الأحد ٢٦ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢١

نورس يافا

محمد معراج عالم

مسح حمود الدموع من عيني شقيقته بمنديل ووضع يده على ظهرها تخفيفا لحزنها وقال:يا أختي الحلوة،لم تبكين؟

أنت أختي الوحيدة التي تفيض علي الحب وتنزل علي مطرا غزيرا من الشفقة التي أبلل بها روحي،وأنت الأخت الوحيدة التي أستظل بردائها عندما تشمشني شمس الجفاء وتؤذيني سلوكيات الناس السيئة.أرجوك يا أختي الحنون أن لا تقلقي ولاتحزني على فوات شيء لم يقدره الله لك.

انفجرت زينب ثانية بالبكاء وبدأت تقول لأخيها الصغير:يا أخي الحبيب:أتمنى أن يكون لي جناحان أطير بهما حيث أشاء بدون التأشيرة كما يطير العندليب ويتجول في البلاد ويعبر الحدود حرا ولا تمنعه الجنود من الدخول في بلادها،ولا توضع الحواجز أمامه،وهنيئا للعندليب الذي يطير حرا،وهنيئا للنورس التي تجول في البحار حرة وتسبح فيها وتمكث بدون التذكرة على ميناء أعجبتها في أي بلد ثم ترجع إلى البحر.البلد الذي وفد إليه العندليب بلده،هذا هو الإنسان الذي أقام حدودا بين البلاد، وأجرى تأشيرة للدخول في أي بلد،الإنسان مكبل بسلاسل على كثرة افتخاره بالحرية وبناء مجتمعه على مبدأ حرية التعبير،والعندليب حر بدون اعتماد مجتمعه على شعار الحرية.

أختي الحنون :يبدو أنك تخافين على أطفالك، لأن القيامة الصغرى قامت في المدينة كلها ويبدو أن إسرافيل نسى الوقت المحدد وجعل ينفخ في الصور قبل أوانه.لقد تحولت المدينة كلها إلى ساحة تدريبية عسكرية يتدرب فيها الجنود إطلاق القنابل على المنازل المتينة.لأن القنابل تنزل على المباني كما تنزل الأمطار الغزيرة على الحقول،وتنهدم المباني المتعددة الطوابق بالقصف وتنفجر القنابل على سقوف المنازل انفجارا يزلزل المدينة كلها ويهز جميع أطرافها ولقد توزعت المباني المنهدمة بين فلقات كثيرة فيبدو كأن السماء انشقت أو البراكين انفجرت من الجبال. فلذا دخل الروع في قلبك وبدأت تفكرين بمن يتولى حفصة لو كتبت لك الشهادة.

ابتسمت زينب وعادت إليها الثقة بالنفس وقالت :ليس الأمر هكذا يا أخي،الله ولي من لا ولي له، وهو كفيل لمن لا كفيل له،كل امرء يتلقى نصيبه الذي قدره الله له ولم يكن له أن يخطئه،رفعت الأقلام وجفت الصحف.

ألا تستعرض أوضاع الناس في المدينة يا حمود؟ ألا تتفقد أحوال الناس؟على الرغم من القصف وانفجار القنابل تجد حياتهم عادية كسائر الأيام لا هم فيهم ولاحزن لهم ،الأطفال يتجولون في أجزاء المباني المهدمة ويلعبون لعبة التخفي ويختفون وراء الجدران المنكسرة الحريقة،كما يلعبون لعبة الشهادة حيث يحاكي أحد الأطفال الشهيد ويقع صريعا على سرير ويحمله الأطفال الآخرون على أعناقهم إلى المقبرة. وتلعب الابتسامة الخفيفة بشفاه الفتيات حسب عادتهن، ويعلووجوههن البهاء والرونق وتتجلى فيهن آثار طمأنينة القلب وتخضب البنات أيديهن بالحناء مساء العيد كعادتها في السنوات الماضية،ويتمتع الرجال بحياتهم مسرورين،وتحرض الأمهات أبنائهن في بيوتهن على المكافحة لأجل إعلاء كلمة الله ويدخلن في قلوبهم الحماسة لتحرير وطنهم،فإذا استشهد أحد من الأبناء قبلت أمه جبهته وقالت "كل من عليها" وأنا فخورة بأنك شربت كأس الشهادة.

يخيم عليهم فضاء الحزن ولكنهم لا يحزنون،وتحلق على رؤوسهم الكارثة والنكبة ولكنهم يعيشون كأن لا علاقة لهم بهذه الكارثة ولا عهد لهم بهذه النكبة،ويسودبيئتهم الذعر ولكنهم لا يذعرون.وهم يعتقدون بأن يوما واحد يعيشه الأسد مكرما وحرا ومحترما خير من ألف سنة يعيشها إبن آوى مهانا ذليلا في الأسر.ونحن شعب تتدفق الشجاعة في كل فرد منهم سواء كان طفلا أو شابا رجلا أو امرأة،وتمتزج البسالة بلحومهم ودمائهم وتسري في شرايينهم دماء الجرأة النادرة لأن شعبنا يؤمنون بالحرية والعدل والإنصاف،فتأتي نساء شعبنا بما يعجز عنه رجال الشعوب الأخرى.

علت شفة حمود ابتسامة خفيفة وقال مازحا و متظاهرا بالدلال لها :هذه أختي شجاع ومغوار،ولكن يوجد فيها شيئ من الخوف لأنها بكت قبل قليل وأشارت بكلامها إلى أنها تود المهاجرة مع طفلتها بعمر الورد إلى بلد آمن لم تكن أن تبلغ إليه قنابل اليهود وتمتد إليه مكائدهم،ولكن التأشيرة أكبر عائق لتنفيذ ما أخفاه قلبها وستره فؤادها.

ضربت زينب بيدها على صدر حمود ضربة خفيفة وقالت لا هجرة بعد الهجرة ثانية يا أخي.وليس بوسع أحد أن يجبرني على الانتقال واللجوء إلى بلد آخر،وقد بايعنا على أن محيانا ومماتنا كله لوطنا.

اندهش حمود،وسأل متعجبا: ما هذه اللغزة يا أختي الغالية؟ ومتى هاجرت في المرة الأولى؟

فاضت الدموع من عيني زينب وقالت نحن نعيش في مهجر يا أخي، احتل على منازلنا اليهود عندما كنت ابنة خمس سنوات واغتصبوا أراضينا وعقاراتنا التي ورثها أبونا كابرا عن كابر،وطردنا المحتلون الجائرون من وطننا الذي عاش فيه أجدادنا منذ قرون،وأخرجنا المغتصبون من مدينة ما رأيت جمالها في مدن أخرى،هي مدينة جميلة تقع على شاطئ البحر الأبيض المتوسط،وزاد البحر المدينة جمالا وحسنا،لأن البحر زينة المدينة ورونقها،وكانت المدينة موضع السياحة لأن الناس عندما يتعبون من صخب الأسواق وضوضاء الحياة يتوجهون من كل أنحاء فلسطين إلى مدينة يافا وينجذبون إليها لأن فيها هدوءا يثلج القلوب بالطمأنينة ويزيل أحزان المهمومين،وبجنب ذلك مازالت مدينة يافا ملتقى للثقافات منذ قديم الزمان،تبدو المدينة أمام البحر كقبة جميلة مزخرفة تنعكس صورتها في البحر حتى سميت بعروس البحر.

أخرجنا اليهود من بيوتنا بلا هوادة ورحمة،وقد قلنا له نحن نعيش في بيوتنا منذ قرون فكيف تخرجوننا الآن؟ قالوا هذا أمر تلقيناه من إلهنا،وهل من إله يأمر عباده باغتصاب أراضي غيرهم.خرجنا وليس في جعبتنا سوى ذكريات مؤلمة يتألم بها قلبي،وكاد أن يتفتق قلبي كلما عادت إلى ذاكراها،يموج في قلبي حنين العودة إلى وطننا ولكن أنى لي العودة؟ وقد أقيمت الحواجز الحديدية.فكلما يثور الشوق لزيارتها يعود يموت حتف أنفه.وفجأة سكتت وأخضعت رأسها وبدأت الدموع تسيل من عينيها.

بدأ حمود يخفف من حزنها وقال يا أختي لا تقلقي،عندما يكبر أخوك يستردها إليك أخوك بقوة يده من أيدي اليهود وتصبري ولا تهلكي نفسك.

مسحت زينب الدموع بأناملها وقالت:أنا أوصيك يا أخي الحبيب بشيء وأكلفك بتنفيذ ما أطلبه منك،وهذه أمانة ألقيها على كاهلك،وما بقي لدي شقيق سواك،فأنت أجدر بتولي هذه الأمانة العظيمة.

ما هذه الأمانة يا أختي؟أرجوك أن تصدري الأمر وأسرع إلى تنفيذه.

لو كتبت لي الشهادة وقدر الله لك زيارة هذه المدينة فاقرأ مني السلام على المدينة يا أخي وقل للبحر بأني أحبه كثيرا.

محمد معراج عالم

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى