الثلاثاء ٢٩ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٣
بقلم حسام تيسير الخاروف

نفائس الصَّمت

من أسوأ عادات الإنسان التي استمرأها.. أنَّه ينجذب إلى ما يُقال، ولكنَّه لا يصغي، بل يلتقط الكلام، ويحوِّره، ويبني عليه، ويهدم به، ويختلق مما يسمع مادَّة للكلام، وللثرثرة، ولمحاولة إدانة الآخرين، لينتصر، أو ليبرّئ نفسه، ولكنَّه يمرض بالصُّداع النَّفسيّ والحسيّ!

والعادة المستمرأة: أن تقول كلاماً منطقياً، وعقلانياً، وتتلقى في مقابله كلاماً "خنجرياً" يجرحك ويُدميك.. يتضخَّم، ويتحرَّف، وينحرف بوجدان الإنسان، وتعجز أن تدافع عن منطقك، وجهدك، وأحياناً، تعجز أن تدافع حتى عن قيمتك وكرامتك؛ لأن مسرى الكلام ينطلق فلا تبلغه، ولأن التَّحريف من إنحراف الوجدان هو هواية الذين يحبُّون الكلام، ويوظفونه في قالب العنف، ولكنَّهم لا يحسنون الإصغاء والحياد!

أما إذا قلت قليلاً، لأنك تحمي كلماتك من التشويه، فأنت تمتلك إرادة متناهية، تصارع بها العديد من الأمواج التي تغرقك وتطفو بك جثّة، ومن الرِّمال التي تطمرك وتزيل معالمك! وكل واحد فينا يغرق ويطفو، لأن كل واحد منَّا يتكلم، وُيقال عنه.. وكل واحد يستمع قليلاً، ويقول عما سمعه كثيراً، ليصبح الكلام بعد ذلك "عاهة" بعد أن كان براعة، ومنطقاً وحواراً وفصاحة!

ولكن ما الذي تقوله، وما الذي تسمعه، وما الذي تصغي إليه وتحترمه، ومَن الذي يُصغي إلى كلماتك ولا يشكك فيها ولا يكذِّبك ولا يشوِّهها، ومَن الذي يقول لك ولا يخاف أن لا تفهم قوله أو أنَّك تفهمه وتحاربه به؟!
هذه الأسئلة المدبَّبة ذكرتني بمقولة لأحد حكماء البيان الذي كان ينتقي كلماته، ويغار عليها من الإغارة ضدها. فقد قال عبارة، كان يرددها بجزع وخوف على الكلام، من الذين لا يحسنون صنعه وحفظه وفهمه، وعلى الناس من الكلام الذي يسّدد إلى حسن النيَّة فيهم، فقال: "إذا فقدت إحدى ساقيك لا تعدم وسيلة المشي، وإذا فقدت إحدى يديك لا تعدم وسيلة العطاء والأخذ، وحتى إذا فقدت بصرك تستطيع أن ترى ببصيرتك، ولكنَّك إذا فقدت كلمة واحدة من كلماتك التي تقولها وسقطت منك في وحل الأنا.. فسوف تفقد الشيء الكثير. فالكلمة شاهدة عليك وشاهدة معك، والكلمة هي معناك الإنساني، وخطأك المدمِّر، والنَّاس يحكمون عليك من خلالها، ويحكمون لك!".

إن المسافة ما بين قدرة الإنسان والتعبير عن هذه القدرة هي مسافة خطيرة، وهامّة، ولا قدرة للإنسان بدون أن يتكلَّم، ولكن الشائع الآن، أنه لا كلام للإنسان إلاّ عن القدرة على الكلام والعجز عن الفعل. وأسخف صورة تدمي الإنسان رغم سخفها، أن يكون كلامه منخوراً من الداخل، ومجوفاً. وأقسى صورة يتضاءل فيها الإنسان، أن يكون الكلام منه، وإليه، لا أكثر من صديد ينز، يقتله بالتلوُّث، ويقتل غيره به، بالعاهة!

أما الصورة الموجعة حقاً عندما يصبح الكلام عن الحبِّ "مرحلة"، ويكون ما بعدها ندماً، أو حسرةً، أو كمداً، وفي الحصيلة الأهون.. يكون "قرفاً"!

أسألكم بعد كل هذا، وأدعكم تسألونني: هل قلت قليلاً.. وسمعت كثيراً؟!
أبداً.. فكلنا نقول كثيراً، ونسمع كثيراً أيضاً، وكلنا لا نطيق الصَّمت الجميل، أو حتَّى لا نتقن فنَّ الإصغاء. لقد أصبح من طبيعة الإنسان أن يهاجم، كوحش يريد أن يفترس نجاح الآخرين، أو حتَّى يقضم جانباً منه؛ لتبرد نفسه من شهوة الكلام، ومازال هناك الكثير من الكلام الذي يبدأ مفيداً، وينتهي شيطاناً مريداً! ومازال هناك الكثير من الاستعداد لترصُّد الكلام، وتحريفه، وامتهانه، وإبرازه، وهو يرتدي مسوخ المنطق، والحجَّة، ليصبح وسيلة سهلة وقذرة، لغايات ذاتيَّة طافحة بالقيء!

اعذروني لمباشرتي الصَّراحة في الكلام، ربما كان مؤلماً، موجعاً، طالما أنَّنا نعتبره جارحاً لغاياتنا، ولشهوة الكلام! لكن المؤلم حقاً، هو أن يكون لهذا الجيل الواقف في ساحات العلم والمعرفة "غايات" من الكرتون، ندس في تضاعيفها أشياء هشة، يسهل حملها وسرقتها من الناس، ثم لا نبالي بعد ذلك أن تكون الخسارة في السلوك، أو في المنطق، أو في نزاهة الحوار، والخسارة في الفهم، وله امتداد من الخسارة في العاطفة، بهذه الكثافة المرهفة، من التعوّد المؤذي!
والسؤال الأخير : ما الدافع إلى هذا الكلام؟!

والجواب على السؤال لن يكون الأخير، مادام الكلام يتواصل بهذا السلوك، ويدور في دوامة هذا الفهم. الدافع إلى ذلك هدف يكتنفه الإحراج البالغ، وهو أن يكون لكلامنا معنىً إنسانياً، ومنطقياً، وحيادياً، لا يتأثر بالأنا. وأن يكون في كلامنا هدف نبيل، وأن يكون في كلامنا قصد مشرق ومتسامي، يخدم الفكرة الجميلة عن الحياة، وعن العمل، وعن الإبداع والجهد. تلك الفكرة التي نرغب أن نصنع بها الملتقى الحضاري، والإنساني الواعي.

ونكذب إن قلنا: لقد سئمنا الكلام! فالشفاه التي مازال مكانها على الوجوه، لم تعد تكتفي بالقُبلة فحسب، وإنما تعودت أيضاً على العض والنهش! ولكن الصدق، هو أن نقول أننا نبحث عن كلام نقوله بتجرُّد، وبإيمان، وبحب. فمن الصَّعب أن تطالب الآخرين بالكلمة الجميلة الصادقة، وتفعل ضد ذلك!!


مشاركة منتدى

  • مقال رائع
    فللصمت مزايا وأيضا للكلام مزايا
    فقد بوب الجاحظ بيان الصمت وبيان الكلام
    ولا زلت اذكر هذا البيت
    والصمت ستر العي وإنما
    صحيفة لب المرء أن يتكلما
    تقبل مروري

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى