الثلاثاء ٢٧ تموز (يوليو) ٢٠١٠
بقلم حنان شافعي

مصر وعقدة الريادة

رغم انتمائي لحزب بنات حواء وما يلتصق بهن من حب للثرثرة والوقوف على التفاصيل، فإني في الحقيقة لا أعبأ بتفاصيل الأشخاص مطلقا بل ربما لا أراها من الأساس ،عادة ما أغرق في البحث عن جوهر الشخصية و أفكارها ثم أسقط عليها بعضا من أوهامي الرومانتيكية التي لا أستفيق منها وعليها إلا بصدمة بحجم صخور الدويقة(!!)، فأقول ليتني ركزت في التفاصيل التي يبدو أنها تشي بعين الحقيقة.

هذه المرة سأورط نفسي عمدا في الوقوف على تفصيلة وردت بلقاء الشاعر والصحفي العراقي يحي البطاط الذي تمت استضافته منذ أيام على تليفزيون دبي وسألته مقدمة البرنامج السيدة بروين حبيب عن رأيه أو موقفه من مؤتمري النثر اللذين عقدا مؤخرا بالقاهرة فجاءت إجابته محرضة بما يكفي على جلسة تأمل طويلة أعتقد أنني في حاجة إليها كأحد المشاركين بواحد من هذين الملتقيين (المنعقد بالقاهرة في الفترة من 10 إلي 13 مارس بمقر اتحاد كتاب مصر) وقد فاز ديواني "على طريقة بروتس" بدرع الملتقى وجائزة التميز الشعري كأفضل ديوان أول، وقبل وبعد ذلك كوني شابة مصرية تعد "تفصيلة" متواضعة من تفاصيل مستقبل هذا الوطن.

انتقد الشاعر العراقي الحدثين الثقافيين واصفا إياهما بمحاولات شخصية للتنافس والظهور و ملخصا وجودهما و أهدافهما إلى مجرد ضغائن بين عناصر تريد تخليص حقها من بعضها البعض ثم أضاف قائلا:"أن الريادة في ميدان قصيدة النثر كانت للبنان والعراق ولم تكن أبدا لمصر ،وأن المصريين يحاولون الآن تصدر المشهد وسحب بساط الريادة"!!

بتأمل تصريح أستاذ البطاط حول مسألة الريادة، ومن قبل وصفه للمجموعتين القائمتين على التنظيم باستخفاف وصل إلى درجة قطع أو إخفاء ما تفضل به من على شريط الحلقة -ولعلها حادثة نادرة في تاريخ البرامج التليفزيونية لأننا تعودنا عملية القطع في الأفلام من الرقابة فيما يخص الألفاظ أو الأوصاف غير المقبولة اجتماعيا فما بالنا ببرنامج ثقافي تنويري يستضيف الأدباء والفنانين في حوار من الإبداع وعنه . و لنتجاوز الكلام الحرفي للبطاط ونفكر بهدوء فيما دفعه للاعتقاد بذلك ... هل هي عقدة الأخت الكبرى؟ التي تعطي الكثير وتتحمل أكثر ثم يخرج عليها أخوتها متنكرين؟! (أعرف هذا الدور جيدا فقد ورثته عن أبي بميزاته القليلة ومآسيه المتجددة). هل هو إخفاق المثقفين المصريين المعاصرين في إعادة تعبئة وتنظيم أنفسهم بصورة جادة ومتحضرة كي يتمكنوا من إنجاز مجرد فعالية ثقافية ؟ أم هل هي طبيعة المرحلة التاريخية التي تعيشها مصر منزوية على نفسها وغير واثقة في قدرتها على التأثير كما تعودت؟

لا شك أن ما أثير حول مؤتمري النثر المذكورين يحمل كثيرا من اللمحات المستفزة والمخجلة في آن واحد كما يشير بقوة إلى المستوى الهزلي الذي وصل إليه المشهد الثقافي المصري في كل معطياته وعبر أداء ممثليه من الشباب قبل الكبار. فليس أشد هزلا من فشل مجموعة من شباب القصيدة الحديثة ينتمون إلى جيل واحد أو أجيال شديدة التقارب، في تنظيم أنفسهم وتحمل مسؤولية فكرة أو مشروع طموح راود خيالاتهم الإبداعية وأخذتهم الحماسة لتنفيذه. والكارثة أنه ليس بالمشروع الضخم أو النفعي الذي قد تفسده تضارب المصالح أو التوجهات، أنما هو من البساطة والرقي ما يشبه أحلام المراهقين بتغيير العالم. لكنهم بكل أسف لم ينجحوا في تغيير العالم ولا تغيير أنفسهم وتحول الحلم الشعري النبيل والمحاولة التقليدية للتمرد على الآباء إلى لوحة داكنة الألوان،مشوهة الملامح بفعل السباب والشتائم وتبادل الاتهامات وعليه لم يكن غريبا أو صعبا أن ينظر إلينا البعض باستنكار وتهكم.

لدي شعور في قرارة نفسي بمسؤولية فردية عما جاء على لسان البطاط فقد تعودت على ترديد مقولة تؤكد أن "من لا يجتهد بما يكفي لدخول حلبة التنافس عليه أن يتحمل كل ما سيقال عنه أو يفعل به"، ونحن بالطبع لم نجتهد بما يكفي لا على المستوي الفردي ولا الجماعي ،وما حدث بخصوص مؤتمري النثر نموذج متقن الصنع للوهن وضعف الثقة بالنفس وأيضا لتعرية ما آلت إليه الحركة الثقافية في مصر بشكل عام . أعتذر لكل من له علاقة بهذين الملتقيين من قريب أو بعيد فكلهم أساتذتي وأصدقائي وأؤكد أني لم أكن مطلقا ضمن أي الفريقين، لكن المسألة أكبر من ذلك والخيبة النهائية نجنيها جميعا ليس الآن فقط بل على مدي التاريخ وما أشد آلام الجرح الذي قد يتسبب فيه مثقف أو مبدع لبلده ومن هي هذه البلد؟ وماذا لو كانت بلد بحجم وتاريخ وعمق مصر ، لا أقول كلاما إنشائيا لكنها حقيقة لازال صداها يتردد في روحي وأنا أبتعد عنها تدريجيا و أقترب من مجتمعات أخرى.

بخصوص عقدة الأخت الكبرى فليس لنا ذنب فيها ،وفي الوقت ذاته نحن لها وسنظل لأننا ببساطة نعرف قدر المسؤولية التي تضعها على عاتقنا ظروف التاريخ والحضارة . إنها مسؤولية لا تقل أهمية ورقيا عما كانت على كاهل الأنبياء تجاه رسالاتهم، إذ كان عليهم أن يكونوا نموذجا تطبيقيا لما فيها، ونحن كذلك ينبغي أن نفهم أولا إلى أي بلد ننتمي وأي بضاعة نبيع وماذا سوف نضيف إلى تاريخ من سبقونا ممن آمنوا بها وقدروها واحترموا وجودهم في الحياة لأجلها هي وليس لأجل مجد فردي أو انتشار سخيف والمفارقة أنهم حققوا كل ذلك في وقت واحد ، أما الريادة فليست بمن يلحق كرسيا في الصف الأول أو يصنع أحداثا لا تذكرها سوى أبواق إعلامية فارغة ،بل الريادة بتقديم حالة حضارية حقيقية تضيف ولو سطرا في تاريخ تطور البشرية وأعتقد أن مصر قدمت في ذلك فصول وليس مجرد سطور.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى