الأربعاء ١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٥

ندوة دار الشعر بمراكش

نظمت دار الشعر بمراكش، بتنسيق مع جمعية الشباب المبدع وضمن فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان واد نون السينمائي، وضمن برمجتها الشعرية للموسم الجديد واستراتيجيتها الخاصة بالانفتاح على باقي الجهات الست في جنوبنا المغربي، تظاهرة شعرية ونقدية في مدينة كلميم. واحتضن المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين لجهة كلميم واد نون، صبيحة يوم الجمعة 27 دجنبر، منتدى حواريا خصص لمقاربة نسق الصورة بين تقاطعات الشعري والسينمائي، وبمشاركة النقاد بوبكر الحيحي، ياسمين بوشفار وفريد بياض.

وقارب المتدخلون أنساق الصورة بين تقاطعات الشعري والسينمائي، ضمن رؤى متعددة، انطلق مدخلها الأساسي من رؤية الناقد بوبكر الحيحي، والتي وسمها ب"فن الإيحاء: جمالية مشتركة بين الشعر والسينما"، والذي أشار في مطلع ورقته أن الشعر والسينما يتقاسمان، "على الرغم من اختلاف الوسيط الذي يستعملانه، جوهرا مشتركا: وهو التقاط ما هو غير مرئي كالعواطف، وتجاوز الواقع من خلال لغة الصور والرموز"، لذلك سعت مداخلته الى تلمس بعض التقاطعات الممكنة.
فمن "ترابط الصور أو الاستعارة"، يلاحظ الناقد بوبكر الحيحي، أن "ثمة تجاورات في الشعر عبر ربط صور مختلفة، تسمح بتجاوز المرئي والعقلاني للتطرق إلى البعد العاطفي أو الروحي"، مقدما أمثلة من المنجز الشعري لبدر شاكر السياب، ومن المنجز الفيلمي لايزنشتاين. إذ في السينما نجد ما يسمى بالتوليف عبر لصق اللقطات حيث توضع لقطة بجوار لقطة أخرى قصد خلق تداعيات فكرية. وانتقالا الى بنية "الإيقاع والموسيقى"، يشير الحيحي الى قصيدة الكوليرا لنازك الملائكة، حيث تتبع إيقاعًا داخليا، كما يقوم المونتاج، في السينما، بخلق إيقاع بالتناوب بين اللقطات الطويلة والقصيرة، الصامتة أو المكثفة. ويعطي هذا الإيقاع تجربة حسية قريبة من الموسيقى أو الشعر، كما "في شريط "الخط الأحمر(تيرنس ماليك، 1998) .

ينتقل الباحث الى بعد "الزمانية المجزأة"، حيث غالبًا ما يلعب المونتاج الشعري بالزمن، ويمزج الماضي والحاضر والمستقبل في استمرارية عاطفية وليست خطية. وكما في شريط "سينما باراديسو" للمخرج جوزبي تورناتوري، حيث يتأرجح بين الحاضر والماضي حيث كان المخرج طفلاً شغوفا بالسينما. ويواصل الباحث الحيحي ترسيم سمات هذه التقاطعات الجمالية الممكنة، من خلال: الحذف والإيحاء(محمود درويش، "أوديسا الفضاء" لستانلي كوبريك)، والتوليف الانطباعي، والصور المتراكبة والطباعة الفوقية (أدونيس في نص "مفرد بصيغة الجمع"، وشريط "صمت الكمنجات" لسعد الشرايبي)، والشعرية الحدسية، لينتهي الباحث الى التأكيد أن الشعر والسينما يشتركان في هدف مشترك وهو تجاوز الواقع والتعبير عما لا يوصف وإيقاظ الخيال. يوضح الشعر والسينما أن الفن، مهما كان شكله، يظل وسيلة عالمية لاستكشاف عمق التجربة الإنسانية عبر الإيحاء.

في ورقته حول "الشعر والسينما: أفقان متناظران للإبداع"، نوه الباحث فريد بياض أن "مجرد التفكير في التوفيق بين السينما والشعر يخلق صعوبة في رسم الحدود بين كونيهما"، غير أن الموضوع يجد مسوغا تاريخيا، في كون السينما ملتقى نوعين من التقاليد، وهو ما يفضي الى أمر أساسي، والذي يسوغ البحث عن عناصر مشتركة بين الشعر القائم على اللفظ والسينما الصورة، رغم وجود تفاوت بين العوالم التي نلجها بالعين وتلك التي نأتي إليها عبر الكلمات.
يفترض الباحث بياض الى "وجود شعرية مشتركة بين مختلف الفنون سواء أكانت من أصل صوري أو كلمي.. هذه الفرضية ترتبط أصولها عند بازوليني الذي جمع ما لا يجتمع في شخص (شاعر مخرج سينمائي رجل مسرح ورسام وكاتب) أو "سينما الشعر"، في محاولة تدليل صعوبة تحويل الصورة الساكنة إلى أسطر أبيات شعرية عبر جعل السينما تستوعب الأنموذج اللغوي للقصيدة. ومنهجيا، قسم بياض مداخلته إلى جزئين، في الأول استعرض نقاط التقاطع والالتقاء بين أشكال الفنون مع التركيز على مجالي الشعر والسينما في حين أن الجزء الثاني خصصه للحديث عن السينما الشعرية أو سينما الشعر من خلال الإجابة عن سؤال كيف يمكن أن يكون الأثر/ الفعل الشعري في السينما؟

إن التمفصل بين السينما والشعر يتم عبر الصورة، والذي قد يتخذ عدة أوجه، ذكر منها الباحث فريد بياض خمسا: السردية ألية جامعة بين الفنون، ومن هذا المنطلق تجد السردية منفذا بشكل مستعرض إلى كل الفنون لارتباطها بالذات المنتجة، إذن فالسردية سمة أساسية مشتركة بين النصوص. والزمن امتداد مكاني في الحاضر، حيث تعد الإشارات الزمانية والمكانية في النص الأدبي عموما ذات قيمة تداولية تساهم في بناء المقام السوسيو ثقافي للخطاب.. وهنا مكمن شعرية العمل السينمائي في تسجيل الزمن في إطار مكاني.

ثم التنصيص: المشهد المتجسد بوصفه نصا سيميائيا، حيث يعد المشهد مجموعة من العلامات تكون كلا منسجما، في مستوى الرابع ينتقل الباحث الى تمظهرات حس الواقع أو واقعية التخييل، فبالرغم من دور الخيال في تحول السينما إلى فن، والفنون على اختلاف ألوانها، والبصرية خصوصا، فالفن لا يقوم بنسخ الواقع عبر آلية المرآة بل يعمل على بناء "طبيعة كاذبة". وإذا كانت السينما تعيش صراعا دائما بين المونتاج والإيمان بالواقع، حيث يعد الوهم بالواقع من السمات الثابتة لعالم السينما فهذا يعد نقطة مشتركة مع الشعر في الانزياح عن الواقع عبر بناء لفظي يقوم على الصور الشعرية المتأصلة في الاستعارة والمجاز والتشبيه وكذا التقديم والتأخير والحصر كمقومات نحوية تضطلع جميعها بوظائف بلاغية وجمالية.
وعن "التقطيع والتوليف"، يثير الباحث بياض الى أن السينما عند نقلها لصورة مرئية ومتحركة للواقع تعمل على تقطيعه إلى لقطات التي تتآلف في مشاهد ثم بعد ذلك في فصول لتذوب الفواصل عند عرض الفيلم، وهو ما عبر عنه ازنشتاين بشعرية المونتاج، مما يتطابق تركيبيا مع الشعر حيث التفعيلات توافق كلمات تؤلف أبياتا ثم قصيدة. غير أن الحياة في التمثيل وكذا الشعر تخضع للتقطيع الإيقاعي عكس الحياة الحقيقية التي تطبعها الاستمرارية؛ الأمر الذي يمنح الغنى الدلالي للأولى لطابعها الإيحائي في حين أن الثانية تتميز بالمحايثة والنفعية. هنا يكمن الاختلاف بين اللغة الطبيعية والصورة، فالأولى طابعها التجريد والإدراك المفهومي، في حين أن الثانية ذات صبغة حسية انفعالية بالأساس مما يعني أن الصورة لا تعكس العوالم المادية المدركة حسيا.

وعن "سينما الشعر: تأصيل الحدود"، فقد ذهب بازوليني إلى الحديث عن السينما بوصفها لغة ومن منظور سيميائي، هذه التأملات بنى عليها بازوليني موقفه للدفاع عن شعرية لغة السينما، وللإجابة عن سؤال: كيف تكون سينما الشعر ممكنة والأفلام تعتمد لغة نثرية يمليها سيناريو وحبكة؟ إن التأكيد على وجود لغة شعرية ضمنية في النص السينمائي يؤكد التوجه البنيوي لبا زوليني حيث أن الكلام لا يمتلك قيمة جوهرية بوصفه فعلا مؤقتا في مقابل الاهتمام بالنظام المجرد الذي تمثله اللغة، والذي فرضته هيمنة اللسانيات البنيوية في تلك المرحلة.

ينتهي الباحث فريد بياض الى خلاصة أساسية، من خلال الإشارة الى مقولة ليون تولتسوي، والذي وسم السينما ب"الصامت العظيم"، لأن الأصل فيها غياب الصوت واستعاضته بالصورة وخطاب كوريغرافي يعتمد الجسد علامة دالة. لكن الشعر يبقى على الدوام ابن الكلمة واللفظ، مما يجعل منهما مجالين للإبداع متناظرين. والتناظر هنا له أثر المرآة القائم على إسقاط الصورة لكن دون إمكانية الولوج الكلي لعالمها.

في مداخلتها حول الشعر والسينما تقاطعات جمالية، ركزت الباحثة والناقدة السينمائية ياسمين بوشفار على تجسيد كل من الشعر والسينما، وسيلة فنية تتميز بلغة تعبيرية خاصة، ولكنها تتكامل لتخلق تجربة فنية غنية تتجاوز حدود الأشكال التقليدية للفن. ومن خلال الكثير من النمذجات، أظهرت الباحثة كيف يمكن للشعر أن يغذي السينما بإيقاعه الرمزي وبلاغته، بينما تمنح السينما الشعر بعدا مرئيا وحركيا يعمق من تأثيره، مما يعزز من قيمته الثقافية والجمالية.
من خلال هذه التفاعلات بين الشعر والسينما، نرى كيف أن كلا الفنين يتشاركان في التعبير عن الهموم الإنسانية، ويعكسان رؤى المجتمع ومشاعره. إن هذه التقاطعات تمنحنا فرصة لإعادة التفكير، تشير بوشفار، في دور الفنون في تشكيل هويتنا الثقافية، وتفتح أمامنا أفاقا جديدة لفهم العلاقة بين الكلمة والصورة. إن الشعر والسينما، ورغم اختلاف وسائلهما التعبيرية، يلتقيان في جوهر واحد: التعبير عن التجربة الإنسانية بأبعادها المختلفة.

وإذا كان الشعر يعتمد الكلمة والإيقاع والرمزية لخلق عوالم داخلية تعكس المشاعر والأفكار، فإن السينما توظف الصورة والصوت والحركة لبناء عوالم حسية. وبين الكلمة والصورة، وبين الإيقاع السينمائي والشعري، تظهر تقاطعات جمالية تشكل فضاء مشتركا تتناغم فيه الفنون لتخاطب الروح والعقل. ومنذ بداية السينما، استلهم المخرجون الشعر لتغذية رؤاهم الإبداعية، ليس فقط كمواد نصية ولكن كتقنية سردية فيلمية وجمالية. ويمكن أن نجد سمات هذا التقاطع في: بناء المشاهد، اختيار الايقاعات البصرية، توظيف الرموز والمجازات.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى