قراءة في «احتجاج أبي قمامة» لسعيد بودبوز
سواء في السرد أو في النقد أو في الشعر، يجد القارئ لكتابات سعيد بودبوز نفسه أمام لحظة نشيطة من لحظات توالد الحيرة والدهشة، ناتجة عن خصوصيات أسلوبية تلازم كتاباته، وتدلّ عليها منذ السطر الأول أو العنوان كمثل الرائحة التي تتضوّع من الطعام، فتدلّ على نوع الأكلة عن بعد قبل أن نتذوّقها، وذلك لتلازم دلالي بين الرائحة ومصدرها، وكذا الشأن عند سعيد بودبوز الذي أتابع كتاباته بما يتيسّر لي من الوقت والفهم، فأقف دائماً على هذه الخاصيات التي تقود كتابته إلى تكوين ملامح تجربة لها فرادتها وتميزها في سياقها المغربي/المغربي، والمغربي /العربي، ومن هذه الخصوصيات :
خاصية الجملة الاستعارية
حيث نلاحظ بيسر حرص الكاتب على تحطيم الحدود الفاصلة بين المجاز والواقع، ومحاولة صياغة بدائل جمالية للتعبير التقليدي بمنحه مدى رمزيا مكثفا قد لا تستسيغه الأفهام عند التقبل والتفكيك الأول ..
خاصية البنية المنطقية المستحكمة
تخضع الكتابة عند سعيد بودبوز، رغم اختلاف مجالاتها، إلى مصادر صناعة تبدو شبه مشتركة، وهي سيطرة البناء المنطقي على وجهة اللغة وشكل صياغتها العميق .. فنجد مثلا في هذه القصة (احتجاج أبي قماماة) البناء العقلي مهيمناً حتى في اللحظات التي يشتدّ فيها الالتباس والحيرة بين حدود العقل والجنون:
"هل يعقل أن أكون مجنونا؟ كلا أنا سكران فقط، والدليل على ذلك أنني قد بدأت أحسّ بانسحاب العقل من جمجمتي، وهذا يعني أنني مازلت بعيداً عن الجنون. فمن المعلوم أن المجانين لا يتسنّى لهم الإحساس بما يطرأ على أدمغتهم مثلي، وإلا اقتضى منهم ذلك أن يتخذوا التدابير اللازمة للحدّ من التسلل العقلي إلى خارج التغطية. لهذا السبب، على الأقل، أعتبر نفسي مجرد سكران، وما زال في عمر العقل
بقية سأستأنفها حالما ينبلج الصباح".
والنظر إلى هذه الفقرة يوقفنا على حقيقة البنية العميقة لكتابته المنطقية حتى في القصة، وللنظر في ذلك بدقة يستحسن تفكيك نفس الفقرة وبيان مكوناتها العقلية :
سؤال إنكاري؛ هل يعقل أن أكون مجنونا؟.
نفي حالة وإثبات حالة أخرى؛ كلا أنا مجنون فقط.
الاستدلال؛ والدليل على ذلك أنني قد بدأت أحس بانسحاب العقل من جمجمتي.
الاستنتاج؛ هذا يعني أنني مازلت بعيدا عن الجنون.
تفسير الاستنتاج وأسبابه؛ فمن المعلوم أنّ المجانين لا يتسنى لهم الإحساس بما يطرأ على أدمغتهم مثلي وإلا اقتضى منهم ذلك أن يتخذوا التدابير اللازمة للحد من التسلل العقلي إلى خارج التغطية.
تأكيد الاستنتاج الأول؛ "لهذا السبب، على الأقل، أعتبر نفسي مجرد سكران وما زال في عمر العقل بقية سأستأنفها حالما ينبلج الصباح."
بحسب هذه القراءة المتعجّلة، وما بقي لي من انطباعات حول نصوصه السابقة، فإنه يمكن لي بشئ من الحذر التصريح أنّ: البنية العميقة لنصوص الكاتب سعيد بودبوز تشتغل بأدوات عقلية /منطقية كما تبيّن، وما السرد والشعر عنده، إلا منطلقا لخدمة مشروع عقلي أساساً، وتساعدنا هذه القصة على بيان ذلك من خلال :
الوقوف على الكيفية التي استأنف بها الكاتب مقاطع القصة بعد الفقرة المذكورة، إذ نجده يتتبع حركة تنامي الحدث القصصي بالتركيز على علاقة البطل بالمكان /الحانة والشارع - وفي علاقته ببقية الشخوص: شعب الحانة أو السكارى.. أهل المدينة المزوّرة.. رجال /نساء /شيوخ الإطفاء ثم الممرضة التي هي لب ّموضوع آخر مخفي ويحتاج إلى الحفر فيه بإعادة قراءة القصة من الخاتمة لا من المقدمة ... وعليه نرى أنّ المعالجة القصصية عند الكاتب سعيد بودبوز لبعض الأمراض النفسية /الاجتماعية قائمة بالأساس على لعبة 1-المجاز /تخفي ..2-المجاز /بحث جمالي 3- المجاز / بحث في اللاعقل بأدوات العقل ..ونسأل الله حسن التوفيق.
***