هشام شرابي: الطليعي الخجول
لماذا يا ترى كتب على الفلسطينيين أن يستشهدوا اما قتلاً او حسرة؟
وهذا هشام شرابي... يرحل بعدما عاش وعمل وخدم وأسس على اعتبار ان التحرير
آت وان الدولة الفلسطينية قادمة. ولم تكن هذه بالنسبة الى هشام مجرد
امنيات
او احلام. كانت فلسطين العربية الحرة محتومة الصيرورة، لا لكونها رغبة او
حلماً او تصوراً بل حصيلة نفاذ البصيرة العلمية الى حركة التاريخ... ألم
يكن
هشام استاذها؟
.. كانت فلسطين المستقلة محتومة الصيرورة بنظره كونها نتاج تطور طبيعياً
وكون شعبها متجذراً في ارضه. وهشام عرف ان قهر الشعب موقت أكان القهر
ناتجاً
من استعمار او مشروع عنصري او استيطاني، فهو مجرد نتوءات، والوعي الوطني
قادر على تصفيته واجهاضه.
هشام شرابي واجه الصهيونية كونها خارج التاريخ، وكونها عرقلة لصناعة
المستقبل، وكونها ظاهرة مرضية تستحضر التقوقع ضماناً لاستمرار تطفلها على
مسيرة التاريخ والتطور. لذا كان هشام يكرس كل حياته السخية في المساهمة
فكرياً وعمليا في اثراء المشروع النهضوي العربي. فهو وحده الضمان وهو وحده
المرشد، وهو وحده المحفز كي يستأنف العرب صناعة تاريخهم ومن ثم ممارسة
حقهم
في تقرير مصيرهم.
اذا لماذا مات هشام شرابي حسرة؟ لانه كان شاهداً على سوء الاداء في ادارة
الازمات التي ظلت ولا تزال تلعثم خطابنا، وتعطل طاقتنا، وتجهض امكاناتنا،
وتلغي المشاركة الشعبية المطلوبة. استشهد حسرة على مراهنات انظمتنا
وتبعياتها... مات والحسرة تعترمه فقد اجبره الانحدار العربي على ان يكون
شاهداً على تنازلات غير ضرورية. وضارة.. على فرص فوتت نتيجة جهل الحكم او
تجاهله للتعامل المستقيم في فهم الاحداث وايجاد المناعة للمجتمعات من خلال
تفعيل العناصر المهمشة. هذا الاستاذ الكبير الخجول العظيم المتواضع،
الدارس
والمدرّس مثله مثل رفاقه في الجهاد من اجل حق وطنهم وحقوق شعبهم. ماتوا
حسرة
لان ما اعطوه انساب الى وعينا وصار بعداً مؤسساً للغد العربي. وكما اضنوا
انفسهم نضالاً، ابدعوا في ربط تقاليدنا وقيمنا بمتطلبات الحداثة والتنمية،
واثبتوا قدراتهم على الابداع في ميادين ابداعهم. واعترف العالم بما قدموه
للثقافة السائدة رغم محاولات تهميش دورهم المطلوب في صناعة القرارات. ولو
استوعبت القيادة الفلسطينية مغزى دورهم القوي والعالمي لكانت اختزلت مراحل
تأمين المطلوب من حقوق، ولكانت استأنفت مسيرة التحرير الحقيقي. فالنضال من
غير رؤية قد يصبح عبثاً، والمقاومة من دون منظومة فكرية إبحار بدون بوصلة
تهدي وترشد.
لقد فقدنا على مر الاشهر الماضية جبابرة في حقولهم وفي تفانيهم: يوسف
صايغ،
وابراهيم ابو لغد، وادوارد سعيد، والآن هشام شرابي... كلهم ابدعوا،
اخترقوا
الفضاء العالمي، ادخلوا فلسطين في وجدان العالم لا كمجرد تحرير لارض وشعب
بل ايضاً لتحرير اليهود انفسهم من لاإنسانية الصهيونية. فالصهيونية مثل
الفاشية العنصرية طفرة موقتة – مهما طالت. ادرك هشام ورفاقه انه كان في
الامكان اختزالها.. فطالت الطفرة وهذا سبب استشهاده بالامس حسرة.
كان هشام شرابي يُنظر اليه بأنه قاس... وهذا لاول وهلة يبدو كذلك. ولكن ما
كاد احدنا يعرفه عن كثب حتى يدرك ان القساوة كانت في الواقع ولعاً بالدقة
والتزاماً صارماً لمتطلباتها. كان صارماً في نقده، لم يلجأ الى التجريح
مما
جعل من انتقدهم بشدة اشد مريديه. وكان نقده مدخلاً للتصحيح. كان مثقفاً
طليعياً ولم يكن نخبوياً على الاطلاق. كان شغوفاً بالاطلاع والتعرف. وكان
يجابه بشجاعة ويسالم بمودة.
جاء الى لبنان كما جاء قبله ادوارد سعيد لانهما كانا مقتنعين انهما
يمارسان
حق العودة في لبنان، محطة دافئة في اتجاه فلسطين.
وهكذا.. هذان الفلسطينيان ادوارد وهشام... واحد في برمانا والآخر في بيروت
رسّخا ان لبنان المحطة الدافئة هو في ضمير الامة ووجدانها فهي حقاً بيت
العرب. كل هذا لن يزيل الغصة التي تلازمنا كون هشام شرابي مات حسرة...