الجمعة ٢٤ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٨
بقلم عادل الأسطة

ما قاله الناس... ما أوحى به المسلسل

وأنا طفل كنت أستمع إلى أغاني أم كلثوم وأغاني أسمهان أيضا، وكنت أيضا أستمع إلى ما يشاع عن تنافس بينهما أدى، كما قالت أمي وما زالت تقول، إلى وفاة الثانية، فقد رشت الأولى سائق اسمهان ليقتلها. من أين أتت أمي بهذا الرأي؟ لا أدري، غير أنه رأي شائع وشاع، تماما كما كان يشاع عن العلاقة بين فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ، فهي لم تكن على ما يرام.

وأنا كبير واصلت الاستماع إلى كلتيهما، فأنا أطرب لصوت هذه ولصوت تلك، وأشرطة كلتيهما تشكل جانبا من رفوف مكتبتي، ولم آبه، وأنا أستمع إليهما، إلى الشائعات، ولا إلى نهايات هذه وتلك. هذه لها صوتها الذي يطرب، وتلك أيضا، ولا يحول الاستماع إلى هذه دون الاستماع إلى تلك أصلا.

في رمضان هذا أخذت أتابع، بشغف، مسلسل اسمهان، وعرفت أشياء عن حياتها لم أكن أعرفها من قبل. ربما تعاطفت معها، وربما أشفقت عليها، ربما حزنت لما آلت إليه، وقبل أن ينتهي المسلسل وجدتني أتحدث مع بعض معارفي عن لغز قتلها الذي خاض فيه بعض الكتاب في بعض الملاحق، مثل بسام الكعبي في صوت النساء.

وعلى العموم قال المسلسل شيئا آخر غير ما قاله العامة ورددوه، غير ما كانت أمي تردده وظلت تردده، فلم يبرز المسلسل الكثير عن المنافسة بين أم كلثوم واسمهان، بل إنه ركز على إعجاب الأخيرة بالأولى واستماعها إلى أغانيها ولم يبرز غيرتها من أم كلثوم، تماما كما أنه لم يأت كثيرا على أم كلثوم وموقفها من اسمهان، ما يعني أن المؤلف والمخرج استبعدا أن يكون لأم كلثوم دور في نهاية اسمهان المأساوية.

لقد أظهر المسلسل مواقف أطراف أخرى كثيرة من اسمهان، رغب أصحابها في التخلص منها- أي من اسمهان، أبرزها زوجها الأول وابن عمها الأمير حسن والإنجليز أيضا. وكان وراء الأخيرين فئات أخرى عربية قد تكون الأمير نفسه، ونازلي والدة الملك فاروق. فالأول لم يعد يحتمل ما تمارسه اسمهان، بخاصة أن له ابنة منها هي كاميليا، وثمة تلميح في المسلسل إلى أن هناك اتفاقا بين الأمير والإنجليز، يقوم الأخيرون من خلاله بالتخلص من اسمهان، مقابل خدمات يقدمها الأمير للإنجليز في الجبل. ونازلي اغتاظت من اسمهان لنشوء علاقة بين الأخيرة وبين رئيس الديوان الملكي حسنين باشا الذي كانت نازلي تطمع به زوجا، وربما- بل إن المسلسل يقول ذلك- وربما كانت نازلي وراء إبعاد أسمهان من مصر، قبل قتلها غرقا.

حين سئل فراس إبراهيم الذي مثل دور فؤاد الأخ الأكبر لأسمهان عن رأيه في الجهة التي كانت وراء قتلها قال إن هذا اللغز لم يحل منذ خمسة وستين عاما. ومن المؤكد أن مؤلف المسلسل لم يستبعد دور المخابرات، بشكل عام، فقد كان ثمة عنوان فرعي تحت العنوان الرئيس يقول هذا: لعبة الحب والمخابرات، او لعبة الموت والمخابرات، فللمخابرات نصيب كبير في موتها/ قتلها.
ثمة مقولات أيضا شاعت عن موت الرئيس جمال عبد الناصر، منها دور طبيب روسي في حقنه بالسم. فهل ثمة تلميح في المسلسل لهذا؟ الجواب: طبعا لا. لقد قال المسلسل شيئا آخر يختلف كليا، بل إنه لم يأت على علاج طبيب روسي لناصر.

ما يخرج به المرء، بعد مشاهدة المسلسل، أن الإجهاد وعدم الراحة كانا وراء موت الرئيس، بل كانا السبب الأساسي في رحيله المبكر. يبرز المسلسل ناصر رجلا مسؤولا منذ طفولته، رجلا مشغولا بالهم العام منذ كان شابا يافعا، رجلا لم ينصرف إلى الهموم الذاتية إطلاقا، بل إنه يكاد ينسى أسرته لتفكيره المتواصل في قضايا شعبه وأمته ومستقبلهما. ثمة قلق، وثمة تفكير متواصل، وثمة عدم راحة، وثمة كوابيس في المنام سببها إخلاصه لأفكاره ولوطنه وللهم العام. هل كان رجل يفني ذاته في خدمة شعبه سيموت بغير أزمة قلبية؟ هل كان رجل قلق مهموم بقضايا الأمة يفكر خمسا وعشرين ساعة في النهار ليعمر طويلا؟

ما قاله المسلسلان، على أية حال، عن نهاية اسمهان وناصر، على الرغم من الخلاف الشديد بين الشخصيتين في مسار حياتهما، يختلف كليا عما شاع بين الناس وأشاعوه وكرروه وما زالوا. ولا أدري إن كانت أمي ما تزال عند رأيها الذي كانت وما زالت تكرره. لا أدري.

في السياق ذاته: الفلسطيني مشوها

تابعت مسلسل عرب لندن منذ الحلقة الخامسة، ولم يتسنَ لي، حتى اللحظة، متابعة الحلقة الأخيرة، ولفت نظري، فيما شاهدت، امران: مرآة الإنجليزي، ومرآة الفلسطيني. ولما كنت أنجزت دراسة عن صورة الأول في أدبنا وقرأت دراسات عن صورته في الأدب العربي، فقد لاحظت الاختلاف بينها بين صورته في المسلسل وصورته في أكثر أدبنا الذي استثني منه سيرة جبرا وسيرة فدوى، ولاحظت قدرا من التطابق بين صورته في المسلسل وصورته في الأدب العربي. ويمكن القول أن الأدباء الذين عاشوا في لندن أبرزوا نماذج إنجليزية لا تختلف عن تلك التي أبرزها "عرب لندن"، خلافا للأدباء الذين كتبوا عن الإنجليزي مستعمرا، ولم يشاهدوا في بلادهم إلا العسكر غالبا.

وتبقى صورة الثاني: الفلسطيني، فما الصورة التي أبرزها "عرب لندن" له. أشير ابتداء إلى أنها صورة برزت له في روايات كتبها فلسطينيون، مثل ليلى الأطرش في "امرأة للفصول الخمسة" و"مرافيء الوهم". فيهما نلحظ فلسطينيا بدأ حياته مناضلا ثم غدا تاجر سلاح أو تاجر كلمة، يتنصل من ماضيه ويحيا حياة الأمراء. وربما تبدو المفارقة حين نلحظ صورة مغايرة له كتبها أدباء عرب، مثل زينب حفني في عملها الأخير "سيقان ملتوية" (2008) فزياد من مواليد المنفى يظهر فنانا يحب بلاده ويسأل عن أهله ويخلص لفنه.

الفلسطيني في "عرب لندن" يتجسد في شخصين هما أحمد سليمان وأمجد. والثاني يبدو إنسانا عاديا لا تقول هيأته أنه مليونير، يبدو أيضا ذا تفكير إسلامي، وإن لم يكن متعصبا، يتجول في الشوارع ويحيا حياة عادية خلافا للأول أحمد سليمان الذي قام بدوره الفنان محمد البكري، فكيف بدا أحمد؟ أحمد مواطن فلسطيني تزوج من امرأة سورية، وكان في بداية حياته مناضلا في صفوف الثورة، ولكنه انحرف عنها حين التفت إلى التجارة، وقد ساعده في ذلك خال زوجته، وهكذا غدا مليونيرا، يقيم في لندن ولا يتجول إلا في سيارة فارهة يقودها سائق خاص، ولا يبقى من ماضيه الثوري سوى ذكريات قد تساعده في التغلب على مشاكل قد تواجهه، مثل خداع شخص له حين يقترب منه طمعا.

ربما أثار المرء السؤال التالي: هل هذا هو النموذج الفلسطيني في لندن، النموذج الأبرز ليركز عليه مؤلف المسلسل ومخرجه؟ ألا يجد هناك مئات الفلسطينيين المتعلمين والمثقفين والعاديين؟ وأنا أشاهد محمد بكري تساءلت: لماذا لم يرفض هذا الدور الذي يسيء لشعبه؟ لو كنت مكانه لرفضت التمثيل، ولعلني مخطيء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى