الخميس ٢ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٨
محمود درويش: سلام عليك يوم ولدت... ويوم مت.... ويوم تبعث حيا
بقلم رابعة حمو

لوركا العربــي... طـروادةٌ فلسطينيةُ

وصلت إلى رام الله ملفوفاً بأربعة ألوان: الأسود، والأبيض، والأخضر والأحمر. كانت روحنا تنتظرك هناك على تلك التلة المشرفة على القدس مع الآلاف من المحبين، نتظرتك لنقي تحية الوداع عليك، وأنت المجبول فينا، والمجنون بترابنا، في كل قصيدة منك شيئ فينا، وصلت، نعم ها قد وصلت، أخيراً إلى تلتك، رأيناك نائما بين الغمام تحرسك ملائكة الروح، هي روحنا التي أحبتك لأنك كنت الأجمل بيننا، والأرهف قلباً، والأكثر شاعرية، والمتفجر انسانية، حملت وطننا أيها المغني الجوال بين المنافي، ونسجته قميصاً للحرية التي حلمنا معك بها، وصغته شعراً، علمتنا أن الحب قضية، والشعر قضية، والوطن قضية، والأرض قضية، فكيف لنا اليوم أن نطير عصافيراً بلا أجنحة، وكيف لنا أن ننهض من نومنا ناقصين إليك، وأنت القائل فينا: "رحلوا وما قالوا شيئا عن العودة".

ماذا تريد منا بعد يا سيد الكينونـة، يا صاحب الظل العالي؟ من سيكتب عن فواجعنا بعدك؟
غافلتنا وانضممت إلى مقاعد الغائبين: غسان كنفاني، إميل حبيبي، وادوارد سعيد، توفيق زياد، والقائمة تطول وتطول علينا! ونحن الباقين نشقى بهذا الغياب الذي لم نعتاده منك لأنك تفاجئنا في كل مرة أنك تصحو من غفوتك كطائر الفنيق محلقاً بين حروف اللغة وتصيح في وجوهنا غبت قليلاً عنكم وعدت ممتطياً حصان النشيد فلا تعدوا ولائم الغياب... يا سيد الكلام... يا متنبي العصر... شغلتنا وملأت زماننا شعراً وملأت أوراقنا نقداً حباً فيك وبشعرك وانسانيك وثوريتك وتركت حصاننا وحده هناك مسروجاً فوق أرضنا، يحرس بيتنا وشبابيكة التي اشتاقت اليك والينا، وتأبطت غيم الوطن وأجنحة الحرية وصعدت إلى سلم المجد، حملت فلسطيننا إلى العالمية، وقضيتنا الى الانسانية، فكنت سفيرنا وأمير أمراء شعرنا العربي المعاصر، فكم سنة ستغيب عنا؟ كم سنة؟ وانت الحاضر في كل مآسي روحنا، وانت سيف كلامنا الذهبي، وأنت سيد عصرنا يا ابن طروادة الاغريقية... يا فتى الاوديسة المكسور، يا ابن المنافي والمدن الغريبة، يا ابن العرس الفلسطيني الذي لا ينتهي، يا ابن القضية التــي
أرهقتنا منذ أن علقنا مفاتيح حلولها مع الريح، يا أحمد العربي الفلسطيني، نودعك في قافية من خشب الصندل لتنام قريراً، نم في الموت الجميل كما نام في صدرك كل الأنبياء والشهداء، نم يا لوركا العربي وارنو من تلتك البهية على قدسنا ورتل مع شهدائنا في محاريب المسجد الأقصى ومذبح القيامة وجبال كرملنا الصابرة، رتل يا ابن الجرح المفتوح، يا سليل الكعنانين، رتل معهم سورة العائد على الوطن الذي فقدناه بحادث سير، يا أحمد الزعتر، قم وانهض وحث السير بنا لنعود مشيا على الأقدام أو زحفا على الأيدي أو حتى على النعش إلى مسرى رسولنا، واربط شبحنا القادم من بعيد بحائط البراق، واسرج خيلنا لتحمحم في ميادين الأقصى الأسيرة.

قم أيها الأيوبي وفتش عن رائحة البن العربي وقهوة أمك وخبز أمك و وقمحها التي خجلت من دمعها، وتعلقت بكعبها خيطا ووشاحاً.

قم فقد امتلأت بكل أسباب الرحيل... قم فكل شي معد لك.. لك القدس، لك التاريخ، لك الشعر، لك أرض الإسراء، لك تراب الأنبياء، لك الكرمل والبيارات والزهور والعطور والعوسج والحبق والغار والحجل والدوري، لك الحب والقبل وطوق الياسمين، لك السلام عليك يوم ولدت ويوم مت ويوم تبعث حيا.

درويش.. الآن وصلنا الاربعين... نودعك لتغفو قليلاً، ولنعود إلى أيامنا ناقصين ناقصين نجهش باللغة التي فككتها كلها لتركب مفردة واحدة هي: الوطن. ونقرأ في حضرتك أيها الحاضر فينا :

فلسطينية العينين والوشم
فلسطينية الإسم
فلسطينية الأحلام والهمّ
فلسطينية المنديل والقدمين والجسم
فلسطينية الكلمات والصمت
فلسطينية الصوت
فلسطينية الميلاد والموت
حملتك في دفاتري القديمة
نار أشعاري
حملتك زاد أسفاري
وباسمك، صحت في الوديان:
خيول الروم!... أعرفها
وإن يتبدّل الميدان!
خذوا حذراً...
من البرق الذي صكّته أغنيتي على الصوّان
أنا زين الشباب، وفارس الفرسان
أنا، ومحطّم الأوثان
حدود الشام أزرعها
قصائد تطلق العقبان
وباسمك، صحت بالأعداء:
كلي لحمي إذا نمت يا ديدان
فبيض النمل لا يلد النسور
وبيضة الأفعى...
يخبىء قشرها ثعبان!
خيول الروم... أعرفها
وأعرف قبلها أني
أنا زين الشباب، وفارس الفرسان!

(محمود درويش عاشق فلسطين)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى