الخميس ١٠ أيار (مايو) ٢٠٠٧
بقلم علي القاسمي

لقد سقاني القهوة

كان والدي رجلاً مؤمناً صالحاً. يعود من عمله في المساء إلى البيت ليغمر أهله بعطفه ويتفقّد أحوالهم. وبعد تناول طعام العشاء ينصرف إلى كُتُبه يقرأ ويقرأ. كان يؤمن بالروحانيّات ويصدّق الكرامات، ولكنّه لم يتحدّث إلينا عنها إلا نادراً.

أمّا أنا فقد تعلَّمتُ من مدرستي أن أُخضِِِع كلَّ شيءٍ وكلَّ خبر لمبادئ العِلم وقوانينه وقواعد العقل ومنطقه. فالتجربة الموضوعيّة هي أساس المعرفة. لم أصدّق الخوارق أبداً لأنّها خارجة عن نواميس الطبيعة وسُننها. كنتُ أحاول دوماً أن أجد تفسيراً موضوعيّاً لكلِّ كرامة أسمع عنها. تماماً مثل الألعاب السحريّة التي كنتُ أشاهدها، فأعزوها بكل بساطة إلى خفّة اليد وخداع البصر.

لكلِّ ظاهرة تفسير ولكلِّ خارقة تعليل، عَلِمه مَن عَلِمه وجَهِله من جَهِله. فمثلاً عندما انتهيت من امتحانات البكالوريا الثانويّة، كان عليّ أن أنتظر شهراً كاملاً قبل معرفة النتائج، فدفاتر الامتحان كانت تُنقَل إلى العاصمة لتصحيحها من قِبل لجنة وزاريّة. وخلال ذلك الشهر، انتابني قلق شديد وخوف من النتيجة. كنتُ أخشى أن أرسب في الامتحان.

فمهما يكُن الطالب مجدّاً مجتهداً متهيّئاً بصورة جيّدة للامتحان، وإن كان امتحاناً محدوداً في مادة واحدة، فإنّ الطالب يشعر قبل الامتحان بأنّه لا يعرف شيئاً، ويشعر بعد الامتحان بأنّه لم يُجِب على الأسئلة بصورة جيّدة، خاصّةً إذا كانت المادة من المواد الأدبيّة التي يعتمد تقييمها على ذائقة المُصحِّح.

في الأسبوع الأول من الانتظار، كان القلق والخوف من سوء النتيجة باديين عليَّ، حتّى أنّني فقدتُ شهيتي لتناول الطعام. وذات صباح، ونحن على مائدة الفطور، خاطبني والدي قائلاً:

 " لا تخَفْ، يا ولدي، فقد رأيتُ حُلُماً الليلة البارحة. رأيتُ نفسي واقفاً أمام لوحة الإعلانات في مدرستك، وقد علّقوا عليها قائمةً بأسماء الناجحين وكان اسمكَ الأوَّل في القائمة."

تهلّلَ وجه أُمّي بالفرح، وارتفعتْ أصوات أخوتي بالتهنئة، إذ كانت لهم ثقة مطلقة بأقوال والدي وأفعاله. أما أنا فقد أخذتُ قوله على سبيل الشفقة عليَّ والتسكين والطمأنة لي، لئلا تسوء صحّتي بسبب القلق والتوجّس.

عندما أُعلِنت نتائج امتحانات البكلوريا، كنتُ، فعلاً، الأوّل في منطقة المحافظة كلّها. ولكنّني لم أعدّ ما وقع لوالدي كرامةً من الكرامات، وإنما عللّته تعليلاً علميّاً ينسجم مع ما توصَّل إليه علم النفس آنذاك في تفسير ظاهرة الأحلام.

فالنائم يحلم بالأمور التي تُشغِل باله أثناء النهار، وحلمه يتكوّن مما رأى وعلم في حياته. ولما كان والدي قد سمعني ذات مرّة قبل الامتحان، أقول: إنّني أبذل جهدي لأكون الأوّل في المدرسة، فقد حلم بذلك في نومه.

بَيْدَ أنّ حادثاً معيّناً وقع لي ولوالدي لم أجد له تفسيراً مقبولاً حتّى اليوم. فبعد نجاحي، شرعتُ في إعداد الأوراق والشهادات اللازمة للحصول على قبول في الجامعة؛ ولم تكُن في البلاد سوى جامعة واحدة في العاصمة. كان من بين تلك الأوراق شهادةُ حسن السلوك التي تمنحها الشرطة. غير أن إدارة الشرطة في المحافظة رفضت تسليمي الشهادة بسبب مشاركتي ذات يوم في مظاهرة غير مُجازة، كما أخبرونا. وقالوا إنّنا يجب أن نقدِّم الطلب إلى مديرية الأمن العامّة في العاصمة.

اصطحبني والدي إلى العاصمة، وأقلّتنا سيّارة أُجرة إلى مديريّة الأمن العامّة. كانت البناية تتألف من طابقين وعند مدخلها ساحة كبيرة. دهشتُ عندما رأيت عشرات من الطلبة وأهاليهم في ساحة البناية. لا شكّ في أنّهم مثلي يرومون الحصول على شهادة حسن السلوك.

وقف والدي محاذاة الحائط، فوقفتُ بجانبه. كنتُ أحسبه ينتظر شخصاً ما يساعده في الأمر. ولمّا طال وقوفنا، نظرتُ إليه، فألفيتُه يتلو بصمتٍ آيات من القرآن. فتلك هي عادته عندما لم يكن في عمل أو مطالعة. لم أقاطعه. ولكن بعد أن طال انتظارنا أكثر من ساعة، وأنا أرى الطلاب يدخلون البناية ويخرجون منها حاملين بعض الأوراق، قلتُ لأبي:

 " هل تنتظر أحداً هنا؟"

هزّ رأسه بالنفي وواصل تلاوته الصامتة. عُدتُ أسأله قائلاً:

ـ هل تكلّمتَ، من قبل، مع (واسطة) للاتّصال بالمسؤولين هنا؟

أشار بسبّابة يده اليمنى إلى السماء؛ أي: إن واسطتي هو الله.

عند ذلك لم أدرِ ما أفعله. ففي سن السابعة عشرة، كنتُ أعتمد اعتماداً كليّاً على والدي، ولم تكُن لي أية خبرة في الحياة سوى الدراسة، طبقاً للتربية القديمة في البوادي. فبقيت واقفاً معه في انتظار قلِق.

بعد مدّة قصيرة اقترب منّا رجلٌ يحمل دلّة القهوة العربيّة وله هيئة مثل هيئة السُّعاة الدين يخدمون في الدوائر الرسميّة ويقدّمون القهوة لكبار الموظفين وضيوفهم، على تقاليد تلك الأيام. ولكن لفتَ نظري في هذا الرجل طول قامته، وإشراق وجهه، وبريق عينيه الواسعتين. سلّم الرجل على والدي وقدّم إليه فنجاناً من القهوة. أحتساه والدي وشكره. فسأله الرجل:

 " هل جئتم للحصول على شهادة حسن السلوك؟"

 " نعم."

 " ما اسم ولدك؟"

وعندما أخبره أبي بالاسم، انصرف الرجل.

طبعاً، لم يكُن من العسير عليَّ تفسير سبب توجّه هذا الرجل إلى أبي دون غيره. لقد كان والدي يرتدي الملابس العربيّة المعتادة في القُرى، على حين أن أهل العاصمة يرتدون الملابس الإفرنجيّة.

بعد لجظات قليلة، عاد ذلك الرجل وهو يحمل ورقة سلّمها إلى والدي. وإذا كانت هذه الورقة هي شهادة حسن السلوك حقّاً، فالتفسير سهل جداً. لا بدّ أن يكون هذا الساعي على اتفاق مع أحد الموظَّفين في المديريّة لإصدار الشهادات الصحيحة أو المزورة لقاء، ما يسمّونه تورية، (إكراميّة) يؤديها المستفيد. ويبدو أنّ هذا التفسير تبادر إلى ذهن والدي كذلك ، فبينما أخذتُ أنا الورقة من بين يديه لأتأكد من أنّها حقّاً شهادة حسن سلوك باسمي، كان أبي يمدّ يده إلى جيب سترته الداخليّ، ليُخرج محفظة نقوده ويفتش فيها عن الورقة النقديّة المناسبة.

عندما رفعنا رأسينا لنشكر الرجل ولينقِّده والدي إكراميته، لم يكن الرجل هناك. جالت عيوننا في الساحة بحثاً عنه فلم نلمحه. فتحرّكنا في أرجاء الساحة بحثاً عنه، فلم نعثر عليه. توجّه والدي وأنا أتبعه إلى غرفة السُّعاة التي يُعدّون فيها القهوة، فوجدنا رجُلَين يعالجان دلتي قهوة. كانا قصيري القامة، نحيفي البنية، وسحنتهما سمراء، مثل معظم الفقراء من أهل البادية الذين يعملون خدماً في المدن. سألهما والدي عن زميل آخر لهما، فأجابا أنّه لا يوجد ثالث. أخذ والدي يصف لهما الرجل الذي سقاه القهوة: طوله الفارع، وبنية جسمه القويّة، ووجهه الأبيض المُشرِق، وعيناه الواسعتين الخضراوين تقريباً. فضحك الرجلان قائلين: ولماذا يعمل معنا مثل هذا الرجل.

عندما استدار والدي خارجاً من المكان، نظر إليّ بوجهٍ لوّنته الفرحة وبعينين باسمتين، وهو يقول بشيء من الرضا:

 " لقد سقاني القهوة."

بعد سنوات طويلة، وقفتُ على الدلالات البعيدة والإشارات الخفيّة لكلمة (قهوة).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى