الجمعة ٣ آذار (مارس) ٢٠٠٦
بقلم عبد الباسط محمد خلف

مشاهد من نابلس ذهابًا وإيابًا…

عند الساعة السادسة تقريباً:

يمعن حاجز الباذان وجنوده في إعاقة حركة مرور مئات المواطنين، وتنشب مشاجرة بين سائقين حاولا الوصول إلى رام الله، والسبب: الأفضلية لي وليس لك، وأنت تجاوزتني في منطقة خطيرة كدت خلالها أسقط وسيارتي وركابي في الوادي.

يحاول وسطاء ومواطنون التدخل، وفض الاشتباك، يقول أحدهم: نسينا الاحتلال، وصار الحاجز للأسف جزءا من حياتنا، كوادي الباذان السحيق.

يروي عصام وهو أحد السائقين الذين أنهكتهم الحواجز: هذه ليست المرة الأولى التي تقع مشادات كلامية واشتباكات بالألسن والأيدي بيننا، وكل هذا على مسمع جنود الاحتلال، الذين أعتقد أنهم يفرحون بها كثيراً..

في أطراف السابعة والدقيقة العاشرة:

نصل إلى حاجز ثان، وتتبخر الحواجز بين ركاب الحافلة، نتعرف إلى العجوز الستينية القادمة من ميثلون القريبة من جنين، التي تفتش عن ترياق لساقيها المنهكتين من أوجاع داء الروماتيزم. ونتحدث قليلاً إلى الفتى الأسمر الذي يزور نابلس حيث يدرس شقيقه منذ ثلاث سنوات. فيما ربى تتجه نحو سكنها الجامعي، في أعقاب زيارة أهلها بعد غياب لشهرين وأكثر.

تقول ربى: صرت وأهلي نشعر بأنني أدرس في دولة ثانية بعيدة عنا كثيرًا، وتحتاج إلى طائرة وسفر واستقبال ووداع!
الثامنة إلا ربعاً:

تصل نابلس التي افتقدتها لخمس سنوات، تتذكر كيف كنت لا تفارقها، فهي مسكنك ومقعدك الدراسي وميدان عملك الصحافي الابتدائي وذات رمزية حادة ورشيقة.

تتذكر، هذا اليوم ( الأول من شباط)قبل سنتين، حيث حاولت الوصول إليها لكنك فشلت كغيرك واحتجزت لانتصاف النهار، وتسترد ذاكرتك ما قرأته في النهار التالي: قوات الاحتلال تحتجز عشرات الطالبات عند مشارف بيت إيبا حتى العاشرة ليلا ، ويجبرن على السير في الظلمة وبين كروم الزيتون إلى أن يصلن لقرية الناقورة.
تتفقد بسرعة أجزاء من المدينة التي صادقتها، وتزور المستشفى الحكومي حيث يعاني عزيزك أوجاعا في جهازه التنفسي.

تنتظر على شباك التسجيل المغلق، ويسبقك مواطن يرافق صغيره منذ أواخر العام الماضي في المستشفى حيث يعاني آثار حروق في جسده.
تستعد الموظفة للعمل، تستأذننا للبحث عن كوب الشاي الصباحي، تتأخر فتنشب حالة نقد لاذع لتأخرها، تأتي فتتصل بالهاتف ويطول حديثها، وتتناول طعام الإفطار: زينت و زعتر وبطاطا مسلوقة هكذا تتناقل الأعين التي يطوقها البرد والتعب.

المراجعون بدورهم يضيقون ذرعاً، وتثور ثائرتهم، تتذكر إحداهن كيف كسر أحد الشبان الزجاج قبل أسابيع، من شدة غضبه واحتجاجه، فمعاملته طال انتظارها، والهاتف لم يكف عن الانشغال، ووالده يعاني مرضًا لا يعترف بالهدنة.

تبدي موظفة أخرى في مكان ما من المشفى "انتفاضة" ضد إحدى المراجعات التي طالبت بدورها فصغارها ينتظرونها في المنزل، وواجباتها كثيرة.
في حديث الموظفة مقدار من الحدة واللاتعاطف مع نظيرتها، وهو الأمر الذي لفت انتباه الكثير من الرجال.

أحدهم يتساءل:" ليش النساء بحبنش(لا يحببن) بعض."، ترد عليه بأن التعميم أمر خاطئ.

التاسعة والنصف:

تلخص في عجالة حال الموجوعين، وتعرف أن السواد الأعظم من صغار السن منهم كان ضحية لـ"نيران صديقة": فأكرم تعرض لحريق من الدرجة الثانية في جسده بفعل الإهمال المنزلي، ومحمد سكب مادة خطرة على النار التي اقتصت من جسده وأقعدته فترة طويلة على سرير الشفاء، والحاجة فوزية كسرت رجلها بفعل مدخل غرفتها المحطم والمحتل بالحفر.

تسأل أحد الأطباء: كم سنوفر يا ترى لو كنا أصدقاء لأطفالنا ولكبارنا ولأنفسنا في البيت والشارع و في كل مكان؟
يأتي رده: معاناة كثيرة ستقلل الزحمة في المستشفيات، وستوفر دواء ونفقات عديدة.

تخرج إلى فضاء المستشفى، بعيداً عن رائحة المواد الطبية والمخدر المسموح به ووجع الناس، تشاهد عجوزاً طاعناً في السن يشترى علبة سجائر.

تسأله عن علته، يرد عليك: ضيق في التنفس، وأمراض عديدة في القلب وسكر في الدم!

تدخل إلى مقصف المستشفى، فتجد أنه يبيع السجائر! تعلق: هنا الداء والدواء معاً، ويبتسم البائع الشاب…

منتصف النهار إلا قليلاً:

تمشي في شوارع رفيديا، حيث أمضيت سنوات من عمرك: تدرس وتعمل وتعيش وتلهو وتكتب وتعشق مهنتك…

تتفحص الجدران والأرصفة، تُعيد لغير مواطن ربيع المدينة الأسود قبل أربع سنوات، مع اعتذارك لما قد تسببه من أوجاع وفتح للجراح.

سامر محمد كنموذج، لا زال يبكي البلدة القديمة، كبكائه لأخيه الذي فارق الحياة بقصف وعدوان مجنون أوقع نحو 80 شهيدًا بسرعة.
بمرور الأيام، اختلطت الجدران بملصقات لشهداء الحرية ولأسراها، وللانتخابات البلدية و"البرلمانية".

تسأل عادل عن سر غياب النساء عن مقاعد نابلس التشريعية في نظام الدوائر، فتأتي إجابته على هذا النحو: تنافست الكتل الكبيرة، وراحت على المستقلين والمستقلات ومرشحي الأحزاب الصغيرة ومرشحاتها.

ظلت الجدران تمنح الوفاء الذي بخل به الناخبون للمرشحات الأربع: ماجدة المصري وعصمت الشخشير و دلال سلامة وفداء أبو هنود.
تقول رجاء وهي سيدة في الأربعين من عمرها: أنا صوّتُ للنساء الأربع، ويكفيني فقط أن بعضهن تذكر الشهيدة شادية أبو غزالة خلال دعايتهن الانتخابية.

تودع نابلس، ولا تجرؤ على زيارة بلدتها القديمة. فنورا كمال الأديبة والمصرفية وابنة المدينة، تنصحك بعدم دخول بلدتها القديمة، حتى لا يبكي قلبك من شدة الدمار والتخريب.

المزاج أيضًا لا يلتفت إلى قطعة من كنافة تقليدية كانت ذات يوم حلوة المذاق، لكن لذتها تبخرت بفعل " الميركافا " و "الأباتشي" و الكلاب المدربة والحواجز التي لا تعترف بهدنة.

الواحدة ظهراً:

نسير في طريق الإياب إلى جنين، ونتذكر كيف تبدلت دلالات الطريق: الحواجز، المسافات الطويلة، الدروب غير المعهودة، الأجرة المضاعفة، الوقت، الوصول إلى الهدف كحلم قومي، المستعمرات التي أعادت انتشار نفسها بضعة أمتار وغيرها…

نصل أخيراً، بعد جولة سياحية إجبارية، يعترف خلالها أحدهم بأنها المرة الأولى التي يزور فيها قرى نابلس البعيدة عن مسار الطريق الرئيس.

ويبدي محمود عبد الله القليل من همومه الثقيلة، فسفره شبه اليومي إلى نابلس صار يتسبب له بوجع حاد في الرأس والظهر، لكثرة الحواجز والمطبات والحفر في الشوارع وأشباهها..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى