الخميس ٩ أيار (مايو) ٢٠٠٢

مَن الإرهابي ؟

وقد أخطأ الغرب في اتهامه الإسلام بالإرهاب، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، هكذا يقول علماء المنطق العقليون، وعلماء الأصول الإسلاميون والذين يتهمون الإسلام والمسلمين الآن بالإرهاب عليهم أن يتصوروا حقيقة الإسلام، الذي يدين به الآن مليار ونصف مليار من المسلمين يفترشون مساحات واسعة فوق سطح الكرة الأرضية، ومفتاح الإسلام الأول هو القرآن الكريم، فهل إذا رجعنا الى القرآن لكي نتصور الإسلام كما وضع أسسه القرآن نجد هذا الإسلام إرهابياً كما يزعمون، وأن المسلمين إرهابيون تبعاً للإسلام؟!

الرجوع الى القرآن والسنة

ومع الرجوع الى القرآن، ينبغي الرجوع الى السُنة النبوية، ثم الى الواقع التاريخي للدولة الإسلامية في عصر النبوة، والخلافة الراشدة، وهي الفترة التي تأسس فيها الإسلام منهجاً وسيرة وسلوكاً، إذن كان ينبغي على من يتهمون الإسلام والمسلمين بالإرهاب أن يؤسسوا أحكامهم بالوقوف على المصادر التي أشرنا إليها لو كانوا طلاب حق يريدون أن يكون لما يقولون احترام وتقدير عند الناس.

وقبل أن نستعرض موقف القرآن في هذا الصدد نشير الى فرية افتراها خصوم الإسلام، ثم انطلقوا منها بلا ضوابط يكيلون للإسلام التُهم في كل اتجاه، تلك الفرية هي قولهم: إن الإسلام انتشر بالسيف وسفك الدماء وأن الأيديولوجية التي حكمت تصرفاته تتلخص في هذا الخطاب الإسلامي الصامت لغير المسلم: أسلم أو تُقتل، والإسلام برئ من هذا كل البراءة.

فهذا هو القرآن (دستور الإسلام الأول) ينادي جماعة المؤمنين (المسلمين) هذا النداء الخالد:

<< يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين >> (البقرة 208).

إنه نداء عام:

<< يا أيها الذين آمنوا >> وقد أُكد هذا العموم بقوله - تعالى - :
<< كافة >> أي لا يشذ منكم أحد عن الدخول في السلم (السلام) وأن الشذوذ عن هذا المبدأ العام اتباع لخطوات الشيطان، والشيطان عدو المؤمنين.

والأمر هنا << ادخلوا >> للوجوب والإلزام، وفي آية أخرى يقرر الإسلام حُرمة الدماء لجميع الأحياء دون تفرقة بينهم في العقيدة والدين والمذهب، ومما وقع الاتفاق عليه بين فقهاء الأمة أن دم كل إنسان مصون باعتباره إنساناً دون اشتراط أي وصف آخر، وأن صون دمه يتحقق بولادته حياً.

وقد أخذ الفقهاء هذا المبدأ من قوله – تعالى - :

<< ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق >> (الإسراء 33)

وقد تكرر هذا النهي مرة أخرى:

<< ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق >> (الإنعام 151)

ثم هول القرآن من قتل النفس ظلماً وعدواناً، وجعله مساوياً في الشناعة لقتل الناس جميعاً، فقال – عز وجل -:

<< أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً >> (المائدة 32)

وليس في الإسلام نص واحد في كتاب الله أو سُنة رسوله يبيح قتل إنسان بسبب عدم دخوله في الإسلام، أو لأنه يعتنق عقيدة ودين غير عقيدة الإسلام ودين الإسلام.

والدعوة الى الله كانت تخلو من الإكراه والضغط وأساسها هو البلاغ الواضح، وبعد البلاغ يُترك الناس وشأنهم، وقد تقرر هذا المبدأ في قوله – تعالى-:

<< لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي >>. (البقرة 256).

كما يحصر القرآن مهمة الرسالة في مجرى البلاغ وينفي أن يكون للرسول حق الضغط على من يدعوهم الى الإسلام وفي ذلك ورد قوله – تعالى -:

<< فذكر إنما أنت مذكر(24) لست عليهم بمصيطر >>
(الغاشية 21.22).

وفي قوله تعالى:

<< فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب >> (الرعد 40)

تأكيد لحصر مهمة الرسول (ص) في البلاغ دونما سواه، بل إننا نجده يقرر حرية الاعتقاد بعد البلاغ في عبارات شديدة الوضوح على المراد منها، ترى ذلك في قوله – جل وعلا -:
<< وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فيكفر إنا اعتدنا للظالمين ناراً >> (الكهف 29).

هذا هو في إيجاز منهج القرآن في الدعوة الى الله، لا ترى فيه سيفاً ولا رمحاً، وإنما هو بيان قولي يمهد طريق الإيمان للراغبين، ويقيم الحُجة لله على المعرضين، ويقطع أمامهم الأعذار.

إن استقرار الأمن العام والخاص من أولويات الإسلام للمسلم، ولغير المسلم.. وإذا تعرض هذا الأمن للخلل فإن القرآن يحاصر الذين يشيعون الإرهاب والتخويف وترويع الآمنين أياً كانت عقائدهم وانتماءاتهم، ويضع بين يدي ولاة الأمر مجموعة من العقوبات الرادعة للإرجاف والمرجفين، وفي ذلك ورد قوله – جل شأنه -:

<< إنما جزؤا الذين يُحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يُقتلوا أو يُصلبوا أو تُقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو يُنفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم >> (المائدة 33).

إن كل عقوبة من هذه العقوبات الأربع تناسب جريمة من جرائم هؤلاء المحاربين (الإرهابيين) وأخف هذه العقوبات هي (النفي) من الأرض، وقد نص العلماء على أنها عقوبة للتخويف والترويع، وهو أخف الجرائم.

كما فسروا النفي بالإبعاد من الوطن، أي: التغريب. أما إذا قتلوا ونهبوا، فالعقوبة القتل. وإذا مثلوا وقتلوا، فالعقوبة هي القتل والتصليب، وإذا اقتصروا على التخويف ونهب الأموال، فالعقوبة هي تقطيع الأيدي والأرجل.

وبهذه الإجراءات الحاسمة يحارب الإسلام الإرهاب والمحاربين، بلا رحمة، لأنهم يعبثون بالأمن ويعبثون في الأرض فساداً.
فكيف يكون الإسلام دين إرهاب وعنف؟!.. وها هو ذا يكافح الإرهاب بقوة لا هوادة فيها.

وتشريعات الإسلام في ما يتعلق بنظام المجتمع في الحياة الدنيا ليست وقفاً على المسلمين، وإنما هي واحة مظلة لكل فرد من أفراد المجتمع.

فعرض غير المسلم حرام مثل حرمة عرض المسلم.

ومال غير المسلم حرام كحرمة مال المسلم.

ودم غير المسلم حرام كحرمة دم المسلم.

وأمن غير المسلم مصون مثل صون أمن المسلم.

فأين تجد – يا ترى – رائحة الإرهاب عالقة بالإسلام في الجانب الذي تقدم ذكره.

آيات يخطئون في فهمها

ولكن في القرآن الكريم آيات، قد يتمسك بها من يتهمون الإسلام بالإرهاب، وأنه لا يرى لمن يخالفهم في العقيدة إلا القتل والقتال، كما قد يتمسكون بحديث واحد صحيح النسبة لرسول الإسلام (ص).

وليس لهم لا في الآيات القرآنية، ولا في الحديث أي دليل على ما يقولون. بل إن القرآن الكريم، والسُنة النبوية – قولاً وعملاً – يدحضان هذه الفرية التي روجها خصوم الإسلام قديماً، ويروجها الغرب الصليبي حديثاً، وبيان ذلك ميسور لمن أراد.

فمن الآيات التي قد يتمسكون بها قول الله – تعالى -:

<< فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم >> (التوبة 5)

يفهمون من هذه الآية أنها تحرض على قتل المشركين وتضيق الخناق عليهم، وأنهم – أي المشركين – لا ينجونمن سيف المسلمين إلا إذا دخلوا في الإسلام، لأن الآية جعلت توبة المشركين من الكفر، وإقامتهم للصلاة شرطاً في كف القتل عنهم.

وهذا الذي يفهمونه لا أساس له من الصحة، ولم يكن الكفر والإشراك سبباً قط في قتل المشركين ومطاردتهم. وإنما تتحدث هذه الآية عن مشركي العرب في بدء الدعوة الى الإسلام، لأنهم وقفوا لها بالمرصاد في ذلك الوقت، واضطهدوا الذين سارعوا بالدخول في الإسلام، وأخذوا يعذبون من استطاعوا تعذيبه منهم، حتى اضطر المسلمون الى الهجرة ثلاث مرات:

مرتين الى الحبشة، ومرة الى المدينة، وحتى بعد هجرة الرسول وأصحابه الى المدينة، لم يتوقف عداؤهم للإسلام وكبدهم للمسلمين، واستمرت مؤامراتهم ضد الإسلام والمسلمين ثماني سنين بعد هجرة المسلمين الى المدينة وبذلوا كل ما في وسعهم للقضاء على الإسلام، ومن أبرز ما قاموا به تجييش الجيوش لغزو المدينة في غزوات بدر الكبرى، وأحد، والأحزاب. حتى عقد الهدنة الذي تم في صلح الحديبية لم يوفوا به ونقضوه.

إذن، فإن هذه الآية تتحدث عن قوم قد أضرموا نار العداوة، وأزكوها، وألقوا فيها بكل ما يملكون من ثقل حربي.

ومع هذا حرم الله القتال في أربعة أشهر سماها أشهر حرماً، وحذر المسلمين من القتال فيها، وهي هدنة استفاد منها المشركون، كما استفاد منها المسلمون، حيث حُقنت دماء الطرفين.

وبعد انتهاء الهدنة، أمر الله المسلمين أن يستأنفوا قتال هذا العدو اللدود، الذي ظل يطارد الدعوة طوال عهديها المكي والمدني، فهذا الأمر كان استئنافاً لجهاد العدو، الذي لم يتغير موقفه من الدعوة.

فالقتال المأمور به في هذه الآية لم يكن موجبه شرك المشركين، بل كان موجبه دفع خطر المشركين على الدعوة، ولو أنهم بقوا على شركهم دون الوقوف في طريق الدعوة واعتداءاتهم على المؤمنين بها، وإيذائهم إياهم في أنفسهم وأموالهم، لما أهدر الإسلام دماءهم، ولما أمرهم بقتالهم، فلا دليل – إذن – في هذه الآية على اتهام الإسلام بالإرهاب والعنف.

وقريب من هذه الآية قوله – تعالى -:

<< وقاتلوا المشركين كافة كما يقتلونكم كافة >> (التوبة 36)

وهي – كذلك – لا دليل فيها على اتهام الإسلام بالإرهاب، وتركيب الآية يدل على براءتها مما يريدون منها، لأنها تأمر المسلمين بأن يقاتلوا المشركين مجموعين كما يقاتلهم المشركون مجموعين، ففيها أمر بقتال في مواجهة قتال فعلاً.

وباختصار فإن معنى هذه الآية نوجزه في هذه العبارة:

<< قاتلوا من يقاتلكم >> وليس في هذا عنف ولا إرهاب، لأن كف أي إنسان الخطر عن نفسه حق له مشروع، حتى في النظم الوضعية الحديثة، التي يندرج فيها هذا المعنى تحت مبدأ:

"المعاملة بالمثل" وحتى ما يسمى بـ "القانون الطبيعي" يقر بهذا المبدأ.
ومن أشهر ما يؤيدون به دعواهم: أن الإسلام دين إرهاب، وأنه يرى القتل مصيراً محتوماً لكل من يخالفه في العقيدة، قول الله – تعالى -:

<< قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صغرون >> (التوبة 29).

ولو أن هؤلاء المتحاملين على الإسلام، دققوا النظر في صيغة الآية، لظهر لهم فساد المعنى الذي فهموه لها، وهو أن الإسلام دين دموي إرهابي، لا يرى لمخالفيه إلا القتل.

حاشا لله أن يكون هذا هو المراد من هذه الآية، لأنها تتحدث عن ظرف خاص وطائفة خاصة من أهل الكتاب، هم اليهود. ولم يكن سبب الأمر بقتالهم كونهم يهوداً ، ولا كونهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا كونهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا كونهم لا يدينون دين الحق.

هذه الأوصاف لم تكن هي الأسباب المنشئة للأمر بقتالهم، والذي يدل دلالة قاطعة على أن تلك الأوصاف لم تكن هي الموجب لقتالهم ما ورد في الآية نفسها:

<< حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صغرون >>.

لأن القرآن جعل إعطاء الجزية منهياً لقتالهم، ولم يجعل دخولهم في الإسلام هو المنهي لقتالهم.
بل كان الموجب لقتالهم جرائم بشعة اقترفوها ضد الإسلام والمسلمين، منها:

نقض العهود التي أخذها عليهم المسلمون، وقد نصت تلك العهود على أن اليهود يكونون أمة مع المسلمين، ولكنهم نقضوها وتآمروا فيما بينهم، ومع مشركي العرب على ضرب الإسلام والمسلمين.

هذا هو السبب، فهو قتال لدفع خطر واقع فعلاً من اليهود على الدولة الإسلامية الناشئة، حيث كانوا يمثلون عصبة مجرمة داخل الدولة، التي أقرتهم على عقيدتهم، ومنحتهم الحرية الدينية التامة في أداء شعائرهم، والحرية التامة في العمل للحياة الدنيا، في الزراعة والتجارة والصناعة.

فقابلوا الإحسان بالإساءة والجميل بالقبيح، والإخلاص بالمكر والخداع.
ومن الآيات التي أساءوا فهمها ليشوهوا حقائق الإسلام قوله – تعالى-:
<< يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة >> (التوبة 123).

يفهمون أن هذه الآية تحرض كل مجتمع إسلامي على قتال كل من يجاورهم، وهذا خطأ شنيع، وحقيقة المراد من هذه الآية أن المسلمين كانوا قد علموا أن الفرس والروم يريدون غزو عاصمة الدولة الإسلامية الناشئة (المدينة المنورة) وعزموا على مباداة الدولتين بالقتال، ولكنهم اختلفوا حول بمن يبدأون؟! .. أيبدأون بالروم وهم أقرب مكاناً الى المسلمين؟!

أم يبدأون بالفرس، وهم أبعد مكاناً؟!

فنزلت هذه الآية ترشدهم الى قتال الأقربين إليهم مكاناً، وهم الروم.

فأنت ترى أن المراد من هذه الآية أمر خاص وليس عاماً، وبذلك تبرأ الآية من الفهم الفاسد الذي تمسك به من يصفون الإسلام بالإرهاب والدموية والعنف.

أما الحديث فهو:

"أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ... "
(البخاري ومسلم: كتاب الإيمان)

هذا الحديث أجمع أهل العلم على أنه خاص بمشركي العرب، لا يتعداهم الى غيرهم. لأنهم يعرفون رسول الإسلام معرفة عميقة، فهو بينهم نشأ، يعرفون صدقه، وأمانته، والقرآن بلغتهم نزل، فهم أقدر الناس على فهم مراميه، لذلك لم يقبل الإسلام منهم أي بديل، مثل الجزية، عن الإسلام.

هذا هو التوجيه الحق في فهم هذه النصوص الشرعية، فليس فيها أدنى شبهة على اتهام الإسلام بالإرهاب أو التبرم بمخالفيه في العقيدة، وكيف يكون الإسلام إرهابياً وهو دين السماحة والعدل والحرية والمساواة.

للأستاذ / الدكتور عبد العظيم المطعنى


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى