الاثنين ١٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٢

مشرحة الموتى

عماد فرح رزق الله

الزمان/ الواحدة بعد منتصف الليل

المكان/ مشرحة موتى

دلف ممرضان يسحبان معهما سرير نقال عليه شاب ميت، وتركه أحدهما ليمنع دخول زوجته التي كانت في دركهما تحاول الدخول وهي تصيح بهستيرية:

 (مراد).. أفق يا (مراد).. إستيقظ..

فأخرجها وهو يواسيها:

 لن يجدِ هذا نفعاً يا دكتورة (منى)! لن يجدِ نفعاً!

فحاولت الدخول وهي تزيحه ناحبة في إنفعال:

 لا، لابد أن أدخُل وأيقظه، (مراد) لم يمُت!

فأخرجها وأغلق الباب من خلفه، في الوقت الذي كان ينظر فيه الأخر إلى جثمان (مراد) لوهلة وهو يشفق عليه، أخرجه من هذه الحالة دلوف زميله الممرض وهو يسأله في حزن:

 ماذا سنفعل الأن؟!

فأجابه في حيرة:

 لست أدري؟! سنتركه هكذا إلى أن يأتِ دكتور (مدحت)، أأمُل أن يستطيع المجيئ في مثل هذا الطقس العاصف بالخارج!

- ربنا يرحمه ويكون في عون زوجته، ما زلت أستهجن أن ينتحر وهو في ريعان شبابه هكذا! والدنيا ضاحكة له، أموال وزوجة مثل الدكتورة (منى)، جمال ومال وأخلاق.

فعقب زميله:

 لا أحد يستطيع أن يجزم بالسبب، كل منا عنده ما يكفيه من النوائب.

وتابع وهو ماضي تجاه الباب:

 أظن أن مرضه هو الذي دفعه إلى ذلك، لقد كان عنده داء السكري والضغط في هذا السن، ناهيك عن موضوع الإنجاب.

ثمّ أشار له بيده مضيفاً:

 هيا بنا لنشرب شيء دافئ إلى حين أن يصل الدكتور (مدحت).

وخرجا مغلقان خلفهما الباب، وبمجرد أن إنصرفا حدث أمر غاية في الغرابة!

فقد ظهر شبح (مراد) في الغرفة واقفاً قبال جثمانه وهو ينظر إليه في حيرة ممزوجة بالفزع! يكاد لا يصدق عيناه!

وإقترب من جثمانه في خطى بطيئة وجله، وأخذ يتحسس وجه جثمانه في أيدي مُرتعشة، وهو يتمتم في ذهل:

 كيف هذا؟! هل أنا ميّت أم أحلم؟!

وأخذ يتناوب ملامسة وجهه ووجه جثمانه، حتى كادت الحيرة والذهل أن يستبدا به! إنتشله من هذه الحالة صوت رقيق خافت، قادم من خلفه:

 لا تتعب نفسك! لقد مُت وأشبُعت موتاً!

فإلتفت خلفه مُنفزعاً، ليجد شبح فتاة تقف قباله!
فإهتزت كل خلجة من خلجاته وهو يرجع خطوتين إلى الخلف مُضطرباً، وهو يسألها في تلعثم:

 من انتِ؟!

فأجابته في هدوء ممزوج ببرود الثلج:

 انا (هبة) رفيقتك في الموت هُنا!

ثمّ جلست على سرير جثمانه فمرّ جسدها على رجلي جثمانه كأنه شفاف، وأردفت:

- تعال، لا تخف! ستعتاد على هذا الأمر بعد بعض الوقت، أنا هُنا منذ بضع أيام بمفردي في ثلاجة الموتى، سوف أأنس بصحبتك إلى حين.

فألقى نظرة عابرة إلى ثلاجة الموتى وخالجه شعور بالخوف الشديد! ولكنه تجاسر وإقترب منها وهو يسألها في تتعتع:

 أأنتِ ميّتة؟!

فأجابته في سماجة وكأنها تواسي نفسها:

 بلى، ميّتة، بالأحرى مقتولة! زوجي خنقني وهرب!.

فإقترب منها أكثر وهو يطالع رقبتها، فرأى أثار خنق حول عُنقها، فسألها سؤال كان يلِح مدوياً في عقله:

 هل أنا أيضاً ميّت؟!

فأجابته في ثقة:

- بالطبع، ألا تتذكر كيف مُت؟!

فأجابها في حيرة:

- لا.

 على الإطلاق!

فأجابها وهو يحاول إنعاش ذاكرته:

 كل ما أتذكره إني تناولت دواء الضغط قبل أن أنام.

فعقبت وهي تطرق برأسها:

 نعم، نعم، لقد سمعتهما وهما يقولان إنك انتحرت.

فإلتقى حاجباه مُندهشاً، وهو يردد ما جاء على مسامعه:

 إنتحرت! من الذي قال ذلك؟! انا لم أنتحر.

فإبتسمت ساخرة:

 أظنك تناولت شيء غير الدواء لكي تنتحر! ولكنك لا تُريد الإفصاح بذلك!

فعقب حانقاً:

 سبق وأن قلت لكِ أنا لم أنتحر! وزوجتي هي من كانت تُحضر لي الدواء.

 الدكتورة (منى)!

فأجابها مُستهجناً:

 أتعرفيها؟!

 لقد رأيتها منذ قليل، كانت مُنهارة من النحيب عليك، وتُريد أن تدخل لك، ولكن الممرضان منوعها، أظنها تحبك جداً!

فزاغ بصره مُتفكراً وهو يجيبها في حزن شارداً:

 إنها حب عمري، أتساءل كيف ستتعايش وتمضي في دروب الحياة الأن وهي وحيدة؟

فعقبت وهي تُليح له بيدها ساخرة:

 ستنساك بعد بعض الوقت، وستفعل ما يحلو لها بعد ذلك.

فقطب جبينه، وهو يُعنفها في صرامة:

 إسمعيني جيداً! إصمتِ أحسن لك! انت لا تعرفِ ماذا أمثل لها، ومدى عشقها لي!.

فنهضت مُنتصبة وهي تعلل في حنق:

 يبدو إنك طيب، ولا تعرف كيف تفكر النساء! إسألني انا!

وإقتربت منه مُضيفة وهي تحاصره بنظراتها:

 ألا تُريد أن تعرف سبب موتي؟!

ثمّ أخذت تحوم حوله، مُتابعة:

 لقد خنقني زوجي حينما إكتشف خيانتي له!

فثقبها بنظراته مُستهجناً هذه الجُرئه، ولكنها تابعت مُبررة، مُسترسلة في جُرئتها:

 نعم، كنت أخونه، لأني لا أحبه من الأساس، لقد زوجوني أهلي له كرهاً، وهو لم يكن يُريد أن يتركني لحال سبيلي.

فعقب في إستياء بعد أن أثار حديثها إستفزازه:

 لا، زوجتي لا تشبه أمثالك، فلقد تزوجنا عن حب كأقاصيص العُشاق.

فعقبت في إبتسامة ساخرة:

 أتريد أن تقنعني إنك الوحيد بحياتها، ولم يكن هناك أحد يسبقك في هذا الحب؟!

فزاغ بصره شارداً، وكأنها وضعت يدها على جرح قديم، فتابعت وهي تنظر إليه بعد أن إستشفت أن كلامها صحيح:

 كان يوجد أحد قبلك! أليس كذلك!.

فأجابها في إنكسار:

 بلى، كان هناك دكتور زميلاً لها، كانت مخطوبة له، ولكنهما إنفصلا في ذات الفترة، لا أتذكر إسمه كان (عصمت) أم (ثروت).

فعقبت في لهفة:

 (مدحت)!

فعلت الدهشة وجهه:

 نعم (مدحت)! أتعرفينه هو أيضاً؟!

 لا، ولكني سمعت الممرضان يقولان إنهما في إنتظار الدكتور (مدحت) لكي يقوم بتشريحك.

فشحب وجهه وهو يجيبها، بعد أن تذكر شيئاً:

 نعم صحيح، لقد تذكرت، إنه كان دكتور طب شرعي.

 وماذا يكون مجال عمل زوجتك؟!

 مُديرة معمل التحاليل.

فوضعت أصابعها على ذقنها، وشردت مُتفكرة للحظة، ثمّ عاودت سؤاله:

 أنت قولت لي أن زوجتك هي التي كانت تُحضر لك الدواء قبل أن تنام!.

 نعم، إلى ماذا تُرمي؟!

فلمعت أعيُنها وهي تسأله:

 أتساءل، أيمكن أن تكون هي التي وضعت لك شيء أخر غير الدواء لكي تقتلك؟!

فأجابها في غضب مُستهجناً هذه الفكرة:

 ما هذه الفكرة السخيفة! لماذا تظنِ أن كل النساء خائنات مثلكِ؟!

فإبتلعت هذه الإهانة، مُردفة:

 هلا تُجيبني؟ كم لبثتما وانتما متزوجان؟!

فأجابها زافراً:

 سنتين.

 ولم تُرزقا بذرية؟!

فأنكس رأسه في خذل:

 لا، بعد زواجنا مباشرةً، إبتلاني ﷲ بأمراض لا حصر لها، وظلت جواري لم تتركني أو تكلّ عن خدمتي.

فعقبت مبتسمة في تهكم:

 أكيد من أجل أموالك!.

فهمّ بتعنيفها، فقاطع حديثهما جلبة في الخارج، فقد كانت زوجته صاحبة هذه الجلبة وهي تترجى الممرضان ليدخلوها لترى زوجها المتوفي، وبعد مناهدة رضخا وفتح أحدهما الباب، فإستأذنتهما بالإختلاء بجثمان زوجها لدقائق، لتودعه الوداع الاخير، فخرجا على مضض إذاعناً لرغبتها، ومضيا مغلقان خلفهما الباب.

بينما وقف شبح (مراد) شارداً للحظة وهو يحد النظر لزوجته وغمره شعور كدر ما بين الفرحة لرؤيتها وما بين الشفقة على حالها، ومضت (هبة) مُبتعدة قليلاً عن جثمانه، وهي ترمق زوجته نظرات شذراً!

وبعد ان أُغلق الباب وقفت زوجته للحظة وهي ترنو لجثمان (مراد) في نظرات أسى، فإقترب منها شبح (مراد) ووقف في مقابلتها وهي لا تراه، فأخذ يرنو إليها في وجم وهو مُوقن في دخيلته انها لن تستطع رؤيته أو سماعه، ولكنه على أي حال سألها على حالها كعزاء لنفسه، فلم تسمعه أو تراه وإنما مرّت من خلاله كأنه شفاف، ووقفت عند رأس جثمانه للحظة ترنو إليه، ثمّ تغيرت سحنتها من الوجوم، مُبتسمة كذئب الغضا!
مما أثار تساؤل شبحا (مراد) و(هبة)، فإقتربا منها يعلو وجوهما الفضول، بينما إتسعت إبتسامة زوجته وهي تحدث جثمانه في تهكم:

 انت أكيد تظن إني أتيتك لكي أودعك وحالة الشجن والآسى هذه! لا، لقد أتيتك لكي اقول لك إني أخيرا قد تخلصت منك! وإلى الأبد!.

فعلا وجه شبح (مراد) الصدمة، بينما تعالت (هبة) في ضحكاتها مُستسخرة منه في تهكم:

 لقد بيّنت إنها على شاكلتي، بل أمرّ وأدهى!

فإقترب منها (مراد) حتى أصبحا وجهاً لوجه، وهو يسألها في صدمة، مُتمنياً أن ما يسمعه خطأ:

 ماذا تقولِ يا (منى)؟!

فإسترسلت في حديثها لجثمان (مراد)، وقد ضوى في أعُينها وميض مُريب:

 وسأزيدك من الشعر بيت! انا من جلبت لك الأمراض! لقد تزوجتك وأنت صحيح معافى لم تعانِ من شيء! وأنا التي كنت أضع لك في المأكل والمشرب جرعات مخففة من عقاقير أعلم مدى تأثيرها السلبي على صحتك!

كل هذا و(مراد) يتابع كلامها في حالة من الصدمة، بينما تحاول (هبة) أن تكتم ضحكاتها، مُتمتمة:

 أكملِ، أشجينا.

فتابعت (منى) وهي تلوي شفتها وتميل لوجه جثمان (مراد) مخترقة شبحه الذي كان لا يزال مصدوماً، لم يحرك ساكناً:

 ولكنك أطلت كثيراً! سنتين مرّا كالدهر وأنا أصطبر عليك، لعلك تذهب في داهية وأورث أموالك وأتزوج حبيبي (مدحت)!

ثمّ إعتدلت مُردفة بإبتسامة خبيثة، ووجهها بوجه شبح (مراد) وكأنها تتبادل معه الحديث وتراه:

 نعم (مدحت)، وللعلم هذه كانت فكرته، هو من قام بالإعداد والتخطيط، وأنا من قمت بالتنفيذ!

فإنفجر (مراد) غضباً وهو يحاول يأساً أن يصفعها، ولكن ضرباته كانت تمرّ خلالها بلا تأثير! وهي تولي له ظهرها مُنصرفة، فأخذ منه الغضب مأخذاً وهو يحاول أن يرمي عليها أدوات التشريح التي كانت بالقرب منه، ولكن كل ما إستطاع التأثير عليه هو أن أزاح "المشرط" عن موضعه فسقط أرضاً!

فإلتفتت مُنفزعة على صوت سقوط "المشرط"، وأخذت الدهشة (هبة)، وهي تتناوب التحديق الى (مراد) وإلى المشرط، وعلا وجهها الذهل وهي تسأله:

 كيف فعلت ذلك؟!

في الوقت الذي هرولت فيه (منى) إلى الخارج
خائفة، فإستوقفها الدكتور (مدحت) مُصتدماً بها على باب المشرحة وبرفقته الممرضان، فإرتبكت وهي تبادله نظرات ملأى بالشغف، ولكن سرعان ما إبتعدت عنه قليلاً، وإرتدت قناع الحزن، وإصطنعت بعض الدمع حتى تحبُك الموقف أمام الممرضان، ومضت مُنصرفة، ودلف الدكتور (مدحت) وهو يشير في سماجة للممرضان بيده إلى المشرط الملقى على الأرض:

 إرفعا هذا المشرط الملقى على الارض، وأعدا أنفسكما والأدوات للتشريح.

بينما إرتدى هو ملابس التشريح، كل هذا حدث أمام شبح (مراد) الذي كان في حالة صدمة لم يحول ناظريه عن دكتور (مدحت) والغيظ ينضح من عيناه، فإقتربت منه (هبة) وهي تعاود سؤاله في إهتمام:

 كيف أسقطّ هذا المشرط ؟! لم أعهد أحدً قبلك قام بفعل ما فعلته!

 ماذا تقصدين بكلامك هذا؟!

 أقصد انك من الممكن أن تكون ما زلت حي!

فإلتقى حاجباه مُندهشاً، في الوقت الذي هيّأ فيه الدكتور (مدحت) نفسه لإجراء التشريح هو والممرضان، فإلتفت إليهم وهو يصيح صيحة إنتصار من صميم قلبه:

 أنا ما زلت حي!

وأخذ يصيح في وجه الدكتور (مدحت)، مردداً جملته الأخيرة كالمستجير من الرمضاء بالنار، بينما كان هو يمسك المشرط ويهمّ بتشريح جثمانه، وفجأة!

دب دبيب الحياة مرّة أخرى في جسد (مراد) وهو يمسك يد دكتور (مدحت) بقبضة من حديد، ويثقبه بنظراته الحادة.

عماد فرح رزق الله

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى