الجمعة ٢٣ آب (أغسطس) ٢٠١٣
بقلم حسن توفيق

صلاح عبد الصبور والنبوءة الحزينة

تفتحت عيناي في شبابي والكون مقلوب على رأسه، وكان حلم حياتي أنا وجيل من أصحابي أن نعدل هذا الكون المقلوب، وأدركنا اليأس بعد قليل أو كثير، ثم ما لبثنا أن وقفنا نحن على رؤوسنا لكي نستطيع أن نتواصل مع الحياة والبشر.

هذا ما قاله صلاح عبد الصبور في ثنايا كتابه الجميل حياتي في الشعر ، لكي يقوم بمقارنة سريعة ما بين طموحات الشباب لتغيير واقع الحياة، ثم الرضا أو الاستسلام لهذا الواقع عند المخضرمين. ومنذ أيام قلائل أطلت علينا ذكرى غياب هذا الشاعر العربي العظيم الذي لم تدم مسيرته مع الحياة سوى خمسين سنة، حيث ولد في مدينة الزقازيق المصرية يوم 3 مايو سنة 1931 ورحل عن عالمنا يوم 13 أغسطس سنة 1981، أي منذ اثنتين وثلاثين سنة، ومن حصاد المصادفات أن جثمان صديقه الشاعر الكبير محمود درويش قد جرى تشييعه لمثواه برام الله في نفس ذلك اليوم سنة 2008.

أصدر صلاح عبد الصبور ديوانه الأول الناس في بلادي سنة 1957 أي وهو في السادسة والعشرين من عمره، لكن هذا الديوان أحدث ضجة نقدية هائلة فقد هاجمه عباس محمود العقاد هجوما عنيفا بدعوى أن قصائده فيها خروج على تقاليد الشعر العربي، كما كتب عنه بقدر من التحفظ الدكتور زكي نجيب محمود، بينما انبرى للدفاع عن الناس في بلادي وللتحمس لمبدعه الشاب وقتها كثيرون من أدباء ونقاد الوطن العربي بأسره.
تتابعت بعد هذا الديوان البكر دواوين صلاح عبد الصبور وهي : أقول لكم – أحلام الفارس القديم – تأملات في زمن جريح – شجر الليل – الإبحار في الذاكرة، لكن الشاعر العظيم لم يكتف بما حققه، بل انطلق لكتابة المسرح الشعري وفقا لنهج الشعر الحر، متجاوزا ما كان أمير الشعراء أحمد شوقي قد أبدعه وفقا لنهج الشعر العمودي، وهكذا تلقت الساحة الأدبية والثقافية العربية مسرحية مأساة الحلاج التي ترجمت إلى العديد من اللغات العالمية، من بينها الإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية، وتتابعت من بعدها مسرحيات مسافر ليل، والأميرة تنتظر، وليلى والمجنون، وبعد أن يموت الملك.

لم يكن صلاح عبد الصبور شاعرا عظيما وكاتبا مسرحيا من الطراز الرفيع فحسب، ولكنه كان مثقفا موسوعيا بكل معنى الكلمة ، وقد تجلت هذه الثقافة في كتاباته النقدية والفكرية وكذلك فيما قدمه من ترجمات لشعراء عالميين، من بينهم لوركا وبودلير وايفتشنكو وبرتولت بريشت، وقد اهتمت الهيئة العامة للكتاب في مصر بإصدار أعماله الكاملة بعد غيابه عن عالمنا وكان الحصاد أحد عشر مجلدا، وكلها نفدت منذ سنوات وأتمنى أن يعاد طبعها من جديد لكي تتمكن الأجيال العربية الجديدة من اقتنائها وتذوق ما فيها من متعة روحية وفائدة عقلية.

على الصعيد الإنساني فإني أفخر وأعتز بأني قد صادقت هذا الشاعر العظيم منذ أن كنت طالبا جامعيا وقد ساعدني كما ساعد كثيرين من أبناء جيلي على تطوير قدراتهم وإمكانياتهم وعلى نشر دواوينهم وأذكر هنا أن أمل دنقل كان قد يئس من نشر ديوانه الأول البكاء بين يدي زرقاء اليمامة بعد أن تخلى نزار قباني عن وعده بنشره في دار النشر التي كان يملكها، إلى أن تكفل صلاح عبد الصبور بتقديمه بنفسه إلى الدكتور سهيل إدريس حيث تم نشره ضمن إصدارات دار الآداب البيروتية.

إذا كنت قد أحببت هذا الشاعر العظيم منذ أن كنت شابا صغيرا، فإني لن أنسى ذكريات زيارته للدوحة في مايو سنة 1980 حيث استضافه عميد الصحافة القطرية الأستاذ ناصر محمد العثمان والذي كان وقتها مديرا لإدارة الثقافة والفنون، كما تكفل بتقديمه للحاضرين في أمسية شعرية أقيمت في إحدى قاعات فندق رمادا وقد امتلأت تلك القاعة وقتها بالحاضرين الذين تصدرهم كل من الكاتبين الكبيرين الراحلين الطيب صالح ورجاء النقاش، وكان لي شرف حضورها وما زلت إلى الآن أحتفظ بشريط الفيديو الخاص بتلك الأمسية الرائعة لأعود لمشاهدته بين حين وآخر، ولكي أستعيد ما كان أطلقه وقتها من نبوءة صادقة وحزينة: رعب أكبر من هذا سوف يجيء.

وها هي اثنتان وثلاثون سنة تنقضي على غياب صلاح عبد الصبور، والغريب أن بعض الشعراء المصريين ما زالوا يغارون منه حتى الآن، لأنهم يدركون أن قامته ما تزال عالية وأن حضوره الشعري والإنساني ما يزال واضحا وناصعا رغم فداحة وطول هذا الغياب!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى