وطن السومريين
لايمكن باية حالة من الأحوال دراسة أصل السومريين دون دراسة الجغرافية القديمة للمنطقة بالمعنى الشمولي لأبعادها أي جيولوجيا وجيمورفولوجيا والنشاط التكتونيكي للقارات والمناخات القديمة في الرباعي والغطاء النباتي وهجرة الحيوان والأنسان ومستقره وغيرها من الدراسات ذات العلاقة وذلك لوضع الأطار العام الذي أحاط بنشأة هذا الشعب والقاء الضوء على الخصوصيات الطبيعية التي حكمت تطوره. فلا يمكن أن يترك السؤال العمومي والمتعارف عليه من أين جاء السومريين على طاولة البحث دون فحص السؤال نفسه اذ ما هو المبرر بطرح سؤال يستدعي قبول فكرة أن السومريين قدموا من مكان آخر وما المبررأيضا أن يكون هذا الشعب ظهر فجأة فالسؤال يفترض مكانيا أن السومريين جاؤا من منطقة أخرى للمكان التي وجدت حضارتهم فيه و زمنيا ظهورهم في تاريخ معين وفجأة تقريبا. في الحقيقة لايمكن أبدا الأجابة عن هذا السؤال أو عن وطن السومريين الأصلي لمجرد أن يكون الباحث متخصص باللغة السومرية أو أن يكون آثاريا.
ان أكون جغرافيا هوشيئ مفيد لخوض غمار هذا الموضوع ولكن دراستي لجيومورفولوجية العراق لسنوات عديدة حقليا ونظريا وأهتمامي الشديد بتاريخه القديم واللغات القديمة فسح المجال أمامي للتوصل إلى الكثير من النتائج التي ربما تساعد على الأجابة على بعض التساؤلات بخصوص وطن السومريين ومن هم أو تلقي ضوءا جديدا يوضح بعض ماهو موجود منها في موقع الظل كما يقول السومريين. ولتوضيح الصورة لابد من العودة بالتاريخ إلى الوراء بعيدا خلف مرحلة ظهور السومريين على مسرح التاريخ في منتصف الألف الخامسة قبل الميلاد تقريبا , بالعودة إلى حقبا جيولوجية غارقة بالقدم كان فيها العراق ضفتين تطلان على بحر يتواصل عبر سوريا ليلتقي بالأبيض المتوسط أي بعبارة اخرى أن الخليج العربي الحالي كان يتصل بالبحر الأبيض المتوسط عبر العراق وسوريا في بداية الحقبة الجيولوجية الثالثة أي منذ أكثر من 65 مليون سنة,أي أن القارة الأفريقية وأرض شبه الجزيرة كانت مفصولة عن آسيا بهذا الممر الضيق ولكن ارتفاع قاع هذا الخليج التدريجي نتيجة بدأ ظهور انكسارالبحرالأحمروتقدم وانزلاق درع شبه الجزير تحت الدرع الأيراني والتركي أدى إلى ضحالة مياه هذا الخليج أولا, في الثلث الأخير من الثلاثي وتحديدا في الميوسين, وبأزدياد قيم التبخر ثانيا والتي من نتائجه ظهور طبقات جيرية وملحية سميكة تسمى بتكوينات الفارس الأسفل والتي أعقبتها تكوينات رملية وطينية تدعى بتكوين الفارس الأعلى معلنة بدء الأنشطة النهرية وظهور بحيرات وجسورأرضية بين الضفة والأخرى للخليج وخصوصا في المناطق السورية وغرب العراق.وفي نهاية الثلاثي أي أثناء البليوسين أي منذ ما يقرب من الخمسة ملايين سنة أصبحت الرمال والحصى والطين هي التكوينات السائدة في وسط العراق وجنوبه الشرقي وهومايسمى بتكوين البختياري الأسفل وهذا يدل علىان الجبال في شمال العراق كانت قد بدأت تتشكل وأن انهارا نشطة كانت تنقل مواد التعرية إلى العديد من المناطق التي كانت مغمورة آنفا بماء البحرأي أن الخليج كان قد أنسحب نحو الجنوب بالنسبة لكل سوريا وأرض الجزيرة غرب دجلة على الأقل.هذه هي الصورة في نهاية الثلاثي أي قبل مايقرب من مليونين عام. خلالها كانت الحيوانات تستطيع العبور بسهولة قادمة من أفريقيا بأتجاه آسيا وبالعكس وأيضا كان خلالها المناخ مداري في منطقة الشرق الأوسط.
أما في الحقبة الرباعية فأن الأمورأختلفت فبالأضافة إلى أن هذه المرحلة تتمثل ببدأ ظهور الأنسان الحديث الذي انتشر تدريجيا في العالم فهي تتميز أيضا بظهور حقب جليدية وأخرى معتدلة في أوربا يقابلها مطيرة وجافة في العراق والجزيرة وشمال أفريقيا. يبقى أن نعرف بأن العصور الجليدية التي سادت أثناء الرباعي وعددها مابين أربعة وستة حسب تصانيف الأخصائيين والذين يعتبرون أحداها رئيسي في حين يعتبره الآخر ثانوي أوضمن المرحلة الأولى من الرباعي المسمات البليستوسين والتي هي فترة انتقالية بين المرحلة المدارية التي سادت نهاية الثلاثي واول مرحلة جليدية للرباعي وأثنائها جائت حمولات ضخمة من الحصى الخشن يسمى بتكوين البختياري الأعلى والذي يمثل أعلى نشاط تكتونيكي ونهري ظهرت خلاله ما يسمى بالمرتفعات الواطئة مثل حمرين ومكحول وسنجار وأخرى غيرها نحو الشمال الشرقي وأستقرت أثتائه منظومة الأنهار الكبرى في العراق وأخذت صورتها شبه الحالية.أدت هذه الفترات الجليدية لأنخفاض مستوى سطح البحر مما أدى لظهورأراضي كانت يوما مغطات بالبحر وهذا الأمر ينطبق على الخليج أيضا أثناء هذه المراحل , مما يعني أن رأس اللخليج سيتأثر صعودا ونزولا وكذلك الشواطئ ذاتها المحيطة به وما لذلك من تبعات بخصوص مصبات الأنهار فيه والرواسب التي تحملها ونظم المسنقعات والدالات البحرية.
فان أنسحب الخليج أثناء الفترة المطيرة عمقت الأنهار مجاريها في المناطق الداخلية للعراق أي في السهل الرسوبي وأنخفض خطر الفيضان وظهور مستنقعات جانبية وأن تقدم نتيجة لحلول الفترة الجافة التي يقابلها المعتدلة في أوربا امتلأت مجاري الأنهار بحمولاتها وارتفع مستواها أحيانا عن مستوى الأراضي المحيطة بها في منطقة السهل الرسوبي مثلا مما سيؤدي إلى حدوث ثغرات أثناء مواسم الفيضان وانغمار السهل بمياه النهر والذي قد يبدل مجراه فتظهر مناطق مستنقعات ومسطحات مائية جديدة وهكذا دواليك والمسألة ,غير ذلك وأكثر استقرارا, في الشمال و الشمال الغربي وعلى الهضبة غرب العراق اذ أنها كانت بمنئى عن حدوث الفيضانات بسبب أرتفاعها المحسوس, فالأنهار الكبرى كالزابين ودجلة شمال حمرين والفرات قبل دخوله منطقة السهل الرسوبي كانت قد عمقت مجارها منذ زمن بعيد وأستقرت نسبيا ضمن هذه المجاري يبرهن ذلك المصاطب الموجودة على ضفافها.وبالرغم من تعقد الصورة وتداخل المؤثرات خلال المرحلة الرباعية من عوامل تكتونيكية وتقلبات مناخية ظخمة نستطيع القول بأنه أثناء الرباعي كانت المناطق الشمالية المرتفعة والأقل أرتفاعا ومناطق الشمال الغربي أي الموصل وأرض الجزيرة جنوبها غرب الثرثار وكذلك الهضبة الغربية غرب الفرات نزولا لجنوبه تمثل مناطق مثالية يجوبها مجاميع من الصيادين والجامعين اللاقطين حتى بداية ظهور الزراعة بحدود ما لايقل عن عشرة آلاف سنة قبل الميلاد.أما المنطقة المتمثلة شمالا مابين جبل حمرين ومنخفض الثرثار والهضبة الغربية أو امتداد خط جبل حمرين نحو الجنوب الشرقي والمرتفعات شرق دجلة بشكل عام فلقد كانت مسرحا لواقع طبيعي آخر عنصر الماء فيه هوالسيد منذ بداية الرباعي فالمنطقة وأمتدادها الطبيعي في الخليج كانت عبارة عن منخفض كبير توضع فيه كل حمولات التعرية القادمة بالأنهار من الشمال والشمال الشرقي وفيها شبكة معقدة من الأنهار والروافد والمساحات المائية الواسعة بسبب انبساط الأرض وانخفاض مستواها وكل هذه الأنهار والمساحات المائية هي ليست مستقرة لانوعا ولاكيفا فالأنهار تغير مجاريها ويتبع ذلك تغير في أشكال ومساحات المسطحات المائية وخصوصا أثناء المراحل الجافة أما أثناء المطيرة فالأنهار تعمق مجاريها تبعا لأنسحاب رأس المصب نحو الجنوب ومداه ومايترتب من ذلك من تقلص لحجم المساحات المائية لمرتبطة بنظام الفيضان وتسرب المياه الجوفية بسبب ارتفاع مناسيب الأنهرمباشرة أثناء الجافة. في حين أن المنخفضات التي لها علاقة مباشرة بالأمطار ستكبر وتمتلأ اثناء الفترة المطيرة مثل منخفض الثرثار وبحيرة الشارع شرق سامراء والرزازة والحبانية وبحرالنجف وبحيرة منخفض الرطبة على الهضبة الغربية والكثير من المنخفضات المتناثرة على الهضبة وغرب الثرثار وشمال حمرين وضمن المناطق الجبلية العالية والواطئة.كل هذه الأمور تلقي ضوء على التوزيع البشري والنباتي والحيواني أثناء المرحلة الرباعية وتقلباتها وترسم صورة البيئات المختلفة والمترابطة بنفس الوقت.
لقد وجدت في العراق الكثيرمن بقايا الأنسان القديم بمن فيهم النياندرتال في الشمال و في الرطبة مما يعني أن الأنسان كان موجود هنا منذ حقب قديمة جدا وقد وجدت أيضا بقايا الكثيرمن الحيوانات التي كانت تجوب هذه المنطقة وتعيش فيها. فمنذ بداية الرباعي نرى تشكل ثلاثة مناطق مترابطة, مناطق المرتفعات في الشمال الشرقي ومناطق السهول في الشمال الغربي والغرب والجنوب ثم مناطق الأنهار والمستنقعات في الوسط والجنوب. وخلال الفترات المطيرة والتي تمتد لعشرات الآلاف من السنين تكون هناك وفرة نسبية في حيوانات الصيد والغطاء النباتي مما يقدم بيئة مثالية لأنشطة الجمع والألتقاط والصيد في مناطق السهول والمرتفعات الواطئة عكس العالية التي ستغطيها الثلوج لفترات طويلة من السنة و ستكون مناطق الأنهار والمستنقعات هي أيضا غنية بالنباتات بالحيوانات والطيور وستكون كذلك أيضا ملاذا جيدا أثناء المراحل الجافة للصيادين والجامعين اللاقطين.هكذا فنحن نعتقد أن أجداد السومريين هم نفس الصيادين اللاقطين الجامعين الذين كانوا يجوبون سهول غرب وجنوب العراق والذين اثناء بداية ظهور أول فترة جافة بدؤا يستقرون ويتفاعلون مع مناطق المستنقعات وما تتمتع به من خيرات نباتية وحيوانية كمصدررزق دائم ويتركونها بأتجاه الأطراف الغربية عندما تغمرها الطوفانات من جديد ثم يعودون اليها مرة أخرى متى ماتراجعت المياه وغارت.
وعبر الزمن تطورت لهجات وثقافات سكان هذه الأصقاع فاهل المناطق الغربية والجنوبية ينتقلون للبداوة والرعي أثناء المراحل الجافة وكذلك اهل المرتفعات الواطئة في حين يميل أهل الأنهار والبطائح والمستنقعات إلى الأستقرار وهذا أول سر من أسرار نشوء الحضارة. فيما بعد وفي نهاية آخر مرحلة رطيبة رئيسية قبل حوالي 14000 وبدأ الفترة الرئيسية الجافة التي مازلنا نعيشها لحد اليوم كانت مناطق غرب الثرثار وتلك المحيطة بالموصل بشكل خاص مؤهلة لظهور الزراعة بعد أن أخذت أعداد حيوانات الصيد والغطاء النباتي بالتضائل تدريجيا, ولتوفر عدة عوامل منها التربة الخصبة و الأمطار الكافية والمناخ المعتدل ونشوء القرى وهذا يعني الأستقرار أيضا والتطور اللغوي المصاحب في حين أصبحت البداوة والرعي سمة المناطق الأكثر جفافا للغرب والجنوب و سمة مناطق المرتفعات.
بالمحصلة نرى أن أجداد السومريين كانوا موجوديين في العراق من بداية تشكله في نهاية الثلاثي أي منذ أكثر من مليوني عام وأنما الذي حصل أنهم انتقلوا بأماكن سكناهم تدريجيا نحو الجنوب تدرجا مع انساحاب الخليج التدريجي اليه وتدرج بيئة الأهوار اليه أيضا , في حين انتقل المزارعون على أثرهم من الشمال الغربي نحو الجنوب الشرقي متماشين مع ظهور أراضي قابلة للزراعة بعد تجفيفها من المستنقعات.وهكذا بقي السومريين مرتبطين بالبحر والمنخفضات المائية وثرواتها وبالأهوار التي تمثل بيئة مثالية لهم و لحيواناتهم وبالأخص الجاموس وبقي المزارعون مرتبطون بالأنهار وبالأراضي الواقعة للغرب منها تلك التي يأتي منها مددهم السكاني.
بوصولنا إلى هذه المرحلة من الموضوع وبعد أن أستعرضنا بعجالة المنطقة التي عاش بها أجداد السومريين بقي أن نطرح سؤال من أين أتى هؤلاء الأجداد. أن البشر كانوا من قبل صيادين جامعين وينتقلون خلف الحيوانات المهاجرة كما تفعل الضواري ورأي الأخصائيين بشكل عام هو انتقال الحيوانات من أفريقيا إلى آسيا عن طريق سيناء عبر العراق وسوريا , وهذا ما حصل بالفعل ولكنه حصل بعد أن انسحب الخليج تدريجيا عن العراق وسوريا كما أسلفنا , في هذه الأثناء كان البحر الأحمر شبه مغلق والعبور إلى ضفته الشرقية امرسهل أما بعد انفتاحه فسينقطع طريق العودة على هذه الحيوانات التي عبرت أو التي كانت موجودة اصلا وستنتشر وتتطور ضمن بيئاتها الجديدة في الجزيرة بشكل منقطع نوعما عن أفريقيا ونقول نوعما لأن طريق سيناء تبقى سالكة أيضا. والذي ينطبق على الحيوان قد ينطبق على الأنسان أيضا. أي بعبارة أوضح نحن نعتقد أن الأنسان القديم قد انتقل من أفريقيا عبر باب المندب, أو كان أصلا موجودا ضمن الجزيرة منذ البداية, على الأقل في بداية الحقبة الرباعية عندما كانت هذه البوابة أكثر ضيقا وربما ملتحمة تماما خصوصا أثناء هبوط مستويات المحيط في الفترات الجليدية. وأن أعداد كبيرة من المهاجرين عبروا إلى أرض الجزيرة عبر اليمن أو كانوا أصلا موجودين هنا ثم انتشروا فيها شمالا وشرقا وبأتجاه الدواخل سعيا وراء رزقهم خلف الحيوانات المهاجرة والتي كان بضمنها الجاموس البري الأفريقي وأن هؤلاء بقوا هنا لفترة طويلة من الزمن وتأقلموا مع بيئاتهم الجديدة والأمر نفسه حصل بالنسبة للحيوانات التي أكتسبت صفات وميزات وتغيرات لم تكن موجودة عندها أثناء تواجدها في الشرق الأفريقي أو على ألأقل قبل الرباعي وذلك خصوصا أثنا ء التقلبات المناخية التي سادت فيه وعلى سبيل المثال ظهور سلالات جديدة من الجاموس تتميز بأنها سلالات نهرية أومائية بالدرجة الأولى وذلك بسبب ظهور الجفاف ومن ثم لجوء هذه الحيوانات إلى المنخفضات المائية حيث المرعى والمياه الوفيرة مقارنة بالمحيط الصحراوي الجاف ذلك أنها حيوانات مدارية أصلا ,وهذا يعني أن الأنسان قد واكب هذا الحيوان لصيده أول الأمر ثم للتعايش معه فيما بعد.
هذه هي كانت الهجرات الأولى نحو الشمال وموطن المساحات المائية والأنهار في العراق ومنذ بدايات ظهور أول فترة جافة حيث استقرت هذه الأقوام تدريجيا هنا.فالسومريين هم أوائل المهاجرين الذين جائوا من الجزيرة العربية بعد أن أصبحت تعاني من الجفاف فأنتقلت قطعان الماشية الوحشية وبضمنها الجاموس البري نحو الشمال الشرقي حيث الكلأ والماء الوفيروعلى أثرها سار الأنسان القديم. ولايمنع هذا المنطق أيضا ورود الحيوانات والأنسان أيضا ولنفس الأسباب إلى العراق ومنخفضاته عن طريق سيناء. بعد ذلك تواردت الهجرات وخصوصا أثناء الفترات الجافة صعودا نحوالشمال أو قدوما من الغرب. والقادمون الجدد سينافسون الأقدم منهم على ما عندهم أوينتشرون للأقامة في مناطق أبعد. وقد أستمرت هذه الحالة حتى مرحلة الهولوسين أي الفترة الجافة الأخيرة وظهور الزراعة ومجيئ هجرات جزيرية للعراق متمثلة بالأكديين الذين سكنوا للشمال من سومر وللغرب منها أولا.
إن غلبة الثقافة الأكدية على السومرية سببه الأنغلاق النسبي وان السومريين تمسكوا بثقافة الصيد والجمع والأعتماد على المنتجات الطبيعية والتجارة البحرية في حين أن الأكديين كانوا زراعيين أي مرحلة متقدمة على الثقافة السومرية كما المرحلة الصناعية مقارنة بالزراعية اليوم. الشعب السومري هو شعب عراقي أصيل تطور ونشأ على هذه الأرض وامتدادها في الخليج ويعتبر مكونا أساسيا لسكان العراق اللاحقين.