قصص (ريش نعام)
أعطت الرواية الجديدة المكان حضوراً مهماً، إذ أحلته محل الشخصية الروائية واستعاضت عن وصف الشخصيات بوصف المكان ليصبح المكان بطلاً من أبطال الرواية، وهذا ما دفع بعض الكتّاب إلى استخدام المكان كعنوان لرواياتهم وقصصهم، أمثال: نجيب محفوظ، وحنا مينة، وعبد الرحمن منيف، ونبيل سليمان…
ومن هنا كانت هذه القراءة السريعة لحضور المكان في قصص مجموعة (ريش نعام) للدكتور أحمد زياد محبك.
والدكتور محبك، أستاذ الأدب الحديث في جامعة حلب. وحاصل على الدكتوراه في الآداب/جامعة دمشق. وشغل منصب رئيس قسم اللغة العربية بجامعة حلب. وقد حاز عدة جوائز عربية، وهو أمين سر اتحاد الكتّاب العرب-فرع حلب(1).
وللدكتور محبك أكثر من خمس مجموعات قصصية: يوم لرجل واحد (1986)، حجارة أرضنا (1989)، عريشة الياسمين (1996).... بالإضافة إلى رواية وحيدة هي الكوبرا تصنع العسل (1996). و له مجموعة من الدراسات الأدبية والنقدية ذات مكانة مهمة في الحقل الثقافي والأدبي.
وديوان ريش نعام القصصي(2) هو مجموعة قصص قصيرة جداً، تحتوي على 130قصة قصيرة جداً، وهذه هي المجموعة الثانية له في حقل القصة القصيرة جداً بعد مجموعة (لأنكِ معي).
وسنتخطى إشكاليات تجنيس القصة القصيرة جداً بين التأييد والرفض، على أنها استطاعت أن تثبت حضورها على الساحة الأدبية كجنس أدبي مستقل، لننتقل إلى قراءة فضاء المكان في مجموعة (ريش نعام)، وقد رأينا أن تكون في ثلاثة محاور: دلالات العناوين، دلالات أسماء الأماكن، جدل الأمكنة.
1- دلالات العناوين:
يحتل العنوان مكانة مميزة في بنية النص السردي، ذلك أن السرد لا يكتمل دون عنوان يدل على محتوى النص، في محاولة لتكثيف النص ليستطيع القارئ الولوج إلى عالمه.
أما عنوان المجموعة (ريش نعام) فهو لا يدل على مكان محدد، ولا يحتوي على أية قرينة مكانية تسمح للدارس باكتشاف ثيماته ودلالاته المكانية، إنما قد يكون الكاتب قد اختار هذا العنوان الناعم في محاولة لإغراء المتلقي بالقيام بفعل القراءة ليجد المتلقي نفسه أمام قصص تتناول قضايا اجتماعية وعربية وعالمية خطيرة.
أما عناوين القصص داخل جسد المجموعة فكانت قصيرة، كما هي حالة القصص القصيرة جداً، ومع أنّ بعضها تضعنا أمام بُعد مكاني محدد، فهي تفتح لنا آفاق رحبة داخل المجتمع الذي تهدف المجموعة إلى إبراز مواطن الخلل والفساد فيه محاولة التنبيه والتحذير.
ففي عنوان (عريف الصّف) يُحدَّد العنوانُ بالصف الموجود داخل المدرسة، وهذا العنوان يكتفي بتحديد المكان، إلا أن الهدف هو إبراز وصول ظاهرة الفساد والمحسوبيات حتى إلى المدارس عامة وداخل الصفوف خاصة.
وفي قصة (ما يزال في السماء فسحة للقمر) يحدّد العنوانُ المكانَ في الفضاء الواسع، إذ يختار السماء مكاناً له ذلك الفضاء الواسع الرحب. والقصة عبارة عن مناجاة الراوي لنفسه في شكل من أشكال قصص تقنية تيار الوعي. فالراوي لا يزال يجد فسحة من الأمل مع أنه يعترف بالتفاوت الطبقي الرهيب وعروض المحلات الفاخرة والأدوات المنزلية التي قد لا نملك ثمنها، ولكن مع ذلك يجد القمر/الأمل مكاناً له في النفس/السماء.
وعنوان قصة (الفندق) الذي يتحدد بفضاء ضيق، لينطلق بعد ذلك إلى الفضاء المفتوح (السوق-العالم-الناس)، فنجد الراوي يملّ من حياة غرفة الفندق الضيقة وهو في حالة العزلة والبعد عن المجتمع، ليقرر ترك غرفة الفندق الفاخرة والانتقال إلى شقة في حي شعبي تشعره بالراحة النفسية والاختلاط بالناس ومعايشتهم.
وفي عنوان قصة (رائحة حلب) يحدد لنا العنوان فضاء المدينة من خلال رائحة صابون الغار الذي تشتهر مدينة حلب بصناعته، حيث يشتمّ الغائب عن بلده هذه الرائحة فيتذكر بلده وذكرياته فيها. وكأنّه يستعيد المكان (حلب) بكافة تفاصيله ويستحضر ذكرياته من الماضي من خلال رائحة صابون الغار المنعشة.
والملاحظ أن هذه العناوين قد جاءت منسجمة مع نصوصها السردية القصيرة جداً،على الرغم من أن بعضها لم يكن مرتبطاً ارتباطاً مباشراً بالمكان الذي يدل عليه.
2-دلالات أسماء الأماكن:
حضور أسماء الأمكنة في النصوص السردية له أهمية ضمن العمل الحكائي، فغالباً ما يدل اسم المكان في العملية السردية على الموقع الذي يريده الكاتب ويحدد ماهيته، وكثيراً ما يتمكن القارئ من الدخول إلى عالم النصّ من خلال اسم المكان الذي يقدّمه الكاتب.
والراوي في قصص (ريش نعام) يقدّم أسماء الأمكنة بحذر ودقة لتنسجم مع بنية السرد بعامة. بالإضافة إلى أن كل قصة من قصص المجموعة تملك مكاناً واحداً أو مكانين على الأغلب الأعمّ. ففي قصة (قوة) يتحدد المكان بالمستشفى ورغبة المريض، وهو على فراش الموت، في الخروج بعد العملية ليقضي على أعدائه.
وأكثر أسماء الأمكنة حضوراً هو (البيت) ذلك المكان الذي يشعر الراوي فيه بالطمأنينة والراحة مع أسرته وحاسوبه. كما في قصة (إنجاز مماثل، ومع الأحفاد، والشرفة، ومجرد ليلة واحدة).
بالإضافة إلى أسماء أمكنة أخرى: كالمؤسسة، والشارع، والفندق... وهذا يدل على تنوع الأمكنة في القصة القصيرة جداً. كما أنّ المكان المحدد في القصة لم يكن هدفاً لذاته إنما كان الهدف من ذكر اسمه إبراز المعنى في أقل عدد ممكن من الكلمات من خلال الاعتماد على التكثيف والتركيز.
فالقصة القصيرة جداً تحاول تسليط الضوء على مشكلة ما أو خطأ ما، أو رغبة شعورية لدى الكاتب من خلال الرمز والتكثيف والإيجاز.
فدلالة اسم مدينة (استوكهولم) وتكراره في عدة قصص تقارب العشر قصص (توقيت، خيارات حرة، آخر صرخة، ممنوع التصوير، نزهة مع كلب، الأرصفة....) يدل على إعجاب الراوي بما شاهده في تلك المدينة من رقي وحضارة واحترام الإنسان على النقيض مما يجده الراوي في بعض مدن المجتمع العربي.
وذكر اسم فندق (الشيراتون والمريديان) في قصة (بين الشيراتون والميريديان) يدل على تفاهة الأسباب التي تؤدي إلى الطلاق في مجتمع مادي كل ما يهمّه هو المظاهر المادية على حساب الإنسان، إذ يقع الخلاف بين أهل الزوج وأهل الزوجة على مكان إقامة حفل الزفاف لولديهما.
ومن الأماكن المغلقة في المجموعة (الحافلة) في قصة (فيلم للأطفال)، وقصة (معرفة وثيقة)، وتبدو المفارقة واضحة بين الحافلة في استوكهولم والحافلة في المجتمع العربي. وتبدو المفارقة أكبر كما يقدمها المكان المغلق في قصة (في الموقف الرسمي) عندما يطلب رجل عجوز من سائق الحافلة التوقف قبل الموقف الرسمي لأنه لا يستطيع المشي، فيرفض السائق كي لا يخالف القوانين، ولكن عندما تطلب منه صبية ذلك تراه يوقف الحافلة في أي مكان تريده، ولو طلبت منه أن يوصلها إلى حيث تريد لفعل ذلك!.
ومن الأمكنة المغلقة أيضاً (المكتب) في قصة (كيف يعيش؟) والذي يقدّمه الراوي بشكل مفصّل؛ هو مكتب لبيع العقارات، مكان مغلق، كأنه مكتب وزير، محاط بخرائط ومخططات للأبنية والتجمعات السكنية ومشروعات هندسية. وتصل درجة السخرية بصاحب المكتب عندما ينصح الراوي بالذهاب إلى المنطقة العشوائية ليجد شقة بسعر مقبول، أما أن يبحث عن شقة في المنطقة الفخمة التي كانت قدماه تمشيان فيها فهذا ضرب من المستحيل.
كما اعتنى الكاتب بعنصر اللغة في ذكر أسماء الأماكن خلال تشكيل فضاء النصّ، لأن طبيعة اللغة التي يقدمها الكاتب في نصوصه تعكس فلسفته وآراءه في الحياة والمجتمع، فاللغة هي وسيلة الفكرة للخروج إلى النور. وقد جاءت اللغة في قصص (ريش نعام) عفوية في مجملها بعيدة عن التكلف المنطقي، وذلك هو حال القصة القصيرة جداً فهي تعبير عن واقع معاش تلامس الناس في مشكلاتهم، وهذا لا يحتاج وصفه وإبرازه إلى تكلف زائد، وهنا تبرز براعة القاص في هذه المواقف من خلال الحوار وفن السرد المتتابع وبراعة التكثيف ولعبة الإدهاش، وهذا ما جعل اللغة تتلاءم وطبيعة المكان الموصوف مع تنوع أسماء الأمكنة وتعددها.
والملاحظ أن أكثر أسماء الأمكنة كانت واقعية وغير متخيّلة، وكل مكان من الأمكنة يحمل سمات تختلف عن المكان الآخر يميزها السياق الحكائي.
3- جدل الأمكنة:
يعني جدل الأمكنة افتراض مكانين مختلفين اختلافاً واسعاً، أي متناقضين، حيث يلجأ الراوي إلى عرض تداخل مكانين في سياق واحد، إما من خلال استدعاء الذكريات أو من خلال الموازنة بين هذين المكانين خلال عملية السرد.
وتعدّ هذه التقنية السردية ذات أهمية لدى القارئ، إذ ترسخ لديه معالم المكان وإن لم يوصف بتفاصيل دقيقة، بالإضافة إلى أنها تشعر المتلقي بالحياة في المكان، وهي تدبّ في جسد النص السردي. فالراوي الذي سافر إلى استوكهولم في قصص (من غير تأخير، وخيارات حرة، وممنوع التصوير... وغيرها) حاول من خلالها المقارنة بين تلك المدينة التي زارها والمدينة التي يعيش فيها.
حيث نجد الراوي يتحدث عن بعض عادات أهل تلك المدينة الغربية وتقاليدهم والتي تدلّ على مثالية زائدة، من خلال إبراز صورة النظام لديها والالتزام بالمواعيد والدقة في التوقيت....
وهو قد أمضى في مدينة استوكهولم بضعة أيام محاضراً في معهد تعليم اللغات، فراح يصور ما يقع تحت عينيه وكأنّه يحاول أن يقول: إن الغرب تطور كثيراً جداً ونحن لا نزال نقف في مكاننا كشعب مستهلك للحضارة والتقنية بعد أن كنّا منتجي معرفة.
ففي قصة (من غير تأخير) تبرز أهمية الوقت والتزام الآخر الغربي بالمواعيد، فالحافلة تصل في التاسعة وأربع وثلاثين دقيقة بالضبط، ناهيك عن نظافة الحافلة ومقاعدها المخملية والجرائد والمجلات المتموضعة على طرفي كرسي الحافلة.
وتحمل قصة (توقيت) أهمية الالتزام بالوقت ودقة المواعيد حيث يتصل مشرف الدورة بالراوي مؤكداً عليه أن يدخل القاعة في الثامنة ويخرج عند التاسعة والنصف تماماً.
أما قصة (ممنوع التصوير) تبرز الواقع العربي في أسوء حالاته، فالراوي مغرم بفن تاريخ العمارة، يلتقط صوراً لأبنية وعمارات ذات تشكيل معماري أنيق ومميز، فيقف أمام القصر البلدي في استوكهولم ويستفسر صديقه إذا كان بالإمكان تصوير مبنى القصر البلدي لأنه واجه متاعب في إحدى زياراته إلى بعض الأقطار العربية عندما حاول أن يلتقط صوراً لمستشفى طبي مما استوجب ذهابه إلى مركز الأمن ليعرَّف عن نفسه وعن عمله، لكن صديق الراوي يؤكد له أنه في استوكهولم حيث يستطيع أن يصوّر كل ما يريد.
والمفارقة تبدو واضحة في قصة (الأرصفة) فالأرصفة في استوكهولم واسعة وعريضة وهناك شارع لا يوجد فيه سيارات ولا حافلات، فهو للمشاة، وعلى الرصيفين تنتشر مقاهي الرصيف بأناقة مميزة. وما إن يهمّ صاحبنا بالقعود على أحد الكراسي حتى تتداعى إلى مخيلته صورة الرصيف في بلده والشيخ العجوز بائع الجوارب يركض ومن خلفه شرطي البلدية يجري وراءه ويشتمه فيفزع من مكانه ويرحل.
وقصة (نزهة مع كلب) تبرز التزام الناس في مدينة استوكهولم بالنظافة وعنايتهم بها ومسؤوليتهم الشخصية أمام مدينتهم، والحرص على نظافتها الدائمة، على الرغم من وجود العشرات من عمّال النظافة إلا أنّ الرادع الأخلاقي والحضاري يؤكد وجوده عندهم، وذلك عندما شاهد الراوي فتاة تلتقط براز كلبها من تلقاء نفسها.
وتوضح قصة (في الموقف الخاص) جلياً احترام النظام والوقوف في المواقف المحددة للسيارات الخاصة وإن لم يعاقب القانون على ذلك،ولكن لابدّ من احترام النظام في استوكهولم.
والملاحظ أنّ الكاتب مخلص لواقعه يقدّمه دون تخيلات بعيدة عن الواقع، ولعل ذلك بسبب طبيعة القصة القصيرة جداً في أن تكون بقعة ضوء سريعة تنبّه إلى ما يريده كاتبها.
** ** **
الإحالات:
1- كتاب التكريم:الدكتور أحمد زياد محبك-مجموعة باحثين-اتحاد الكتّاب العرب-دمشق 2005.
2- ريش نعام-د.أحمد زياد محبك-دار الثريا للنشر-حلب 2007.