

فانتازيا ... كُنتُ ولم أكن
في البدء، لم يكن هناك شيء، أو ربما كان كلُّ شيءٍ متراكبًا كطبقاتِ حلمٍ متوارٍ، ينبض عند أول صرخةٍ للوعي.
فتح رُؤوف عينيه، ولم يعرف إن كان قد استيقظ من نومٍ عميق، أم من حياةٍ أخرى.
لا ضوء في الغرفة. أو ربما كان الضوء موجودًا، لكنه فقد القدرة على الانعكاس. الجدران تتهامس، الساعة معلّقة بلا عقارب، والمرآة التي تقابل سريره لا تعكس سوى ظلالٍ تتلوى كأنها تنزف من جرح الزمن، أو تسيل من هباء الذكرى.
هل هذا هو اليوم نفسه الذي نام فيه؟ أم أنه امتدادٌ لحلمٍ لم تُفكّ شيفرته بعد؟
خرج من الغرفة، فوجد نفسه في مدينةٍ بلا ملامح. شوارعها بلا أسماء، والأشجار تمشي على أرجلٍ خفيّة، والمباني تنبض كما لو كانت قلوبًا حجرية. كلّ شيءٍ حيّ، وكلّ شيءٍ موارب. الزمن هنا لا يسير مستقيمًا، بل يدور حول نفسه، ملتفًّا كالريح التي فقدت اتجاهها.
في مقهى عتيق، جلس قبالة رجلٍ بلحيةٍ من دخان، قال له دون مقدّمة:
"الجدوى؟ ليست ما تبحث عنه، بل ما تنساه، لتوهم نفسك أنك كنت تبحث."
أومأ رُؤوف، مرتبكًا. لم يسأل كيف عرف. في هذا المكان، كلّ شيءٍ يسبق السؤال.
ضحك الرجل، واختفى كما ظهر، تاركًا وراءه أثرَ غيابٍ يعبق برائحة الغموض.
في لحظةٍ غير مؤكدة، كان رُؤوف طفلًا على شاطئٍ بعيد، يلهو بغباش الذكرى، يبني قلعةً لا يسكنها أحد. ثم فجأة، كان كهلاً، يجلس على حافة مقبرة، يقرأ أسماءً على شواهدَ مائلة، بعضها يحمل اسمه، وبعضها لا يُقرأ.
وفي لحظةٍ أخرى، كان طيفًا، يمرّ عبر الأزمنة دون أن يترك أثرًا. يرى التاريخ كتابًا مفتوحًا على الفوضى.
ثم حدث شيء غريب:
توقّف الزمن.
ليس بمعنى التجمّد، بل كأنّ الزمن نفسه أُصيب بالحيرة، لا يعرف إن كان عليه أن يتقدّم أم يتراجع. لحظة واحدة امتدت بلا حدود، تحوّلت إلى نفق من لحظاتٍ مشوّشة، رأى فيها نفسه شيخًا وطفلًا وظلًّا في آنٍ واحد.
كان يسير في ممرٍّ حلزوني لا نهاية له. في كل زاوية، باب. وفي كل باب، احتمال. فتح أحدها، فوجد نفسه يكتب هذه القصة، بحبرٍ من ارتياب. نظر إلى الورقة، فوجد اسمه يتكرّر دون توقّف:
"رُؤوف... رُؤوف... رُؤوف..."
ثم اختفى اسمه، وظهرت بدله جملةٌ واحدة:
"من لم يعرف سبب وجوده، صار وجوده سببًا للفقد."
رفع عينيه عن الورقة، فوجد كائنًا يقف في الظلّ ـ بلا ملامح، بلا صوت، لكنه كان "ينظر". وعندما تكلّم، لم تكن كلماته مفهومة، لكنها لم تكن غريبة تمامًا. كان صوته مألوفًا، كما لو أنه سمعه يومًا... من نفسه.
استيقظ فجأة في غرفةٍ بيضاء. لا نوافذ، لا أبواب. أمامه مرآة. اقترب منها، فرأى وجهًا لا يعرفه، يحدّق فيه بندمٍ عميق. وضع يده على الزجاج، فابتلّت أصابعه. كانت المرآة تبكي.
سأل وجهه:
"هل كنتُ أنا؟ أم أنك كنتَ تحلم بي؟"
فأجابه الصمت.
وفي تلك اللحظة، تداخلت كلّ الأمكنة، وتعانقت كلّ الأزمنة، وتحوّلت جدران الغرفة إلى صفحاتٍ بيضاء، تُكتَب من تلقاء نفسها.
ثم سمع صوتًا، يأتي من خلف الورقة التي أمامه:
"أنتَ تقرأ الآن... لكنّك كنت دائمًا المكتوب."
وصار الوجود، كما هو دومًا:
سؤالًا لا يُراد له جواب.