الثلاثاء ٢٦ آب (أغسطس) ٢٠٠٨
بقلم حسن توفيق

من مقامات مجنون العرب

المجنون يصعد إلى الجبل.. بعد أن تعلق بحبل الأمل

اليائسون وحدهم يغرقون.. واذا قابلوا أعداءهم فانهم يستسلمون.. ولذا فإنهم يرضون بحياة الذل.. ويرون انها أسهل حل.. اما الذين يعشقون الكرامة.. فانهم يسيرون في سكة السلامة.. وحتى إذا قتلهم الأعداء.. فإنهم يموتون ميتة الشرفاء.. بهذه الروح الأبية.. اخذ المجنون يصرخ في البرية.. ثم تعلق بحبل الأمل.. واخذ يصعد الجبل.. بعد ان اصطحب معه زهير بن أبي سلمى.. الذي تحول من مبصر الى أعمى.. وعندما وصل الاثنان الى القمة.. قال زهير: ما اعظم الهمة.. اما المجنون فقال بعد أن ابتسم: هناك بالطبع فارق بين القمم.. فهناك قمم.. لا تورث إلا السقَم.. وإذا تكررتْ فإنها تصيب الناس بالسأم.. وهناك قمم.. لا يتلاقى فيها إلا أصحاب الهمم.. لكي يواجهوا الظلم إذا احتدم.. وليس لكي يبرئوا الذمم.. فجأة.. هبت رياح غاضبة.. كي تنذر الاشجار المترهلة الخائبة.. بأنها ستقلعها دون إشفاق او رحمة.. لأن العشاق لم يجنوا منها سوى صدمة بعد صدمة.. ولأن الأرض العربية.. لم تعد تقبل حركاتها الاستعراضية.. وظلت الرياح تحتد وتشتد.. وعلى كل الصحاري والوديان تمتد.. وفي تلك الأثناء.. جلجل في كل الأرجاء.. صوت شاعر عبقري.. يقول لكل إنسان عربي:

يسقط الخائبُ الجبانُ مهانا

حين يُرضي بجبنه الأوثانا

ويظن الخنوعَ طوقَ نجاةٍ

وقيودَ العِدَا ندى وحنانا

ها هو الحق خيمة في خلاءٍ

والأفاعي تطل.. والسمُّ بانا

والجراد اللعين ينضح شراً

والخفافيش تقهر الأغصانا

مَنْ أنادي - يا رب - هل من سميع

فالأذلاء أغلقوا الآذانا

حين يصحو الإباء في كل قلب

عربي.. يواجه الطوفانا

تشرق الشمس عندنا من جديد

تصبح الأرض كلها مهرجانا

«وإذا لم يكن من الموت بد

فمن العار أن تموت جبانا»

رفع زهير بن أبي سلمى رأسه.. وقال كمن يحدث نفسه.. معنى هذا أن الأرض العربية.. تواجه أخطارا دموية.. نتيجة للأطماع الأجنبية.. ونتيجة لأن النفوس الأبية.. مبعثرة كأنها أشلاء شظية.. يا للعجب.. إلى متى يظل العرب.. منقسمين على أنفسهم دون سبب. ألم يدركوا - بعد - أن الدنيا لمن غلب.. ألم يعرفوا أن الثعالب.. تحيط بهم من كل جانب.. وتستفيد من تفرقهم في كل خطوة.. وأن الحق دون قوة.. مثل المرأة الجميلة الطاهرة.. تتخطفها الأيادي الفاجرة.. ولهذا لابد أن يحميها فارس نبيل.. يجنبها البكاء والعويل.. ويدفعها لأن تعشق الحياة.. دون أن تطلق صرخة: آه. لعلك تتذكر يا مجنون.. أني قد قلت منذ عدة قرون:

ومن يبعد الطوفان عن خصب أرضه يكرّم.. ومن لا يتقِ اللطم يُلَّطَمِ ومن لا يذدْ عن حقه بسلاحه يحقّر.. ومن لا يقبل الظلم يعظمِ كانت الريح ماتزال تحتد وتشتد.. لكن المجنون نسي ما كان يحس به من برد.. لأن زهير بن ابي سلمى ذكره بسنوات العنفوان والمجد.. أما زهير نفسه فقد تنهد عدة مرات.. وقال: يبدو لي أن الأرض حبلى بالمفاجآت.. إني مؤمن بأن الطوفان مهما يحتدم.. لابد له أن ينهزم.. ولقد كنت أدعو دائما للسلم.. لكن السلم لا ينسجم مع الظلم.. وإذا كنت قد فقدت نور عينيّ.. فإني أسمع جيدا بكلتا اذنيّ.. إني أسمع أصواتا بعيدة لكنها قوية.. تقول بكل حماسة وحيوية.. لا.. للحرب.. نعم للسلم والحب.. .

فرح المجنون بهذه الأصوات.. لكنه سرعان ما أطلق آهات.. فقد كان يتمنى أن تكون هذه الأصوات أصواتا عربية.. أو على الأقل أن تمتزج الأصوات العربية.. بأصوات الآخرين من بني الإنسانية.. ربما تَحُولُ الأصوات البعيدة.. دون وقوع المكيدة.. هذا ما يتمناه المجنون.. وما يتمناه معه آخرون كثيرون.. من بينهم زهير بن أبي سلمى.. رغم انه تحول من مبصر الى أعمى.. وعلى العموم فإن المجنون يفكر الآن في طريقة.. تعيد لزهير البصر لكي يرى شمس الحقيقة.

المجنون يصعد إلى الجبل.. بعد أن تعلق بحبل الأمل

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى