الخميس ٢٨ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
بقلم مجدي علي السماك

قبر من لحم

في البدء كان هدوء، ليس كأي هدوء، إنما هوهدوء يشبه الفناء. والشمس في عليائها متوهجة مشعشعة ملهبة أقاصي الفضاء، تصب جحيمها على أجساد بشرية حية أنهكتها الدنيا لتشويها بهدوء وتسلقها. والطقس خماسيني مغبَّر. والرئة تبذل قصارى جهدها لانتزاع نصيبها من هواء الأرض الساخن. الرطوبة خانقة مالحة وللنفَّس كاتمة. وسط هذا كله وصلت سيارة الإسعاف، كنت اسمع صفيرها يوِّن من بعيد.. نعم من بعيد.

في قاع سيارة الإسعاف جسم ممدود، هوجسد نسائي يتقلص ويتلوى، والبطن منفوخ كقبة المسجد بجنين ينتظر الخروج إلى دنيانا.. هي لحظات الطلق. المرأة تصرخ بشدة، وبشدة تتأوه متألمة وتئن. والجندي الإسرائيلي على الحاجز يبتسم بهناء بعدما لوَّح بيده إيماءة إغلاق الحاجز.. تتابع وصول أرتال السيارات لتحيط بسيارة الإسعاف من اليمين واليسار والوراء حتى ازدحم بها المكان وضاق، كأن القيامة قامت وبعثت السيارات من القبور.

تمر الدقائق وتتحول إلى ساعات مؤلمة ويزداد الصراخ علوا، هي لا تصرخ فقط بحنجرتها، إنما قلبها يصرخ وكبدها، والجنين يصرخ، صرخات وراء صرخات حتى غرقت الدنيا في عباب من صراخ.

في البداية كانت تصرخ: آه.. ثم: أخ.. ثم: أي.. ثم: آخ.. ثم: وي. ثم صرخة قوية مزلزلة ابتلعت كل الصرخات والأصوات المحيطة، هي صرخة جريحة طويلة ممطوطة ومذيلة بآهة خشنة كمواء قطة كسر عمودها الفقري للتو، أوكأن شفرة سيف تقطع أوصالها.. بينما الجندي يمصمص قطعة بوظة ويلعقها بهدوء ويلحس أطرافها على مهل، عيناه تنظران إلى الناس وقلبه يرفرف طربا ويتراقص فرحا لصراخ المرأة الحامل.. هل يا ترى ستضع مولودا سعيدا أوشقيا؟ لا ادري !.. لكني اعلم أن هنا أكباد تمزق وقلوب تتصدع وأجساد تقطر بالوجع.

ها هي ذي امرأة تترجل من سيارة أجرة مجاورة، وتخرج منديلا لتضعه في فم المرأة الصارخة خشية قطعها لسانها بأسنانها التي تكز عليها بقوة، وهي محاولتها الوحيدة للصمود في وجه جحافل الألم المندفعة من أحشاء أحشائها متدفقة كالسيل. هي محاولة لكتم الآهة بالأنّة.

الجندي ينظر مبتهجا واضعا سماعات رأس صغيرة على أذنيه ويهز رأسه طربا. والموت يرصد المرأة ويرقبها.. يا الهي!! أسوأ أنواع الموت هوذلك الذي يتقمص شكل الحياة، وأسوأ أنواع الحياة هي تلك التي تأخذ شكل الجحيم.

ها هو ذا زوجها يدعوالله مبتهلا باكيا صارخا متضرعا: يا الله.. يا الله.. يا الله.. نجِّها يا الله.. باسمك وبكل أسمائك الحسنى ادعوك أن تلطف بها، وبكل الأسماء الحسنى بالكون ادعوك يا رب الأرباب ورب الناس وربي.. اقلبها يا ربي طائرا ليطير من فوق الحاجز.. اقلبها طائرا يا رب العرش وربها.. أعدك يا الله نيابة عنها ألا تطير بعيدا إلى خيام الأنبياء أوشجرة المنتهى.. أعدك وإني لصادق ألا تنقنق شيئا من حبوب الأرض.. لا تأخذها وخذني نيابة عنها يا رب الحكمة والحكماء والحكام، فوراءها صغار ككومة لحم يا الله.. نجِّها.. ألطف بها.. أواجعلها تبيض كالطير يا رب الدنيا والآخرة.. سأذبح كل خراف الأرض قرابين إن استجبت.

الناس واقفة حائرة متأففة غاضبة عابسة صارخة كافرة مؤمنة باكية شاكية.. عيونهم ترنوا إلى الجندي الضاحك يشرب البيبسي كولا ويرتشفها على مهل وكأن الناس أمامه ليسوا سوى صراصير عششت قرب الحاجز ومحتم عليه سحقها بعقب بسطاره أوبمبيد الحشرات، ويطرب للصرخات وكأنها معزوفة موسيقية عذبة لبيتهوفن. شعرتُ كأنه يقول: كتب عليكم البؤس كما كتب على الذين من قبلكم.. لعلكم تموتون.

فجأة عم الهدوء ليغرق الدنيا.. أي هدوء؟ ليس كمثله هدوء. هوهدوء الفناء والموت الكاتم للصرخة والقاتل للآهة والكاسر للأنة.. ماتت.. مات الجنين، ولا حاجة لدفنه فقبره لحم أمه الميتة.. أخذ زوجها يصرخ بحرقة قلبه كالمهووس: ماتت الدنيا.. مات الكون. جاء الموت حضر الموت حل الموت نزل الموت عمّ الموت.. ماتت.. قتلت.. ماتت.. قتلت.. ماتت.. قتلت.. ماتت.. قتلت.. ماتت.. قتلت. من يقتل الجندي؟ أم ليس على الجندي حرج؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى