الثلاثاء ١٩ آب (أغسطس) ٢٠٠٨

وصية محمود قبل رحيله

بقلم: جهاد الجزائري

أريد جنازة حسنة التنظيم، يضعون فيها الجثمان السليم، لا المشوه، في تابوت خشبي ملفوف بعلم واضح الألوان الأربعة، ولو كانت مقتبسة من بيت شعر لا تدل ألفاظه على معانيه، محمول على أكتاف أصدقائي، وأصدقائي/الأعداء.

وأريد أكاليل من الورد الأحمر والورد الأصفر لا أريد اللون الوردي الرخيص ولا أريد البنفسج لأنه يذيع رائحة الموت وأريد مذيعا قليل الثرثرة، قليل البحة، قادرا على ادعاء حزن مقنع، يتناوب مع أشرطة تحمّل صوتي بعض الكلام أريد جنازة هادئة، واضحة، وكبيرة ليكون الوداع جميلا وعكس اللقاء فما أجمل حظ الموتى الجدد، في اليوم الأول من الوداع، حين يتبارى المودعون في مدائحهم فرسان ليوم واحد، محبوبون ليوم واحد، أبرياء ليوم واحد.. لا نميمة ولا شتيمة ولا حسد حسنا، وانأ بلا زوجة وبلا ولد فذلك يوفر على بعض الأصدقاء جهد التمثيل الطويل لدور حزين لا ينتهي إلا بحنو الأرملة على المعزي وذلك يوفر على الولد مذلة الوقوف على أبواب المؤسسات ذات البيروقراطية البدوية حسن أني وحيد.. وحيد.. وحيد.. لذلك ستكون جنازتي مجانية وبلا حساب مجاملة، ينصرف بعدها المشيعون إلى شؤونهم اليومية.

أريد جنازة وتابوتا أنيق الصنع اطلُّ منه، كما يريد توفيق الحكيم أن يطل، على المشيعين.. أسترق النظر إلى طريقتهم في الوقوف، وفي المشي وفي التأفف، وفي تحويل اللعاب إلى دموع وأستمع إلى التعليقات الساخرة: كان يحب النساء، وكان يبذخ في اختيار الثياب وكان سجاد بيته يصل إلى الركبتين، وكان له قصر على الساحل الفرنسي اللازوردي، وفيلا في اسبانيا، وحساب سري في زيوريخ، وكانت له طائرة سرية خاصة، وخمس سيارات فخمة في مرآب بيته في بيروت.

ولا نعرف إذا كان له يخت خاص في اليونان ولكن في بيته من أصداف البحر ما يكفي لبناء مخيم كان يكذب على النساء مات الشاعر ومات شعره معه ماذا يبقى منه؟ لقد انتهت مرحلته وانتهينا من خرافته أخذ شعره معه ورحل كان طويل الأنف واللسان.. وسأستمع إلى ما هو أقسى عندما تتحرر المخيلة من كل شيء سأبتسم في التابوت، سأبذل جهدا لأن أقول: كفى، سأحاول العودة فلا استطيع...

 [1]

بقلم: جهاد الجزائري

[1محمود درويش من كتاب (ذاكرة النسيان)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى