الأحد ١٠ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
فيلم (حين ميسرة)
بقلم أحمد الخميسي

عندما يولد الفن ولا يعيش

مازال فيلم حين ميسرة للمخرج خالد يوسف يثير جدلا يكاد لا ينقطع داخل دوائر المثقفين ، لا أعني الجدل الذي ينطلق من معايير دينية وأخلاقية ، لكن الجدل حول قيمة الفيلم الفنية ورسالته الحقيقية .

في الفيلم سترى من دون شك الواقع المصري – أو للدقة جزءا من ذلك الواقع – بكل فظاظته وخشونته في بقعة عشوائية هي نموذج لأكثر من ألف بقعة مماثلة في مصر حيث تتكدس كتل بشرية نهبا للبؤس بكل جبروته وبمختلف أبعاده المادية والأخلاقية. في كلمة واحدة هو الحضيض. ويتخير المخرج وكاتب السيناريو أسرة واحدة كعينة من ذلك القاع : أم يسافر أحد أبنائها للعمل في العراق إلي أن يقع الغزو الأمريكي ، ويبقى الآخر في مصر ليتحول مرغما إلي مجرم أو إرهابي أو الاثنين في سعيه للنجاة من الحكومة والتيار الديني والفقر ، أما حبيبته الفتاة الريفية فتتحول مرغمة هي الأخرى إلي بائعة هوى، وخلال ذلك يفقد الاثنان الابن الذي ينضم إلي جيوش أطفال الشوارع . من ناحية استطاع المخرج أن يقدم لنا ذلك القاع بكل قسوته وكان موفقا في تصويره بشخصياته المختلفة في مشاهد متلاحقة وغنية بشكل حي ومقنع إلي أٌقصى درجة، كما قدم لنا ممثلين ممتازين بالفعل هما عمرو سعد وعمرو عبد الجليل وحتى سمية الخشاب صارت بفضل المخرج ممثلة ممتازة .

أضف إلي ذلك أن المخرج قدم لنا مشاهد لتعذيب المواطنين في أقسام الشرطة، ومشاهد لعلاقات جنسية غير سوية، ومشاهد من حياة أطفال الشوارع، وغير ذلك من صور الواقع التي تعد إضافة جديدة. كل تلك النواحي الإيجابية هي التي ساقت الكثيرين للدفاع عن الفيلم، واعتباره عملا هاما يصور الواقع كما هو . لكن الفيلم في الوقت ذاته يعاني من مشكلة ، أو أزمة فنية عميقة ، تجعله رغم كل الجهد الفني المبذول فيه فيلما تجاريا لا أكثر ولا أقل. فليست وظيفة الفن هي تصوير الواقع فحسب ، بل الانطلاق من ذلك التصوير إلي التفسير . ذلك أن تصوير الواقع هو جزء من الرحلة، وقسم من المشوار ليس إلا. بينما لم يستطع لا المخرج ولا كاتب السيناريو أن يواصلا السير حتى نهاية الطريق ، فجاء العمل مشتملا على درجة من الفن ، لكنها لا ترقي بالفيلم إلي الفن الذي يبقى .

فأنت حين تصور – على سبيل المثال - طرفي الواقع المصري : أي الثراء الفاحش من جهة والفقر المدقع من جهة أخرى تكون قد قطعت نصف الطريق، بينما يكمن في النصف الثاني ذلك السؤال الهام : ماذا بعد ؟ . ما الذي تريد قوله بأن هناك فقراء في عشوائيات وأُثرياء في عوامات ؟ . هل ينبغي علينا أن نتقبل ذلك التناقض الصارخ باعتباره قدرا ؟ أم ينبغي علينا أن نغضب لذلك ؟ وهل ينبغي علينا لتغيير ذلك الواقع أن نبدأ بتغيير أنفسنا ؟ أم نبدأ بتغيير الواقع ؟ . أريد أن أقول إن مهمة الفن العظيم تبدأ بعد تصوير الواقع، وخلال ذلك التصوير ، وقبله . فتصوير الواقع بحد ذاته كما فعل خالد يوسف لا يعني شيئا ، أي كانت دقة الصورة ، ما لم يكن ذلك التصوير في إطار رؤية وموقف . وقد لا يعنيني كثيرا أن تعرض لي ضابطا يقوم بتعذيب مواطن في قسم شرطة ، ما يعنيني هو ما الذي تريد قوله بذلك ؟
هل تريد قول إن التعذيب ضروري للضبط والربط لصالح المجتمع ؟ أم أن التعذيب جموح نفس مريضة ؟ أم أن التعذيب وظيفة ثابتة من وظائف الدولة ؟ . في كل ذلك لم يقل الفيلم شيئا ، وقدم كل العناصر التجارية القديمة والحديثة دون أن يهمل عنصرا أيا كان : بدءا من الرقص الشرقي ، وانتهاء بالغمز واللمز السياسي ، مرورا بتجار المخدرات ، والدعارة ، والشذوذ ، والتعذيب ، وتنظيم القاعدة ، وعملية اغتصاب لكي لا ينعس المشاهد ، وطفل ضائع ، ورجال أعمال ينجزون صفقات بالملايين بعري النساء ، ونكت وخفة دم ، وأموال مزيفة ، ومغازلة الغضب من غزو العراق ، وقنابل متفجرة ، ومشاهد جنسية ساخنة ، وحكومة ظالمة ، وأغاني لزوم الشيء ربما كان هناك متفرج من محبي الغناء . وبذلك كله أثبت المخرج والكاتب أن تلك العناصر التجارية هي التي تشكل جوهر الرؤية الفنية والفكرية لديهما، ولا شيء آخر، أيا كانت المقدرة الفنية على عرض كل ذلك بشكل ممتع. والحق أن مشكلة حين ميسرة مشكلة قائمة في العديد من الأعمال الأدبية والفنية التي تحتوي على قدر كبير من المهارة في تصوير الواقع دون أن يكتب لها البقاء ، وأنت ترى في تلك الأعمال كيف يولد الفن ، ولا يحيا ، مثل الأطفال الذين يولدون مكتملي الملامح والأعضاء ، لكنهم لا يطلقون الصرخة التي تصلهم بالحياة والبقاء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى