الخميس ١٩ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٣
الرمز الأسطوري في رواية

«قصة عشق كنعانية» لصبحي فحماوي

عبد المجيد صديقي

تستلهم رواية «قصة عشق كنعانية» من المنجز الأسطوري الكنعاني رموزها الأسطورية"، وهي رموز تعرض، في اعتقادي، أشكالا مستحدثة للتعبير روائيا عن التآلف الاجتماعي الأصيل الذي يتشكل سداه من ثلاثة حوافز سردية أساسية، هي: حافز الحب، وحافز العدد، وحافز الماء.

ـ حافز الحب الذي تقدمه الرواية بوصفه قيمة إنسانية سامية ذات روابط عاطفية نبيلة وجياشة، كما أنه علاقة بإنسانية متجذرة وخالدة في الوجود الإنساني، تجدها في الأسطورة ورموزها ومغزاها الأخلاقي، أصولها وعلاقاتها العاطفية والمحرمة معا،" فإذا كانت العلاقة المحرمة بين الأخ والأخت هي أصل الشمس والقمر ـ حسب ليفي ستراوس ـ فإن تعاقب الفصول مبعثه علاقة محرمة بين الأم والإبن."() وتبعا لذلك، فلما كانت قيمة الإثم في النظام الأسطوري، كما في الطبيعة الإنسانية، معرضة للربح والخسارة معا، فقد حرصت رواية "قصة عشق كنعانية" أن تعرض قيمة الحب داخل نسق اجتماعي عريق، متحضر وأصيل، تقوم أسسه على روابط عضوية وعقدية ورمزية بين الإنسان وفوق الطبيعي، روابط تدعوه إلى تقديسها وتأليهها، فالإلهة الأم أو الأم الكبرى للكون في الحضارة الكنعانية ونظمها الأسطورية والدينية تتجلى في"عناة" العذراء الطاهرة، وعشتارت، أو عشتار البغي المقدسة، كما ترمزان معا، إلى قيمة الحب وتنازع الطبيعة الإنسانية إزاءه بين العاطفي والشهواني. ولعل السؤال الذي تعرض الرواية الإجابة عنه من خلال هذه الأسطورة، في اعتقادي، هو: ماهو المخرج السليم لشخص وقع في غرام أخته، هل يمضي في غرامه غير المشروع، فيرتكب جرم زنا المحارم الذي بدا أن دانيال لم يكن يقره، أم ينصرف عنها ويحبها بصفتها أخته، وهو ما أقدم عليه. وهو الأمر الذي يحفر الطابع الأساسي للعلاقة المحرمة وللسمة المميزة لها، "سمة التقديس".

ونجد كذلك، حافز العدد الذي يهيمن عليه العدد سبعة بما يرمز إليه من دلالات مقدسة لها جذورها الأسطورية المقدسة والممتدة في الثقافة الكنعانية. هكذا، يفرد السارد الفصل الثامن عشر المعنون ب"دار الكتاب" للحديث عن قدسية هذا العدد عند الكنعانيين، فيقول ـ على لسان المعلم اليسع ـ:

"الرقم سبعة مقدس لدى الكنعانيين،
فإن يم خلقت الدنيا في ستة أيام،
وفي اليوم السابع جلست على العرش.
و إل نظم الحياة على الأرض في ستة أيام، وتزوج عشيرة،
وفي اليوم السابع خلق كل الأرباب،
إل خلق في الفضاء سبع سموات طباقا،
وجعل بحار الدنيا سبعا،
وقارات الدنيا سبعا،
وكواكب السماء سبعة،
وقوس المطر من سبعة ألوان،
ومواسم السنة سبعة،
وسنوات الغلال سبع،
والسنوات العجاف سبع،
والوصايا الكنعانية سبع،
وكل ملك يحيطه سبعة شيوخ مستشارين يمثلون أقطاب العشيرة.
وكل مملكة كنعانية يتبعها سبع ممالك أخرى،
وهكذا يتسلل التنظيم السباعي للممالك الكنعانية،
والأسبوع جعله الكنعانيون في سبعة أيام،
والأفعى شاليط التي أغرقها الطوفان،
كانت لها سبع أرواح."

بل، إن عدد المواشي (عجول، جداء، خراف،) التي تقدم قرابين للآلهة يتم ذبحها أمام هياكلها هو سبعة. وفي هذا السياق، يلمس القارئ حضور الهيكل بصفته رمزا أسطوريا دينيا في الحضارة الكنعانية وفي نظمها الأسطورية والدينية نقله عنهم العبرانيون في كتابهم المؤلّف، وما يؤكد هذا ؛(صخرة الهيكل، هيكل الإلهة يم)، وكون هيكل أورسالم من سبعة طوابق.. ونتابع وصف السارد ساحة مدينة يبوس التي سيتحول اسمها إلى أورسالم، فيقول:

"في أطراف الساحة العامة التي تتفرع منها طرقات المدينة، تقف تماثيل متباعدة بأطوال مختلفة، للأرباب عشيرة وبعل وعناة، وفي زاوية معتمة بعيدة، يقبع تمثال مخيف للرب موت، وتنهض في وسط الساحة صخرة المذبح المقدسة أمام تمثال إل العظيم، المنحوت من حجر أبيض ضخم، ويتعاظم خلفهما هيكل أورسالم الكنعاني، الذي لم يبن مثل معماره الحجري في البلاد، والمبطنة جدرانه من الداخل بخشب الأرز، بطول حوالي مئة ذراع، وعرض يقدر بمئة ذراع، وارتفاع خمس وثلاثين ذراعا، والذي تمكن رؤية قمة طابقه السابع من كل قمم جبال فلسطين."

ثم حافز الماء، السائل الكوني والمكون الحياتي الأساس، والرمز الأسطوري الخالد خلود الإنسان، إنه منبع الحياة الإنسانية على سطح الأرض، كما قد يكون مصدرا للقضاء عليها. ولأنه كذلك، فهو، يقول غاستون باشلار:"العين الحقيقية للأرض. والماء هو الذي يحلم في عيوننا." وهكذا، نجده ـ أي باشلار ـ يعود إلى النماذج البدئية الرمزية، فيشدد على الطابع الأمومي الأنثوي للماء، من حيث هو المغذي والمطفيء للظمأ.فقد انشقت الحياة وقام الكون من عجينة ترابية تشبه بيضة كبيرة الحجم على يد الإلهة الأولى، الإلهة الأم (يم). يقول السارد في خلق الكون:

"ثم نفخت يم من روحها،
فهطلت أمطار ال ربة طلية مدرارة،
وتجمعت ال مياه ال عذبة هنا وهناك،
فأجراها الرب نهر بين ال وهاد،
فإذا ال خضرة وال حشرات وال زواحف وال ماشية وال ناس،
يدبون في ال أرجاء،
وتتكامل ال حياة على سطح الأرض."
وبعدما انفلت بعل من سلطة أبيه إل وسلط عليه موت، وعم الأرض الجفاف والجدب، استتجدت الربة" عناة" بالإلهة" يم"، وتوسلت إليها حتى تسامح الرب" بعل" على تهوره وانفلاته وعصيانه، فقالت:

"سامحي أخي المتهور بعل،
وطهريه من كل الخطايا المشينة،
إنك أنت التواب الرحيم،
(...)
الإلهة يم، أركع لك مصلية،
وطالبة الغفران لبعلي من المعصية،
ولكن محبتك تغسل الذنوب،
وتمحو الخطايا، وتبيض القلوب،
المحبة هي رسالتك، فسامحيه يا مولاتي.""
الشكل/ البناء الأسطوري

تنزع رواية" قصة عشق كنعانية" إلى مقاربة الواقع المعيش" من خلال بنى أسطورية يتداخل فيها الواقعي بالمتخيل تداخلا تنمحي معه الحدود الفاصلة بين طرفي هذه الثنائية: الواقع والأسطورة."

وفي هذا الإطار يستلهم هذا النص الروائي ما هو أسطوري من خلال عنصرين أساسيين في النص الروائي، هما: الشخصية والعالم السردي.

الشخصية الأسطورية:

إن حنين السارد إلى الماضي وتوجهه نحوه، يجد في حبه ركوب مغامرة البحث في أغوار التاريخ الكنعاني القديم ومغاراته حبا دفعه إلى إخراج بعض من هذه الكنوز وتصوير جوانب من مضمونها أو محتواها تصويرا روائيا، من خلال ما يسميه أحد أنصار النقد الأسطوري" أسطورة البحث"أو"أسطورة مغامرة البطل". ويتعلق الأمر بعملية المرور التي تنجزها الشخصية الرئيسة، المرتكزة على" ثلاث مراحل أساسية:

الخروج،

والعبور،

والعودة." حيث أغرى النداء إلى ركوب المغامرة بالأمير دانيال إلى الاستجابة بالسفر السريع إلى مختلف الممالك الكنعانية، خاصة، بعدما أدرك أنه يستحيل عليه أن يتزوج أخته إيزابيل ابنة حزرائيل ملك بيتسان، وابنة الملكة بسمة، أمه. وبعدما أدرك أنه يتعين عليه أن يقوم بركوب هذه المغامرة، بسبب كونه ولي عهد" الملك العال" ملك غزة الذي كلفه بالبحث مع مختلف ملوك المماليك الفلسطينية الكنعانية مجموعة من الشؤون العسكرية والتجارية، داخلية وخارجية معا، تخص مشرق ومغرب بلاد الكنعانيين العرب. وبعدما عبر الطرقات وعاش قصة حب جديدة مع فرح ابنة" الملك سالم"، نجح في إيصال الرسائل وانجاز المهام التي كُلف بها، وفي استغلال المواقف والحالات التي توسع مصالحه التجارية، وكذلك، في حضوره عرس أخته حورية ويائيل "ملك عكا"، بعدما كان قد التقى به، فعاد من جديد ينقل التجدد والعطاء إلى مملكته.

وهكذا، فلما كان"تجوال الفارس ملائما لكل شكل اقتصادي في المجتمع،" حسب ماركس، فالملاحظ أن السارد عمد إلى توضيح مهمة جولة دانيال للممالك الكنعانية، على لسانه، بقوله:" لقد أرسلني سيدي، لأجوب الممالك، باحثا عن مخرج للسلام الذي تنشده بلاد كنعان، ليعم على الفلسطينيين أينما وجدوا، سأسافر إلى أريحا، فأسلم رسالته إلى ملكها أخيل مالك، ومن ثم إلى بيت سان، حيث الملك حزرائيل، ثم أرافق موكبه المنطلق في سهل يزرعئيل، مع ابنته العروس حورية إلى هيكل إل، المتربع على قمة جبل الكرمل، حيث سيتم الزفاف هناك، فأحضر عرس يائيل ملك عكا، وأسلمه أيضا رسالة، تبحث تجاوزات الملك الكبير."هذا الأخير الذي أعلن في أوغاريت كما أعلن ابن داغون في دمشق حصر العبادة في الرب بعل الذي تمرد على أبيه الإله إل وعلى جدته الإلهة يم إلهة الماء. كما اتخذ من عشتار البغي المقدسة خليلة وعشيقة، وفي الحضارة الكنعانية تعد هذه العبادة كفرا وإثما يستوجبان العقاب.

وموازاة مع ذلك، نجد السارد يقدم شخصية دانيال ولي عهد العال ملك غزة، وتاجر الخمور الكنعانية، بوصفه شخصية إنسانية فاضلة، وشغوفة بالطبيعة، قد تكون له نماذج شبيهة في المجتمعات الإنسانية من حيث ممارسته اليومية وسلوكه وعلاقته بالآخرين، كما ينحدر من أسرة نبيلة. فكان له أن عشق، في أحد أسفاره شابة تسمى إيزابيل، ابنة أحد الملوك الكنعانيين، لكنه لما أخبر والده الملك العال علم منه أنها أخته من أمه وأنها لا تجوز له سيرا على عقيدة الربة عناة التي يدينون بدينها، وعلى الرغم من أن الرب بعل وبغيه المقدسة عشتار لا يمانعان هذه الزيجة. لذا، فلما كانت ظروف الجوع والفوضى التي يبثها الملك الكبير في أوغاريت تهدد مملكة غزة، كلف الملك العال دانيال بصفته ولي عهده بالسفر السريع إلى مختلف المماليك الفلسطينية، ويبحث مع ملوكها التدافع الذي يبديه المصريون نحوهم لتحقيق اندماج بين مشرق ومغرب بلاد كنعان، وأن يبحث معهم، كذلك، الإجراءات والتدابير الواجب تفعيلها تجاه الملك الكبير. إضافة إلى أنها، بالنسبة لدانيال، فرصة ملائمة للتعرف على أمه بسمة، وأختيه إيزابيل وحورية.

وهكذا، فقد اعتبر(ص. هوك) رائد مدرسة الأسطورة والطقس، أن الملك في أديان وثقافات الشرق الأدنى القديم"ظل الله وممثله على الأرض، هو موضع العبادة، وبالتالي فإنه كان مسؤولا، بصفته تلك، عن محاصيل المواسم وعن ازدهار المدن." ولعل في عنونة السارد الفصل ما قبل الأخير"عودة الأمير بعل" إشارة قوية إلى التماهي القائم بين الأمير دانيال والرب بعل في وظيفتهما الوجودية معا، الأمر الذي يجعل، في اعتقادي، من شخصية دانيال شخصية أسطورية، حيث نجح بعد رحلة سفر طويلة، في إنجاز هذه المهام جميعها التي تم تكليفه بها.

عبد المجيد صديقي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى