الثلاثاء ٢٢ نيسان (أبريل) ٢٠٢٥

مُثقفٌ ضدّ التَّيار… ومعلّمٌ بحجْم الوَطن

عبد الفتاح لحجمري

أحمد اليبوري… المعلم الذي ربّى المعنى

تشكّل المسار الثقافي للأستاذ أحمد اليبوري عبر عقود من الاشتغال الجاد والمتعدد، حيث التقت في تجربته الكتابة بالموقف، والنقد بالالتزام، والمعرفة بالفعل التاريخي والخيال الأدبي.

يتميّز الأستاذ اليبوري بقدرته النادرة على الربط بين العمق المعرفي والوعي التاريخي، وبين المسؤولية الثقافية والحسّ النقدي المتزن. كان وما زال منشغلا بتفكيك البنيات الذهنية والثقافية التي تحكم رؤيتنا لذواتنا ولمجتمعنا وتاريخنا. في كل مقالة كتبها، وفي كل موقف تبنّاه، كان يحرّك سؤال التنوير من الداخل، لا بوصفه خيارًا فكريًا فحسب، بل باعتباره ضرورة أخلاقية ومسارًا حضاريًا. لقد خاض معركة الفكر من موقع بناء بدائل، والرهان على الفكر الحيّ القادر على النقد كما القادر على التأسيس. بذلك، لم يكن المثقف الذي ينتظر التغيير، بل من يُبادر إلى فهم شروطه والمشاركة في صناعته.
إن ما يمنح تجربة أحمد اليبوري مكانتها المتميزة في الثقافة المغربية تلك القدرة المتزنة على جعل الفكر حوارًا مفتوحًا مع التحولات دون التفريط في المبادئ. ظل وما يزال حريصًا على أن تظل الكلمة مسؤولة، والكتابة فعلًا يستمد مشروعيته من الواقع ومن الأفق معًا، مؤمنًا بأن دور المثقف لا يتحقق في الانعزال أو التلقين، وإنما في تحريك الوعي الجماعي نحو مساءلة الممكن وتوسيع أفق التفكير. يُستدعى اسمه اليوم رمزا لمثقف ظل وفيًّا لقلقه المعرفي، وانحيازه الصارم للحداثة العقلانية، وإيمانه بأن الأدب والفكر يملكان معًا القدرة على مساءلة الواقع، وتخيّل ما لم يأت بعد.

تجربتي مع الأستاذ أحمد اليبوري لم تكن مجرّد تلمذة على يديه، بل كانت اقترابًا حيًّا من روح إنسان نادر، يجمع بين الصرامة الأكاديمية والدفء الإنساني. عرفته أستاذًا محاضرًا متمكنًا، يشعّ حضوره بثقة العارف، ودقّة الباحث، وهدوء من يعرف متى ينصت، ومتى يوجّه الكلمة لتُصيبَ مقصدها من غير إلحاح أو استعراض. وكان، إلى جانب ذلك، إنسانًا يفتح لك قلبه وباب بيته للدخول من غير استئذان، بسخاء نادر، وابتسامة تسكنها الحكمة، وعينين تقولان أكثر مما يفصح عنه الكلام. لا يتكلّف في مواقفه، ولا يتعالى بعلمه، بل يرافقك في الحوار كمَنْ يضعك في مقام الند، محترمًا حيرتك، وصامتًا حين يكون الصمت أبلغ من التفسير.

في حضرته، تتعلم أن المعرفة لا تُفصَل عن الأخلاق، وأن التواضع ليس تخلّيًا عن المكانة، بل تأكيد لها. كان وما يزال بسيطًا في مظهره، عميقًا في أثره، واسع الأفق، دقيق الحس، يشبه في حضوره أولئك المفكرين الذين لا يُرى وهجهم في المراتب التي يتقلدونها، بل في الأثر الذي يتركونه في الأرواح والعُقول. لقد عرفته أستاذًا، وباحثًا، وإنسانًا، فوجدته في كل هذه المقامات واحدًا لا يتجزأ، رجلًا يحمل في قلبه إيمانًا لا يتزعزع بأن الكلمة قادرة على خلق المعنى، وأن المعرفة مسؤولية قبل أن تكون امتيازًا.

صوت الحكمة الخافت… وصدى الفكرة الباقية

ما يميز الأستاذ أحمد اليبوري عن كثير من أبناء جيله أنه لم يتخذ من الكتابة برجًا عاجيًا، ولا من النقد منصة للمساءلة المجردة، وإنما كتب من الداخل، من عمق انتمائه الثقافي والاجتماعي والوجداني. لا تفصل مسافة التفكير عنده بين الذات والموضوع لذلك تصل إلى القارئ وقد نُقّيت من الزيف.

نصوصه النقدية تشبهُهُ: هادئة المظهر، عميقة الامتداد، تأخذ القارئ نحو الطبقات الخفية في النص وفي الحياة، دون أن تدّعي الحسم أو تطمح إلى سلطة معرفية. لقد ظل وما زال صوته نقديًا بامتياز، لكنه نابع من تعاطف خفيّ مع الإنسان، بكل ضعفه وأمله.

في حضور أحمد اليبوري، تشعر أنك أمام ذاكرة ثقافية لا تقتصر على ما دوّنه في كتبه ودراساته، بل تمتد إلى ما عايشه من محطات وتحولات شهدها المشهد الثقافي المغربي منذ الاستقلال. لقد عايش عن قرب ولادة الجامعة المغربية، وانبثاق التيارات النقدية والأدبية الأولى، وشهد من الداخل التحولات الفكرية الكبرى التي عصفت بالمجتمع والثقافة. لكنه لم يكن مجرد شاهد، كان مساهمًا، ناقدًا، ومؤثرًا في بناء هذا التاريخ؛ كان حارسًا صامتًا لروحٍ جماعية ما زالت تبحث عن صوتها.

توازن استثنائي يجمع بين رحابة الفكر وثبات المبدأ

من السمات اللافتة في شخصية أحمد اليبوري قدرته على أن يكون منفتحًا دون أن يفرّط، ومتجددًا دون أن يتنكر لجذوره. لم يغره التحديث السريع، ولا استهواه الصدام العقيم مع التقاليد، بل كان من طينة أولئك الذين يشتغلون على الزمن البطيء، والفاعلية الهادئة، والنمو الداخلي للأفكار. كان يعرف أن الأفكار الكبيرة لا تُفرض، بل تُغرس بصبر، وأن المجتمع لا يتغير بالشعارات، بل بالحوار والتدرج والقدوة. وقد مارس ذلك بتواضع العارف، لا بوصاية المؤدلج. لذلك ظل صوته محترمًا من مختلف الأطياف النقدية والجامعية، لأنه لم يُقحم نفسه في معارك الاستعراض، وإنما ظلّ وفياً لنزاهة الفكر وصفاء الرؤية.

أستاذٌ أبَى الأضواء واختارَ الأثر

في زمن بدأت فيه القيم تتهاوى، ويتراجع فيه اليقين بجدوى الفكر وقدرته على التأثير، ظلّ أحمد اليبوري وفيًا لرهانه الأول: الإخلاص للأدب ولشرف الكلمة. لم يبدّل وجهته، ولم ينجرّ إلى صفقات فكرية تُمليها ضرورات السياق أو غواية اللحظة؛ بل حافظ على بوصلته ثابتة، منحازًا لجوهر الكتابة بوصفها فعلًا وجوديًا وموقفًا أخلاقيًا من العالم. لم تكن الكتابة الأدبية لديه تمرينًا ذهنيًا ولا استعراضًا لغويًا، وإنما شكلًا من أشكال المقاومة الهادئة. وهكذا، غدا حضوره الفكري والسلوكي علامة فارقة في زمن الالتباس، ومرآةً تعكس صفاءً نادرًا في الرؤية والنبرة، ودرسًا مفتوحًا في الصمت النبيل والكتابة النزيهة.

المحاضر الذي يحوّل المدرّج إلى ورشة فكرية

من يدخل مدرّج الجامعة ليستمع إلى الأستاذ أحمد اليبوري لا يغادره كما دخل. كان من النادر أن تجد أستاذًا يجمع بين وضوح الطرح، وصفاء الذهن، ودفء الحضور الإنساني، كما كان يفعل. بصوته الهادئ ونبرته المتزنة، ينسج الأفكار نسجًا دقيقًا، دون بهرجة أو خطاب متعالٍ، وإنما بمنهجية راسخة تُشرك الطالب في بناء المعنى، وتجعله جزءًا من العملية الفكرية لا مجرد متلقٍّ. كانت محاضرته حوارًا يغذي العقل ويوقظ الحواس، ويمنح لكل فكرة بعدها الزمني والإنساني. لم يكن الأحمدُ أستاذًا يُلقّن، كان مثقفًا يُضيء، وقد جعل من لحظة الدرس فضاءً للتماس مع الأدب والحياة والذاكرة، بأسلوب نادر يجمع بين الرصانة والدفء، بين العمق والبساطة، وبين الحزم ومُرونة الروح.

مشروع أدبي متكامل في خدمة الرواية والنقد

أحمد اليبوري صاحب مشروع فكري واضح، يربط بين النقد الأدبي وتطور المجتمع، ويجعل من النص أفقا لفهم الذات والتحولات الثقافية الكبرى. أعماله المرجعية، مثل" دينامية النص الروائي" و" في الرواية العربية: التكون والاشتغال"، خارطة طريق لفهم حركة الرواية العربية من الداخل، في علاقتها بالبنية والسياق والدلالة. أما في أسئلة المنهج، فقد وجه بوصلة البحث الأكاديمي المغربي نحو التفكير النقدي الرصين، متصديًا لفوضى التنظير منفتحا بأريحية نادرة على أسئلة الطلاب والباحثين، كما قدّم في "تطور القصة في المغرب: مرحلة التأسيس "قراءة لمسار سردي لم يكن قد نال بعد ما يستحق من الدرس والتحليل.

هكذا، يظل أحمد اليبوري، في كتاباته كما في صمْته، مشغولًا بما يجعل الأدب مجالًا حيويًا لإنتاج المعنى، وللتفكير في الذات والآخر، في الهويّة والانتماء، في التحوّل والتجاوز. لقد جعل من الأدب أداةً للتأمل، ومجالًا للمساءلة، حيث تُصبح الكتابة موقفًا فكريًا وجماليًا في آن، لا انفصال فيه بين التجربة واللغة، ولا بين الذات والعالم.

فما الذي يجعل الأدب اليوم قادرًا على استعادة هذه الوظيفة التنويرية؟ وهل ما يزال بوسع الأدب أن يكون صوتًا نقديًا في زمن الضجيج الثقافي؟ ما الدور الذي يُنتظر من المثقفين والكُتّاب اليوم، في زمنٍ تتداخل فيه الأصوات وتضطرب فيه المقاييس، حيث يغدو التمييز بين المعنى الحقيقي وصدى التكرار، وبين العمق والتسطيح، مهمة فكرية شاقة؟

هذا الحديث تحية وفاء لواحد من أولئك الذين يتركون أثرهم بخطى ثابتة وضياء داخلي لا يخبو. إلى الأستاذ أحمد اليبوري، الذي لم يكن مجرد مربٍّ ومعلّم، بل كان حاملًا لرسالة، غارسًا لبذور الوعي، صانعًا في صمت لرجال الكلمة والموقف. إن أثر أمثالكم يُقاس بما أيقظوه فينا من حسّ مسؤول، وما بثّوه من قيم راسخة، وما صنعوه فينا من قدرة على التمييز بين الفكر بوصفه ترفا عابرا، والفكر بما هو التزام أخلاقي وموقف من الحياة.

سيدي أحمد،

شكرًا لأنك علّمتنا أن الثقافة لا تنفصل عن الضمير، وأن الكتابة عهد مع الحقيقة، وأن التكوين لا يبدأ من الكتاب، بل من الإيمان العميق بأن الكلمة مسؤوليّة.

شكرًا لأنك كُنتَ النبراس الذي لا يطالبُ بالاتبَاع، بل يحثّ على اليقظة؛ كنت الأستاذ الذي يزرع ولا ينتظر الحصاد، ويعطي لأن العطاء جزء من طبيعته... لا من واجبه.

لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.

عبد الفتاح لحجمري

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى