفلسطينية التاريخية في الداخل، بكونه لا يزال يسكن كلّ بيوت البلدة القديمة والمتكاملة بمعالمها الأثرية والدينية والتراثية المحافظ عليها بشدّة، ولا تشاركها بهذا التميّز سوى مدينة الناصرة.

ومن هنا أدرك الصهاينة مدى خطر القنبلة الديموغرافية التي يمثلها أهل عكا، ففكروا لإرجاع فلسفة الرعب والتخويف التي اتبعوها إبان إرهابهم في سنواتهم الأولى. لأن هذا الوقع لا يريح الاحتلال والحركة الصهيونية العالمية، والأسباب لذلك كثيرة، ولهذا فإنها تسعى في السنوات الأخيرة إلى تحديث مخطط التهويد وتوسيعه وتصعيد خطواته بكلّ الآليات الممكنة. فبقاء العرب في عكا وتشبّثهم فيها حتى الآن إنجازاً وطنياً وتاريخياً كما هو فشل جزئي للمخططات القديمة والجديدة بإخلائهم منها وتحويلها إلى مدينة سياحية خالية من سكانها الأصليين.

ولكن هيهات هيهات لهم... فقد ولى زمن الخوف، وولى عهد الصمت، ولم تعد هناك حيلة جيش الإنقاذ العربي واخلاء البيوت لمدة اسبوع والعودة كما حدث في عام 48.... ولم يعد هناك ما يخاف عليه أهل عكا الشداد قاهري نابليون... وقاهري الغزاة عبر التاريخ... لن يستعصي عليهم قطعان الاستيطان الأوباش القادمين من أوروبا وأمريكا بأحلامهم التوراتية الأسطورية البائسة، لأنه ببساطة لن يخرج أهل عكا من عكا حتى ولو اضرموا النيران ببيوتهم... ولن يتزحزحوا شبراً واحداً عن أرضهيم ومتلكاتهم التي ورثوها جيلاً بعد جيل... ولن يرضخوا لمخططات الصهانية بتفريغ المدينة من أهلها الأصلين ... لأنهم ببساطة أدركوا أن القضية هي قضية وجود، إما أن يكونوا أو لا يكونوا.

ولذا لن تصبح عكا هي أول من يسقط في هذا المخطط، كما كانت من قبل أول المدن السليبة عام 1948، لانه هذا ما عهدناه بأهل عكا الشداد عبر مسيرة النضال الفلسطيني، فهم للنضال عنوان وراية، وللعزة والكرامة أهلٌ، لذا وقفوا في وجه الاستيطان، وهبوا صغاراً وكباراً، شيباً وشباباً للوقوف صفاً متكاتفين ضد المستوطنين المدججين بالحقد والكراهية والأسلحة تحت حماية الجيش الإسرائيلي. الذي كعادته يدلس المواضيع ويسميها بمسيمات أخرى، فاعتبر هؤلاء المستوطنون مثيروا شغب واغمض عينيه عن البيوت التي أحرقوها، والاهالي التي روعها، وتعاملوا مع الموضوع وكأنه مشاجرة أو أحداث شغب، لا مخطط صهيوني يطبخ على نار هادئة. فما خفي كان أعظم، هذا ديدن الاحتلال .... المكر والخداع .... والغدر ...لأنهم يعدون خطة لتهجير العرب جميعهم من المدن التاريخية لفلسطين، وتهويد الأراضي ومحو كل أثر للفلسطينين في كل مدينة، في حيفا ويافا وطبريا والقدس لا تريد أي وجود لهم في هذه المدن بشتى الوسائل فمنذ سقوط هذه المدن عام 48 سنّت إسرائيل عشرات القوانين للاستيلاء على البيوت والأراضي بحجج كاذبة وواهية، تارة باسم قانون أملاك الغائبين، وتارة برفض تجديد ترخيص البناء، وتارة بحجة مخالفة لقوانين البناء. واخرى ... وأخرى.

ولكن عكا الكنعانية ... التي تحدت طواغيت الظلام عبر كل العصور.. لن تخشى المستوطنين القادمين من أوروبا أو أمريكا، فلهم أن يعودوا من حيث جاؤوا... ولهم أن يموتوا أينما شاؤوا ... ولكن لن يكون بين أهل عكا أو أهل يافا أو أهل حيفا أو أي فلسطيني في فلسطين موضع قدم أو مكان ترحيب... ولنا في شاعرنا الكبير الراحل محمود درويش ابن البروة قصديته الشهيرة وهي تنطبق على حال أهل عكا في قصيدته التي يليق بها أن تصبح درساً تاريخياًً يدرس للأجيال الجديدة.


أيها المارون بين الكلمات العابرة...

خذوا الماضي، إذا شئتم إلى سوق التحف
وأعيدوا الهيكل العظمي للهدهد، إن شئتم على صحن خزف
فلنا ما ليس يرضيكم،... لنا المستقبل ولنا في أرضنا ما نعمل
...أيها المارون بين الكلمات العابرة
كدسوا أوهامكم في حفرة مهجورة، وانصرفوا
وأعيدوا عقرب الوقت إلى شرعية العجل المقدس
أو إلى توقيت موسيقى مسدس
فلنا ما ليس يرضيكم هنا، فانصرفوا
ولنا ما ليس فيكم : وطن ينزف وشعبا ينزف
...أيها المارون بين الكلمات العابرة
آن أن تنصرفوا
وتقيموا أينما شئتم ولكن لا تقيموا بيننا
آن أن تنصرفوا
 
وتموتوا أينما شئتم ولكن لا تموتوا بيننا
فلنا في أرضنا ما نعمل
ولنا الماضي هنا
ولنا صوت الحياة الأول
ولنا الماضي، والحاضر، والمستقبل
ولنا الدنيا هنا .. والآخرة ْ
فاخرجوا من أرضنا
من برنا .. من بحرنا
من قمحنا .. من ملحنا .. من جرحنا
من كل شيء ، واخرجوا من ذكريات الذاكرة ْ
أيها المارون بين الكلمات العابرة ْ

محمود درويش( عاشق فلسطين)

تجثم على صدر أعدائها

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى