الخميس ٨ تموز (يوليو) ٢٠٢١
ذكريات وشهادات الدكتور محمود فهمي حجازي
بقلم علي القاسمي

ونشر اللغة العربية في العالم

اللقاء الأول:

التحقتُ بجامعة الرياض في العام الدراسي 1973ـ1974 للعمل بقسم اللغة الإنكليزية في كلية التربية، وبعد سنة تقريباً حصلت بدايات ما يُسمى بالطفرة البترولية، فازدادت مداخيل الدول المنتجة للبترول، وتكاثرت اليد العاملة الوافدة إلى هذه البلدان، لاسيّما دول الخليج، من الغرب والشرق.

التقيت بشابٍ سعودي اسمه الدكتور محمود إسماعيل صيني كان قد حصل على الدكتوراه في اللسانيات التطبيقية من جامعة جورج تاون في واشنطن العاصمة، وعُيّن مدرساً في كلية الآداب بجامعة الرياض في السنة الدراسية التي عُيِّنتُ انا بكلية التربية. وربطت بيننا علاقة ودية بفضل أخلاقه الرفيعة، ومحبته الآخرين، وتشابه تخصُّصنا وخبراتنا.

وذات يوم تحدَّثنا ـ أنا والدكتور صيني ـ عن عدم وجودِ مدرسةٍ تعلّم العمّال الوافدين اللغة العربية، واتفقنا على أن نتبرّع بتعليمهم العربية في المساء. وهكذا حصلنا على غرفتيْن دراسيتيْن في بناية كلية الآداب بحي الملز في مدينة الرياض. وقسَّمنا المتعلِّمِين على قسمَين:

ـ قسم لمَن يعرفون الحروف العربية، ومعظمهم من الآسيويين الذين تستعمل لغاتهم الحروف العربية في كتابتها، واضطلع الدكتور محمود إسماعيل صيني بتدريسه.

ـ وقسم لمَن لا يعرف الحروف العربية، وأغلبهم من البلدان الغربية، وكنتُ أنا الذي أتولى تدريسه.

وقد لقي هذا البرنامج إقبالاً كبيراً في الفصل الثاني. وبعد سنة تقريباً، قرَّر مدير الجامعة، الدكتور عبد العزيز بن عبد الله الفدا، أن يؤسِّس في الجامعة معهداً لتعليم العربية لغير الناطقين بها. وعهد إلى لجنة للإعداد لمؤتمر من كبار المتخصِّصين لوضع تصوّرٍ لهذا المعهد: أهدافه، مناهجه، أنواع الدراسة فيه، الشهادات التي يمنحها، إلخ. فقد كان هذا المعهد أول معهد لتعليم العربية لغير الناطقين بها في المملكة العربية السعودية..

شارك عشرات من كبار الباحثين في هذا المؤتمر الذي عُقد في جامعة الرياض سنة 1977 لتقديم البحوث، التي صدرت في كتابٍ بجزئَين، والمشاركة في الجلسات الاستشارية حول هيكلة المعهد. وهناك تشرَّفتُ بلقاء الدكتور محمود فهمي حجازي الذي استُقدِم من مصر حيث كان يدرّس بقسم اللغة العربية بكلية الآداب في جامعة القاهرة. وأُلقِيتْ في المؤتمر بحوثٌ كثيرة. ومن عجائب المصادفات، أن بحث الدكتور محمود حجازي كان عن "التعابير السياقية" في حين كان بحثي عن " التعابير الاصطلاحية" وهو مكمِّل للبحث السابق. ويُعدُّ هذان البحثان رائديْن في اللسانيات العربية الحديثة، كما يقول الدكتور زكي كريم.

ومنذ اللقاء الأوَّل بيننا وأنا أشعر بأنَّني كسبتُ صديقاً حقيقياً في شخص الدكتور محمود فهمي حجازي على الرغم من وجودِ عددٍ كبير من العلماء في ذلك المؤتمر، من مصر وغيرها من البلدان. ويعود الفضل في ذلك إلى شخصية الدكتور محمود الجذابة والمخلصة، وأخلاقه الرفيعة، وعلمه الغزير. ولا أجد وصفاً لهذه الشخصية المتميزة أفضل من وصف أحد طلابه، الدكتور إبراهيم عبد المعطي، وهو يرثيه في مقالٍ بجريدة "الوفد" حيث يقول:

"أستاذي الدكتور محمود فهمي حجازي: وجهٌ تعلوه البشاشة، قامةٌ مرتفعة فيها شموخ، شخصية راقية تحمل ملامح الأرستقراطية لكنه مصري أصيل، لديه اعتزاز بالنفس يخلو من التكبُّر، روح طيبة تتسم بالتواضع، بسيط في التعامل مع تلاميذه بساطة لا تنزع هيبته من القلوب، وإنما ترفع قدره في نفوسهم، يصحبهم ويفتح لهم بيته، ويطرقون بابه في أي وقت عندما يحتاجون إليه، يتدفق العلم على لسانه في جمل مرتبة خالية من الغموض،..."

مولده ومدينته:

ولد محمود فهمي حجازي سنة 1940 في مدينة المنصورة مركز محافظة الدقهلية في شمال مصر. وتقع المنصورة على بُعد 120 كيلومتراً إلى الشمال الشرقي من القاهرة. وهي تحتلُّ الضفة الشرقية لنهر النيل فرع دمياط، وتقابلها في الضفة الغربية من النهر، مدينةٌ أقدم منها تُسمّى "طلخا". فقد أُنشِئَت مدينة المنصورة سنة 616هـ/ 1219م من لدن الملك الكامل (حكم من 1218ـ 1238م)، وهو ابن أخي صلاح الدين الأيوبي، وخامس ملوك الدولة الأيوبية في مصر. وقد بناها الملك الكامل عند مفترق النيل على دمياط وأشموم، في مواجهة الغزاة الصليبيين (الإفرنج) الذين حاصروا دمياط أثناء الحملة الصليبية الخامسة. بناها في بقعة كانت تسمى " جزيرة الورد"، لأنَّ المياه تحيط بها من ثلاث جهات وفيها أشهر مزارع الورد في مصر؛ وسميت المدينة بالمنصورة تفاؤلاً بالنصر على العدو الغازي. وقد انتصر المصريون فعلاً على الغزاة الذين عادوا إلى بلدانهم.

ولكن الأوربيين عاودوا الكرَّة في حملة صليبية سادسة، وأخيراً في حملة صليبية سابعة (1249ـ1250م) يقودها الملك لويس التاسع، ملك فرنسا بنفسه، ومعه أخوه روبرت دي أرتوا الذي كان يقود فرقة من فرسان المعبد، ومعه كذلك الأمير الإنجليزي وليم أوف ساليزبري الذي كان يقود فرقة إنجليزية. وفي بداية تلك الحملة الصليبية السابعة توفي الملك الصالح سلطان مصر، فأمسكت زوجته شجرة الدر بزمام الأمور بعد الاتفاق مع قائد الجيش ورئيس القصر، وقرَّرت إخفاء نبأ الوفاة حفاظاً على معنويات الجيش، وأرسلت إلى توران شاه ولي العهد الذي كان في حصن كيفا (في تركيا اليوم) راجية قدومه، وتولت بنفسها إدارة البلاد، والتخطيط للمعارك مع قادة الجيش لحين وصول الملك الجديد. وحقق أبناء الشعب المصري العظيم من الجنود والفلاحين المتطوعين، إنزالَ الهزيمة الماحقة بالغزاة، وقُتِل الأميران الفرنسي والإنجليزي وبقية المحاربين الغزاة إلا مَن استسلم منهم فأخذوا أسرى، ومن بينهم قائد الحملة الصليبية السابعة لويس التاسع ملك فرنسا. وهكذا دخلت شجرة الدر التاريخ بحكمتها وشجاعتها.

ولا تزال (دار ابن لقمان) قائمة وسط مدينة المنصورة؛ وهي الدار التي سُجِن فيها لويس التاسع مدَّة شهر حتى دفعت زوجته الفدية المطلوبة، فأُطلِق سراحه في 7 مايو/أيار 1250م. وانتهت الحملة الصليبية السابعة على مصر وتوقَّفت الحملات الصليبية عليها بعد ذلك. فالصليبيون وأشباههم من الذين يتذرَّعون بالدِّين وسيلةً للغزو وقتل الآخرين والاستعمار والاستيطان في أراضي الغير وسرقة ممتلكاتهم، لا يفهمون إلا لغة القوة التي أوصلتهم إلى أراضي الغير واستغلالها، والقوّة هي التي تخرجهم منها كذلك.

وهكذا يكون محمود فهمي حجازي وردة من بقعة جزيرة الورد المباركة "المنصورة"، حلّت بالقاهرة وغيرها من البلدان، وهي تعبق بالخُلق والعِلم وتحمل بين بتلاتها صفحات ناصعة من تاريخ مصر العظيم.

دراسة الدكتور محمود فهمي حجازي:

حاز محمود فهمي حجازي شهادة البكلوريا الثانوية سنة 1954 أي وعمره حوالي أربعة عشر عاماً فقط، لأن نظام التعليم القديم في مصر، كان يسمح للنابهين من الطلاب أن يتقدَّموا لامتحان البكالوريا بعد سنة واحدة من الدراسة بدلاً من ثلاث سنوات.

لم تكن في مصر آنذاك سوى ثلاث جامعات: جامعة القاهرة، وجامعة الإسكندرية، وجامعة عين شمس بالقاهرة. ولم يُقبَل آنذاك بالجامعة الأمّ، جامعة القاهرة، إلا الأوائل المبرَّزين. فَقُبِل محمود في قسم اللغة العربية بكلية الآداب في جامعة القاهرة، ودرسَ على كبار أساتذتها آنذاك مثل الدكتور طه حسين، والدكتور شوقي ضيف، والدكتورة سهير قلماوي. وفي دراسته الجامعية هذه ألمَّ بالدراسات اللغوية والأدبية في التراث العربي كلّه. وأمضى في كلية الآداب أربعة سنوات من 1954ـ1958، ثم أمضى فيها السنة التمهيدية للماجستير من 1958ـ1959.
وقد ذكر في إحدى مقابلاته التلفزية أنَّه تَّأثر بشخصية الدكتور شوقي ضيف. (ولكنّه ألَّف كتاباً عن طه حسين بعنوان " طه حسين: حياته وفكره"(1998)، ولم يؤلِّف كتاباً عن شوقي ضيف، على ما أعلم." ) وكان حلمه وهو طالب في جامعة القاهرة أن يمثِّل مصر أو البلدان العربية في الخارج. فقد كان له إحساس قوي بالانتماء الى الوطن العربي.

ومما يدلُّ على همّة محمود فهمي حجازي العالية ومحبّته اللغات عامَّة، أنَّه أثناء دراسته في كلية الآداب التحق بمدرسة الألسن وتابع جميع مقررات اللغة الألمانية فيها، وحصل على شهادتها سنة 1958، علماً بأنَّه كان يجيد اللغتيْن الإنجليزية والفرنسية. فاضطلع بتدريس اللغة الألمانية في التعليم العام مدة سنة هي 1958ـ1959 في الوقت الذي كان معيداً في كلية الآداب بالقاهرة، ويدرس فيها السنة التمهيدية للماجستير. ما رسخ اللغة الألمانية وقواعدها في فكره.

وفي سنة 1960 نال بعثةً دراسية إلى ألمانيا مدّتها خمس سنوات (1960ـ 1965) للحصول على الدكتوراه في جامعة لودفيغ مكسمليان في ميونيخ ـ قسم الدراسات اللغوية السامية (اللغات الجزيرية، كما يسميها التأثيليّون العرب اليوم، أي لغات شبه الجزيرة العربية، ومنها اللغة العربية).

درس محمود علم اللغة المقارن في جامعة ميونيخ، ومن اللغات التي درسها هناك إضافةً إلى التعمق بدراسة اللغة الألمانية وآدابها: اللغة اللاتينية، واللغة العبرية واللغة الآرامية. وحصل على شهادات باللغة الألمانية واللغة العبرية، وأخيراً حاز الدكتوراه بتقدير الدرجة العظمى، بعد أن أجيزت أطروحته عن " منهج التحليل اللغوي عند العرب في ضوء شرح السيرافي على كتاب سيبويه" عام 1965م بإشراف أستاذ علم اللغة القارن في جامعة ميونيخ الدكتور أنطون شبيتالر Anton Spitaler .عضو أكاديمية بافاريا للعلوم والإنسانيات ثم نائب رئيسها.

زواجه وعائلته:

عندما أكتب عن أحد العلماء من الأصدقاء لا بدُّ أن أذكر زوجته، فأنا من المؤمنين بمقولة " وراء كل عظيم امرأة ". فالزوجة الصالحة أحد عوامل نجاح المفكّر والعالم والمبدع. وقد وفَّق الله الدكتور محمود بالزواج سنة 1971 من سيدة رائعة خَلقاً وخُلقاً وعلماً، هي الأستاذة فردوس عبد المنعم منصور الحاصلة على ليسانس الآداب في الآثار المصرية، وشهادات دراسات عليا في المكتبات والوثائق، وهي عضو اتحاد كتّاب مصر، وعضو اتحاد المكتبات، والرئيس السابق والمؤسِّس لمكتبة القاهرة الكبرى، التابعة لوزارة الثقافة المصرية. وقد وفّرت هذه السيدة الرائعة الجوَّ العائلي السعيد الذي ساعد الدكتور محمود على البحث والتأليف وما يتطلَّبه من تضحية من قبل العائلة، كما أسرَّ إليَّ في مناسبات عديدة.

وأحسب أن إخلاص السيدة فردوس لزوجها وقيامها بتوفير المناخ العائلي الذي يمكّنه من الإبداع والعطاء هما نتيجة حبٍّ مزدوج، فهي تحب زوجها حباً جما وتحب المعرفة التي يعشقها وينتجها زوجها في شكل بحوث وكتب تهدف الى تنمية اللغة العربية وثقافتها، فالسيدة متخصِّصة في علوم الكتاب والمكتبات.

وقد منَّ الله عليهما بابنتين ملئتا البيت فرحاً وسعادة، وأحسنت أمهما تربيتهما، وهما:
ـ رانية حجازي، التي ورثت حب المعرفة من والديها، فحصلت على ماجستير إعلام من الجامعة الأمريكية بالقاهرة سنة 1995، وعلى دكتوراه في السلوك والقيادة التنظيمية من جامعة لافيرن في الولايات المتحدة الأمريكية.

ـ مروة حجازي التي حصلت على باكلوريا الثانوية من المدرسة الألمانية بالدقي في القاهرة سنة 1993، وليسانس إعلام من جامعة القاهرة سنة 1997.

عمله في التدريس:

بعد عودته من ألمانيا، انضمَّ الدكتور محمود فهمي حجازي إلى الهيئة التدريسية في قسم اللغة العربية بكلية الآداب في جامعة القاهرة، وتدرَّج في الدرجات الأكاديمية في ضوء الخبرة التدريسية والمؤلَّفات العلمية: مدرِّس 1966، أستاذ مساعد 1972، أستاذ 1978.

وبوصفه أستاذاً، كان الدكتور محمود فهمي حجازي من خيرة الأساتذة لأنَّه عالِم بموضوعه، واضح بأفكاره، منطقي بمنهجيته، محبٌّ لطلابه وعمله. يقول عنه أحد طلابه السابقين الكاتب إيهاب الملاح:

"كانت المرة الأولى التى أدرس فيها أفكارا منظَّمة وواضحة عن اللغة؛ وأدرك معنى وقيمة المنهج العلمى والرؤية الكلية وضرورة فهم الظواهر أو أي موضوع يخضع للدرس وفق طريقة مخصوصة فى البحث، وسياق منظم للدراسة، وترتيب واضح فى تناول المسائل أو الموضوعات المدروسة.. إلخ."

وفي أثناء عمله التدريسي في كلية الآداب بجامعة القاهرة، عُهِد إلى الدكتور محمود بعدة مسؤوليّات إدارية وأكاديمية من أهمها:

1ـ أستاذ زائر، جامعة آرلنجن، نورنبرغ، ألمانيا، 1969ـ1970، لتدريس اللغة العربية للألمان فيها.
2ـ أستاذ زائر، جامعة الكويت، 1970 ـ 1974، وعملت زوجته في مكتبة الجامعة.
3ـ مستشار، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو) بالقاهرة 1969ـ1979، خبير غير متفرغ في تعليم العربية لغير الناطقين بها.
4ـ أستاذ زائر، جامعة قطر في الدوحة 1980ـ1984؛ وعملت زوجته الفاضلة بتطوير مكتبة الجامعة.
5ـ مستشار تحرير، "مجلة الدراسات العربية" التي تصدر في جامعة هايدلبرغ بألمانيا (1981ـ2019) وكان المستشار العربي الوحيد لدى هيئة تحرير المجلة.
6ـ مستشار، المنظَّمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو)، 1984ـ 1992، لتنمية تعليم اللغة العربية في ماليزيا.
7ـ وكيل كلية الآداب في جامعة القاهرة من (1989ـ1994)، وأميناً لمجلس الدراسات العليا، بالكلية.
8ـ رئيس تحرير مجلة كلية الآداب، خلال مدَّة عمله وكيلاً لكلية الآداب (1989ـ1994)، وقد اضطلع بتطوير المجلَّة فجعل ما يُنشر فيها محكما، وصارت فصلية تصدر أربع مرات في السنة.
9 ـ رئيس الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية بالقاهرة (1994ـ1997)
وهذه الدار أسسها الخديوي إسماعيل (حكم 1863ـ1879م) بوصفها مكتبة عمومية سنة 1870م/1286هـ. وكان للدكتور حجازي اهتمام خاص بالبرديات المصرية، فأعاد نشر فهرسة البرديات في هذه الدار بعد أن تولّى رئاستها. وتضمَّ هذه الدار الآن أكثر من 60 ألف من نفائس المخطوطات، منها أكثر من 3 آلاف من البرديات العربية تعود إلى القرن الأول حتى الخامس الهجري.

كنتُ آنذاك أعمل مديراً لإدارة الثقافة والاتصال في المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو) بالرباط. فرأيتُ أن أعقد أحد اجتماعات المنظمة في ضيافة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية المصرية، دعما لصديقي رئيسها الجديد، الدكتور محمود حجازي، من جهة، وحصولاً على أفضل الشروط لصالح منظَّمتي. وقد عُقد هذا الاجتماع باسم (ندوة مديري مراكز المخطوطات في العالم الإسلامي) وحضره أكثر من أربعين مديراً من جميع الدول الأعضاء بالمنظمة في المدة من 26ـ31/5/1966. ويقيناً أن الاجتماع كان أفضل اجتماع عقدته المنظمة في تاريخها، أو كما قال أ.د. حسن دومان ممثل تركيا في الندوة: " هذه أهم ندوة في تاريخ المخطوطات".

ويعود الفضل في ذلك إلى نشاط الدكتور محمود، وخبراته التنظيمية، ومعرفته المعمقة في قضايا المخطوطات والوثائق، وعلاقاته الوثيقة مع كبار رجال الدولة المصرية، وتواصله العلمي مع محقّقي المخطوطات وخبرائها. وقد انتُخِب في بداية الاجتماع رئيساً للمؤتمر بعد أن قمتُ بترشيحه، طبقا لتقاليد المنظمة في اضطلاع ممثل الدولة المضيفة برئاسة الاجتماع.
وفي الجلسات العلمية للندوة ألقى كلُّ مدير مركز تقريراً عن المخطوطات في بلده، والخطط المتبعة لجمع المخطوطات بالحرف العربي وصيانتها وإصدار التشريعات القانونية لحمايتها، وتدريس علم المخطوطات... إلخ. ثم اختتمت الندوة بإصدار توصياتها، وعملت إدارة الثقافة والاتصال بالإيسيسكو على متابعة تنفيذ تلك التوصيات، مثل تزويد مراكز المخطوطات في الدول الفقيرة بأجهزة صيانة المخطوطات وترميمها، وتدريب العاملين فيها على استعمالها.
وأصدرت الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية، جريدة يومية باسم "المخطوطات" مدّة ستة أيام وزِّعت كل صباح على أعضاء المؤتمر وفيها أخبار المؤتمر وأنشطته الثقافية والاجتماعية. ونظَّمت الهيئة رحلات يومية لاطلاع المشاركين على أبرز المعالم الثقافية في القاهرة، وما أكثرها. وكذلك اقامت احتفالات حضرها محقِّقو المخطوطات وخبراؤها المصريون للتعارف مع المشاركين في الندوة، والتواصل والتعاون فيما بعد.

10ـ الرئيس المؤسِّس لجامعة نور مبارك للدراسات الإسلامية، في ألماتا، كازاخستان، في حين تولَّت زوجته الفاضلة تأسيس المكتبة الجامعية وتنظيمها.(2001ـ2014).
11ـ أستاذ زائر في الدراسات العليا لمُدد قصيرة في جامعة بودابست (المجر)، وجامعة أمستردام (هولندا)، وجامعة ليون (فرنسا)، وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، والجامعة الأمريكية بالقاهرة.
12ـ عضو المجلس العلمي لـ "معجم الدوحة التاريخي للغة العربية" (2013ـ2019). وهو المجلس الذي تتخذ الهيئةُ التنفيذية للمعجم توصياتِه أساساً للمنهجية العلمية التي تتبعها، وقد جُمعت هذه التوصيات في " الدليل المعياري للمعالجة المعجمية والتحرير" الذي أصدرته الهيئة التنفيذية.

ونجح الدكتور محمود نجاحاً باهراً في جميع هذه المهمات بفضل أخلاقه العالية، وذكائه الفائق، وعلمه الغزير، وشخصيته الجذابة، ودبلوماسيته الرفيعة. ومن الأمثلة على ذلك أننا عندما بدأنا بالترويج لتعليم اللغة العربية لغير العرب، واختلفنا بتسمية هذا المجال، فبعضنا فضل مصطلح "تعليم العربية لغير الناطقين بها"، ولم يستسغ بعضهم الآخر عبارة "غير الناطقين"، فاستعمل مصطلح " تعليم العربية للناطقين باللغات الأخرى"، ولم يحظَ هذا المصطلح بقبول الجميع. أما الدكتور محمود فأطلق على هذا المجال اسم " تعليم العربية لأبناء اللغات الأخرى". ولم يسعَ إلى فرضه، لأنَّ من أرائه الرصينة في علم المصطلح، وهو من أبرز المشتغلين فيه، أنَّ المصطلح المولَّد لا يُفرَض بقانون أو من قبل سلطة، بل ينتشر بالاستحسان والقبول لدى الجمهور المُستعمِل، فالمصطلح كالسلعة التي يعتمد رواجها على خصائصها الذاتية، وقد يُسهم الإعلان (الإشهار) التجاري قليلاً في رواجها.

الإشراف على الرسائل الجامعية:

في مشواره التدريسي في الجامعات المختلفة، يفتخر الدكتور محمود فهمي حجازي ـ وهو محقّ بذلك ـ بأنه أشرف على أكثر من 140 رسالة جامعية لدرجات الماستر والدكتوراه في موضوعات مختلفة: علم اللغة، علم اللغة التطبيقي، التراث العربي الإسلامي، مناهج التدريس، وطرائق التدريس. وإذا كانت معظم هذه الرسائل والأطروحات أنجزت بإشرافه في كلية الآداب بجامعة القاهرة، فإن كثيراً منها قد أُعِدَّ في جامعات مصرية وعربية أخرى، وأحياناً بالإشراف المشترك مع جامعات أوربية. وقد أجرى هؤلاء الباحثون من طلبة الدراسات العليا، أبحاثهم الأكاديمية انطلاقاً في الأساس من دروس الدكتور محمود ودراساته العديدة ومؤلفاته القيمة ومنهجيته البحثية في علم اللغة العربية، بحيث يمكن القول إنهم شكَّلوا مدرسةً لغويةً معاصرة متميزةً.

وفي الثمانينيات من القرن الماضي، وقبل أن يُنتخَب عضواً بمجمع اللغة العربية بالقاهرة، وقبل أن يعلن اتحاد المجامع اللغوية والعلمية العربية، بعقدَين كاملَين من الزمن، عن إحياء اهتمامه بتصنيفِ معجمٍ تاريخيٍّ للغة العربية، أخبرني الدكتور محمود ذات مرَّة أنَّه يشجّع طلابه في الدراسات العليا على البحث في المصطلحات اللغوية وكيف تتغير معانيها واستعمالاتها عبر عصور اللغة المتعاقبة؛ مثلاً المصطلحات الجغرافية في الشعر الجاهلي، ثم نفس المصطلحات في عصر صدر الإسلام (الخلفاء الراشدين والخلفاء الامويين) وتطور تلك المصطلحات ومفاهيمها وتغيّرها بمرور الزمن، والقوانين والأسباب اللسانية والاجتماعية والمناخية وغيرها التي تحكَّمت في ذلك التغيُّر والتطوُّر؛ من أجل توفير المادَّة اللازمة لتصنيف معجم تاريخي للغة العربية في المستقبل.

مؤلَّفات الدكتور محمود فهمي حجازي

أ ـ الكتب:

سأتناول هذه المؤلَّفات في دراسة مستقلة لاحقا؛ ولكني سأذكر عناوينها هنا وتاريخ صدور الطبعة الأولى:

المعجم الألماني العربي، بالاشتراك (فايسبادن، 1974)
اللغة العربية عبر القرون (القاهرة، 1968)
علم اللغة بين التراث والمناهج الحديثة (القاهرة، 1970)
علم اللغة العربية: مدخل تاريخي مقارن في ضوء التراث واللغات السامية ( الكويت، 1973)
مدخل إلى علم اللغة (القاهرة، 1975).
فؤاد سيزكين. تاريخ التراث العربي، ترجمة د. محمود حجازي (الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1441 هـ/ 1991م). اضطلع الدكتور محمود بترجمة عدة مجلدات من الكتاب.
الأسس اللغوية لعلم المصطلح ( القاهرة، 1993)
كارل بروكلمان، تاريخ الأدب العربي، ترجمة نخبة من العلماء وأشرف على الترجمة: محمود فهمي حجازي (القاهرة: الألكسو/الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993).
البحث اللغوي (القاهرة، 1993)
أصول الفكر العربي الحديث عند الطهطاوي (الكويت/القاهرة، 1995)
اللغة العربية في العصر الحديث (القاهرة، 1997)
طه حسين: حياته وفكره (القاهرة، 1998)
أصول علم اللغة (القاهرة، 1998)
حوار الثقافات: عن المؤلفات الألمانية عن التراث العربي الحديث، وعن الدراسات الألمانية في البلاد العربية، بمناسبة معرض فرانكفورت الدولي للكتاب، 2004.
اتجاهات السياسة اللغوية (الرياض، 2015).

ب ـ الدراسات والمقالات:

إنَّ الدراسات والمقالات التي كتبها الدكتور محمود ونشرها في الصحف والمجلات أو ألقاها في المنابر الإذاعية والتلفزية، لا تقلَّ أهمية عن الكتب التي ألّفها، لا لأن هذه الدراسات والمقالات تُعَدُّ بالمئات، بل لأنها كذلك تتناول قضايا ذات أهمية بالغة، وتمَّت صياغة بإيجاز غير مُخلٍّ. ولكي أوضّح هذه النقطة، أروي الطرفة التالية:

عندما كان الدكتور محمود رئيساً لجامعة الدراسات الإسلامية في ألماتي، كازخستان (2001ـ2013)، واظب على حضور مؤتمرات مجمع اللغة العربية السنوية بالقاهرة التي تعقد عادة مدّة أسبوعَين في أواخر شهر مارس.. وكانت هذه المؤتمرات تشتمل على جلسة مغلقة في الصباح، وعند الظهر جلسة مفتوحة يلقي بعض الأعضاء بحوثاً سبق أن أعدوها. ولم يكن تحصيل الدكتور محمود في ألماتي يقتصر على تعلُّم اللغتين الكازاخية والروسية، بل كذلك بعض التقاليد العلمية. وكان الوقتُ المخصص في مجمع القاهرة لكل باحث لإلقاء بحثه ساعةً كاملة تعقبها نصف ساعة للمناقشة. وكنا نحرص على استنفاد الساعة المخصصة لنا لتقديم بحوثنا، ولكننا فوجئنا بأن الدكتور محمود فهمي حجازي قدَّم بحثه في عشر دقائق فقط. طبعاً سألناه في بداية المناقشة عن السر في ذلك. فشرح لنا أنها عادة أكاديمية روسية، فالباحث يقدّم الجديد في بحثه، فما الفائدة في تقديم معلومات معروفة لدى الحاضرين، ومن أراد المزيد يمكنه التواصل مع المحاضر أو الاطلاع عليه في المراجع.

الجوائز والأوسمة وأوجه التكريم الأخرى:

خلال رحلة الدكتور محمود فهمي حجازي العلمية، لفتت منجزاته أنظار العلماء وأصحاب الشأن فكرّموه بأرفع وسائل التكريم ومنها:
عضوية اتحاد كتاب مصر (منذ 1985)
عضوية المجمع العلمي المصري بالقاهرة (منذ 1995).
عضوية مجمع اللغة العربية بدمشق (منذ 1995).
وسام الاستحقاق الألماني الاتحادي من الطبقة الأولى (1997)
(Verdienstorden der Bundesrepublik Deutschland Bundesverdienstkreuz
عضوية مجمع اللغة العربية بالقاهرة (منذ 1999). وفي هذا المجمع تولّى الدكتور محمود رئاسة لجنتَين هامتَين إحداهما لجنة من كبار أعضاء المجمع لتأليف قسم من " المعجم الكبير "الذي يعمل على إعداده المجمع منذ عقود من الزمن، والأخرى رئاسة لجنة اللهجات والبحوث في المجمع.
الجائزة التقديرية لجامعة القاهرة في العلوم الإنسانية (1998).
دكتوراه فخرية من جامعة العلاقات الدولية واللغات العالمية، ألماتي، جمهورية كازخستان (2004 )
وسام من رئيس جمهورية كازخستان (2013).
جائزة الملك فيصل للغة العربية وآدابها (2019 ).

جهود الدكتور محمود فهمي حجازي في نشر اللغة العربية في العالم
مما قدَّمتُه من معلومات حول دراسات الدكتور محمود فهمي حجازي، واللغات التي تعلّمها، والبحوث اللغوية التي أجراها، والخبرات الميدانية التي اكتسبها؛ يمكننا القول بكل ثقة إن الرجل كان مؤهَّلاً لمهمة كبرى هي نشر اللغة العربية في العالم. بيدَ أن المجال لا يتسع للحديث عن جميع جهوده في ذلك. ولهذا سأقتصر على الحديث بإيجاز عن ثلاث قضايا فقط هي:

أ ـ المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) وخبيرها الدكتور حجازي وتأسيس معهد الخرطوم الدولي للغة العربية.
ب ـ المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإسيسكو) وخبيرها الدكتور حجازي، ومناهج تعليم اللغة العربية في ماليزيا.
ج ـ جامعة نور مبارك للدراسات الإسلامية، ورئيسها المؤسِّس الدكتور حجازي ونشر اللغة العربية في آسيا الوسطى.

وهذه بعض المعلومات عن كل نشاط من هذه الأنشطة:

أ ـ المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو)، وخبيرها الدكتور حجازي وتأسيس معهد الخرطوم الدولي للغة العربية:

أثناء عمله أستاذاً، أشتغل الدكتور محمود فهمي حجازي خبيراً في الإدارة العامة للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو) خلال سنوات السبعينيات من القرن العشرين. ولم يكن ثمة خبيرٌ باللغة العربية آخر غيره في الإدارة العامة. بدأت علاقته بالمنظمة أيام مديرها العام الأول المصري الدكتور عبد العزيز السيد (1970ـ1975) وتوطدت هذه العلاقة أثناء تولّي السوداني الدكتور محي الدين صابر الإدارة العامة للألكسو سنة 1976، وانتهت علاقة حجازي بهذه المنظمة سنة 1979، بعد انتقال الإدارة العامة من القاهرة إلى تونس. بيد أن جميع ما فعله الدكتور محي الدين صابر في خدمة اللغة العربية ونشرها في العالم حتى نهاية عهدته مديراً عاماً للألكسو سنة 1988، كان من مبادرات وتخطيط الدكتور محمود فهمي حجازي، فقد كانت العلاقة وثيقة بين الرجلَين، والثقة مكينة، والاهداف واحدة. وفيما يأتي أهم المشروعات التي خطط لها الدكتور حجازي في الألكسو:

1ـ مشروع النهوض بتعليم اللغة العربية في باكستان (1975).

كان هذا المشروع بطلبٍ من حكومة باكستان التي كانت ترغب دوماً منذ استقلال باكستان سنة 1947 في تعميم تعليم اللغة العربية واستعمالها لغة وطنية بدلا من الإنجليزية وذلك بسبب تعدد اللغات الوطنية التي يربو عددها على ستين لغة في باكستان. ونظراً لعدم تمكن البلدان العربية آنذاك من مساعدة باكستان في تحقيق رغبتها، اضطرت حكومتها إلى الإبقاء على اللغة الإنجليزية في دوائر الدولة وإضافة اللغة الأوردية إليها بوصفهما لغتَين رسميتَين. وتعدُّ اللغة الأوردية لغة مشتركة للمسلمين في الهند وباكستان لاحتوائها على نسبة كبيرة من المفردات والتراكيب العربية، ولكن لا يتكلمها بوصفها لغة أمّ سوى 7 بالمئة من السكان. وأغلبية الأطفال الباكستانيِّين يبدؤون بتعلم القرآن الكريم في صغرهم.

وهكذا بقي تعلم لغة القرآن الكريم واستعمالها رغبة مكبوتة في نفوس المسلمين في باكستان. وقد تُوّجت هذه الرغبة بقانون 2020 الذي أقرّه مجلس الشيوخ الباكستاني والقاضي بإلزامية تعليم اللغة العربية في جميع سنوات التعليم العام من السنة الأولى الابتدائية إلى السنة الثانية عشرة الثانوية.

2ـ معهد الخرطوم الدولي لتعليم اللغة العربية:

كان الدكتور محيي الدين صابر وزيراً للتربية في السودان (1969ـ1972)، وتأكَّد له أنه لا بد من تطوير تعليم اللغة العربية في السودان للاستجابة لاحتياجات السودانيين ممن لغتهم الأم ليست العربية. فتقدمت الحكومة السودانية بمذكرة إلى مؤتمر وزراء التربية العرب سنة 1972 تدعوهم إلى إنشاء مركزٍ لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها. وافق المؤتمر على الطلب، وتبنت الألكسو المشروع سنة 1973، وافتتح المركز في الخرطوم وبدأت الدراسة فيه بتاريخ 15/10/1974. وعندما أصبح الدكتور محي الدين صابر مديراً عاماً للألسكو سنة 1976، عهد الى الدكتور محمود فهمي حجازي خبير المنظمة بتطوير المركز. فاضطلع الدكتور محمود بوضع خطة شاملة للمركز تقضي بتحويله إلى معهد دولي لإعداد المسؤولين عن إعداد معلمي اللغة العربية لغير الناطقين بها، أو ما يسميه الفرنسيون بـ "تكوين المكوِّنين"، مستفيداً بذلك من معاهد إعداد المعلمين للغة الفرنسية بوصفها لغة أجنبية، وكذلك من تخطيط معاهد غوته الألمانية التي تتَّخذ إدارتها العامَّة مقرها في مدينة ميونيخ، حيث درس الدكتور محمود.
وهكذا أصبح " معهد الخرطوم الدولي للغة العربية" بالإضافة إلى تعليم العربية لغير الناطقين بها، يقبل الخريجين الجامعيين المتخصّصين باللغة العربية من جميع أنحاء العالم، من أقصى الصين وإندونيسيا إلى أدنى السنغال وجنوب إفريقيا، لإعدادهم إعداداً خاصاً يمكّنهم من تطوير تعليم العربية وإعداد أساتذتها وتدريبهم في بلدانهم. وقد بذل الدكتور محمود جهوداً فكرية جبارة في إنجاز ذلك وسافر إلى الخرطوم عدّة مرّات لتدريب أساتذة المعهد أنفسهم. وقد تطوَّرت برامج هذا المعهد، فأصبح يمنح البكالوريوس، والماجستير، والدكتوراه، وأنواعاً متعدّدة من الدورات التدريبية والشهادات بما في ذلك دبلوم دورات تعليم العربية للدبلوماسيين غير العرب.

3ـ إنشاء صندوق تنمية الثقافة العربية في الخارج:

تقدّم الدكتور محمود فهمي حجازي، بوصفه الخبير اللغوي في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) بالقاهرة، بالخطوط العريضة لفكرة إنشاء صندوق تنمية الثقافة العربية في الخارج، للدكتور محي الدين صابر الذي تولى منصب المدير العام للمنظمة في مطلع سنة 1976، ونال موافقته لإعداد المشروع. فاشتغل عليه، مع أشغال أخرى، وأمضى سنتين تقريباً في استكمال المشروع: أهداف الصندوق، هيكلته، مجالات عمله، أماكن العمل، موارده، إلخ. وانتهى من إعداد المشروع وتقديمه للمدير العام أواخر سنة 1978. وكان المشروع يركِّز على نشر اللغة العربية، بوصفها جوهر الثقافة العربية ووسيلتها، في الدول الأخرى، خارج الدول العربية الأعضاء في المنظمة. والدول المستفيدة هي جميع الدول غير العربية، وذلك لنشر اللغة العربية بين سكانها بمَن فيهم الجاليات العربية المهاجرة.

في 19/11/1977 قام الرئيس المصري أنور السادات بزيارة إسرائيل وإلقاء خطاب في الكنيست الإسرائيلي من أجل السلام بين مصر وإسرائيل. رحّبت إسرائيل بذلك لإخراج مصر من معادلة الصراع الإسرائيلي ـ العربي.

في 17/9/1978، وقَّع الرئيس المصري أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن، اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل باستراحة الرئيس الأمريكي في كامب ديفيد بحضور الرئيس الأمريكي جيمي كارتر.

في 2ـ5 /11/ 1978، اجتمعت الدول العربية، ما عدا عُمان والسودان والصومال، في بغداد وقرّرت مقاطعة مصر ونقل مقر جامعة الدول العربية إلى تونس.

في مطلع سنة 1979 انتقلت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم من القاهرة إلى تونس ممثلة في شخص مديرها العام محي الدين صابر ومعه حوالي 12 موظفاً من غير المصريين. أمّا الموظَّفون المصريون الذين يبلغ عددهم حوالي ثلاث مئة موظف فبقوا في القاهرة.

كنتُ أعمل خبيراً في مكتب تنسيق التعريب بالرباط التابع للألكسو آنذاك. وكانت الألكسو في القاهرة قد تلقت طلباً لترشيح أثنين من كبار الأساتذة العرب للتدريس في "الدورة الصيفية الرابعة للسانيات" التي ستعقد في " معهد أبو رقيبة للغات الحية " الواقع في شارع الحرية بتونس العاصمة، طوال شهر تموز/ يوليو 1979، وهي دورة مصمَّمة لتدريب نخبة من طلبة الدكتوراه من جميع البلدان العربية. وشارك في تدريبهم اثنان من الأساتذة الأمريكان، واثنان من الفرنسيين، واثنان من البريطانيين واثنان من العرب. وقد رشحت الألكسو أستاذين للتدريس في تلك الدورة هما خبيرها في مقرها بالقاهرة وخبيرها في مكتبها بالرباط، أي الدكتور محمود فهمي حجازي وأنا، علي القاسمي. وأحسب أنَّ الدكتور محمود هو الذي اقترح الاسمين على المدير العام.

كنتُ خلال العام الدراسي 1978ـ1979 أعمل في الصباح في مكتب تنسيق التعريب بالرباط، وأدرس مساءً اللغة الألمانية في معهد غوته بالرباط. وحصلتُ على منحة من المعهد لدراسة اللغة الألمانية في معهد غوته في بلدة (روتنبرغ أوب در تاوبر) في ألمانيا خلال شهر آب/ غشت.َ

وهكذا عندما سافرت إلى تونس للتدريس في الدورة الصيفية للسانيات، قمتُ في اليوم الأول بزيارة الدكتور محي الدين صابر المدير العام للألكسو الذي اكترى مقراً مؤقتا يقع خلف فندق إفريقيا في شارع أبو رقيبة بتونس العاصمة. ووجدت معه 12 موظفاً من موظفي الألكسو الذين جاءوا معه من القاهرة، وهم من غير المصريين. أما بقية الموظفين من المصريين فقد بقوا بالقاهرة. وكان الدكتور صابر وموظفوه منهمكين في العمل لأنهم كانوا يحضّرون لعقد الدورة الخامسة للمؤتمر العام للمنظمة في تونس في المدّة من 24ـ29/12/1979 لإقرار برامج المنظمة المقبلة. وهكذا وجدتُ نفسي أعود إليهم كل يوم بعد أن أنهي حصصي التدريسية في الدورة الصيفية لأساعدهم في إعداد الوثائق اللازمة للمؤتمر. فكان الدكتور محي الدين صابر يخبرني بنوع الوثيقة المطلوبة، فأعدّ مسودتها، وأعرضها عليه للموافقة، ثم أقوم برقنها على الآلة الكاتبة على ورق الاستنساخ (الاستنسل)، وسحب النسخ بالعدد المطلوب منها على جهاز الاستنساخ، ثم أضع كل نسخة في ظرف وأكتب العنوان عليه، ثم أحمل الظروف إلى البريد في الشارع نفسه، لإرسالها. وكنا جميعاً نعمل طوال النهار وطرفاً من الليل.
وعلى الرغم من العلاقة الشخصية الحميمة بين الدكتور محي الدين صابر والدكتور محمود فهمي حجازي، فإن الأخير لم يلتقِ بالأول في تونس. فقد اعتبر أن علاقته بالمنظمة قد انتهت بانتقالها من القاهرة ومقاطعتها مصر. فالدكتور محمود فهمي حجازي مصري عروبي، ولكنه مصريّ أولاً. أضف إلى ذلك أن الدكتور محمود صحب عائلته معه إلى تونس. فهو يحرص دائماً على إعطاء عائلته الوقت المستحق لها. فإذا اضطلع بمهمات تدريسية أو علمية خلال العطلة الدراسية الصيفية فإنه يصحب عائلته (زوجته وكريمتيه) معه، على نفقته الخاصة، لتمضية وقت الراحة معهن والاستمتاع برفقتهن. وهذا ما فعله، مثلاً، في الدورة العالمية الرابعة للسانيات في تونس (كامل شهر تموز/يوليو 1979)، والدورة التدريبية لمفتشي اللغة العربية ومدرسيها في ماليزيا (كامل شهر تموز/ يوليو 1984). فقد كان الدكتور حجازي رجل العلم والمعرفة، وهو في الوقت نفسه رجل الأخلاق والمبادئ والإنصاف.

وفي أثناء عملي مع الدكتور صابر في تونس ورضاه عن نشاطي، فقد أسرَّ لي ذات مرة أنه يأمل أن يكون صندوق نشر الثقافة العربية في الخارج، أهم أجهزة الثقافة العربية في الألكسو بعد أن يوافق عليه مؤتمر المنظمة، وأنه ينوي أن ينقلني من مكتب تنسيق التعريب بالرباط إلى مقر المنظمة في تونس لأتولى إدارة الصندوق، لا سيما أنني بدأت أحد الأنشطة التي هي في صلب عمل هذا الصندوق عندما التحقتُ بمكتب تنسيق التعريب، وهو تصنيف معجم عربي ـ عربي لغير الناطقين بالعربية هو " المعجم العربي الأساسي". وطلب مني أن أقوم بزيارة الإدارة العامة لمعاهد غوته لتعليم اللغة الألمانية في ميونيخ، حينما أذهب إلى ألمانيا لدراسة الألمانية في شهر آب/ أغسطس والتعرف على أنشطتها، وبعث بخطاب إلى مديرها العام بذلك. وفعلا رتبت لي الإدارة العامة في ميونيخ زيارة مدتها يومان اطلعتُ فيها على اقسامها الرئيسة: إعداد المعلمين، تأليف المناهج التعليمية، إنتاج الوسائل السمعية البصرية، إلخ. وحملتُ معي وثائق عديدة تتعلق بأنشطة معاهد غوته.

وافق المؤتمر العام للمنظمة في كانون الأول/ ديسمير 1979، وهو أول مؤتمراتها الذي انعقد في تونس، على مشروع صندوق تنمية الثقافة العربية في الخارج الذي أعدّه الدكتور محمود فهمي حجازي،مع تفويض المجلس التنفيذي للمنظمة بمتابعة التفاصيل. وحصل تغيير طفيف في المشروع وهو تسميته بـ " جهاز التعاون الدولي لتنمية الثقافة العربية الإسلامية". وفي أواخر تلك السنة وصلت إلى مدير مكتب تنسيق التعريب بالرباط، العلّامة عبد العزيز بنعبدالله، برقية تلكس من المدير العام للمنظمة تنصُّ على نقل علي القاسمي من مكتب تنسيق التعريب بالرباط إلى مقر المنظمة بتونس. ولكني لم أكن مستعداً للانتقال لعدة أسباب، منها أن ولدي حيدر التحق السنة الفائتة بالمدرسة العراقية الابتدائية في الرباط كما بدأ دراسته في السنة السادسة ذلك العام الدراسي، ومنها أنني أحببتُ المغربَ وأهله ونسجت وشائج صداقة مع كثير من أعلام الثقافة فيه، ومنها أنني استشرتُ، العلامة عبد العزيز بنعبدالله مدير مكتب تنسيق التعريب، الذي أثق في حكمته ونزاهته، فقال لي ثلاث كلمات: " ستكون أسعد بالمغرب".

ولهذا توليتُ الإجابة على برقية التلكس بنفسي بدلا من مدير المكتب، لأعتذر فيها عن عدم استطاعتي الانتقال لأنه لا توجد مدرسة عراقية لابني في تونس. وأعترف الآن أنني أخطأتُ عندما وافقت على اقتراح المدير العام وجهاً لوجه في تونس خلال شهر تموز/ يوليو. ولم يكن صديقي الدكتور محمود فهمي حجازي موجوداً في المنظمة ليصلح ذات البين. وشعرتُ بأن علاقتي ساءت بالمدير العام الذي كان محقّاً في غضبه عليَّ. وأخيراً أدّت تلك العلاقة السيئة إلى استقالتي من الألكسو، والتحاقي بالمنظَّمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو).

الدكتور محمود فهمي حجازي وعمله مستشارا للإيسيكو:

بدأت المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو) عملها في مقرِّها بالرباط في شهر مايو 1982. وكنتُ من أوائل العاملين فيها. وفي بداية العمل كان عددنا خمسة أشخاص مع ثلاث كاتبات وفرّاش/ شاووش، وسائق. وهؤلاء الأشخاص هم: المدير العام، العلامة الدكتور عبد الهادي بوطالب، ومدير ديوانه الأديب المغربي مصطفى القصري، والمسؤول الإداري أبو بكر الصقلي، والأستاذ الجامعي محمد الفاسي الفهري، وأنا.

عمل الدكتور محمود فهمي حجازي مستشاراً للإيسيسكو في المدة من 1984ـ1991. واضطلع بثلاث مهمام بارزة:

1ـ إدارة الدورة التدريبية لمفتشي ومدرسي اللغة العربية في ماليزيا:

اختار المدير العام للمنظمة، الدكتور عبد الهادي بوطالب، إقامة أول دورة تدريبية للمنظمة في ماليزيا، ربّما لأن هذه الدولة كانت مترددة في الانخراط في الإيسيسكو. وعهد بالتنفيذ إليَّ وطلب مني أن أشرف على الدورة طوال انعقادها مدة شهر. وبعد التواصل مع الحكومة الماليزية، تم الاتفاق على عقد الدورة التدريبية لمدة شهر خلال صيف 1984، ويشارك فيها 100 من مفتشي اللغة العربية ومدرسيها في ماليزيا. واختارت وزارة التربية الماليزية بلدة (نيلم بوري) في ولاية كلنتان الواقعة في الشمال الشرقي من دولة ماليزيا على الحدود مع تايلند والمطلَّة على بحر الصين الجنوبي.

وصلتُ العاصمة كوالا لامبور قبل ثلاثة أيام من بدء الدورة التدريبية، لمقابلة وزير التربية الوطنية الطبيب الدكتور داوود سليمان، ووزير الثقافة أنور إبراهيم. وكان الوزير أنور إبراهيم، من قبل، رئيس منظمة الشباب الإسلامي الماليزية، وزعيما في المعارضة، وقد سُجن مدة سنتين في السبعينيات بدون محاكمة لقيادته مظاهرة حاشدة ضد الفقر والتهميش، وبعد أن أُطلق سراحه، زادت شعبيته. وهنا أرسل إليه رئيس الوزراء محمد مُحاضِر، وهو رئيس الحزب الحاكم وأخبره بأنه يرى أن رئيس الوزراء المقبل ينبغي أن يكون أنور إبراهيم، لأنه يتمتع بالذكاء والنزاهة والشخصية اللازمة لهذا المنصب، ولكي يتحقّق ذلك لا بد أن ينخرط أنور إبراهيم في الحزب الحاكم، وسيدربه مهاتر في دواليب الدولة، ويعينه وزيراً في مختلف الوزارات، لا سيما وزارة التربية التي تقتضي التقاليد الحكومية في ماليزيا أن يكون رئيس الوزراء قد خدم وزيراً للتربية من قبل. وهذا ما كان.

وعندما قابلتُ أنور إبراهيم، الذي كان وزيراً للثقافة، شعرتُ أنه صديقي منذ مدة طويلة وأنا لم ألتقِ به من قبل. فقد كانت له شخصية جذّابة تجعلك تشعر بأنه أخوك المخلص الصادق. وعلى الرغم من أن وقت العمل قد انتهى الساعة السادسة مساء، فإن الوزير أعطاني كتاباً عن ماليزيا لأقرأه حتى ينهي جميع أعماله ذلك اليوم ثم يصحبني معه إلى منزله لتناول طعام العشاء معه ومع عائلته.

أسرَّ إليّ أنور إبراهيم الذي كان محباًّ كبيراً لرئيس الوزراء الدكتور محمد مُحاضِر ومعجباً شديدَ الأعجاب به، أن محاضر تولى رئاسة الوزارة سنة 1981 بوصفه رئيس الحزب الأكثر شعبية في البلاد، المنظمة الوطنية الملاوية المتحدة؛ وأنه أخبر وزراءَه من أعضاء حزبه، أنه سيحوِّل ماليزيا من بلد زراعي فقير، إلى بلد صناعي غني، خلال عشرين عاماً فقط وأنه سيعتزل السياسة بعد ذلك. (وفعلا حقق ما يريد، وتخلى عن الحكم سنة 2003)؛ وأنه أخبرهم أن العرب يحبونهم وهم يحبون العرب، ولكن ينبغي لماليزيا ألا تنضمّ إلى منظماتهم الدولية، لأنهم سيغرقون في المشاكل بين العرب، ونصحهم بأن ينظروا إلى الشرق للتعاون، وقصد اليابان. ولكن أنور إبراهيم أضاف أن الإيسيسكو هي الاستثناء الوحيد من منظمات العرب، لأن ماليزيا تريدها أن تعلّم الماليزيين اللغة العربية، وأن ماليزيا لا تريد أي مساعدة مالية، بل تدفع جميع ما يلزم من مال لتعلّم اللغة العربية.

وفي ذلك اليوم اتصل الدكتور داوود سليمان، وزير التربية بأنور إبراهيم وزير الثقافة، يرجوه أن يتولى افتتاح الدورة التدريبية في بلدة نيلم بوري، لأن أنور إبراهيم خطيب مفوّه باللغتين الماليزية (البهاسا) وبالإنجليزية، وهو يطعّم خطبه بآيات من القرآن الكريم، ويترجمتها الى اللغة الماليزية، ما يجعله أكثر قبولاً لساكنة تلك الولاية المعروفين بتديّنهم خصوصاً، وللماليزيين عموماً.

توجّهتُ مع مَن وصل من أساتذة الدورة التدريبية بطائرة واحدة من كوالا لامبور إلى نيلم بوري في ولاية كلنتان، فوجدتُ بعض المسؤولين في انتظارنا بالمطار، وصحبونا إلى أفضل فندق في نيلم بوري وأخبرونا بأنهم حجزوا للأساتذة في هذا الفندق المريح على حساب الوزارة الماليزية. فسألتهم:

ـ وأين يسكن المتدربون؟

ـ في القسم الداخلي للمعهد الإسلامي حيث تقام الدورة.

فقلتُ: إن أساتذة الدورة يودّون أن يقيموا في القسم الداخلي نفسه، ويتناولون وجباتهم اليومية مع المتدربين الماليزيين، ويمضون السهرات الليلة معهم في مشاهدة أفلام الفيديو العربية، ويقيمون صلواتهم الخمس معهم.

وفي الحال، فهم الدكتور محمود فهمي حجازي المقصود من كلامي، وأيدني بشدة، ما جعل المسؤولين الماليزيين يصحبوننا إلى القسم الداخلي . وفي المطعم، طلبت ترتيب موائد الطعام بشكل تستوعب فيه كل مائدة 11 شخصاً: عشرة من المتدربين الماليزيين، وأستاذا عربيا من المدرِّبين، لتكون المحادثة أثناء تناول الطعام بالعربية. وكانت الدراسة تتكون من ست ساعات يومياً، مع لقاء لمشاهدة الأفلام العربية بعد العشاء ومناقشتها بعد انتهاء كل فيلم. وكنتُ قد اخترتُ الدكتور حجازي مديراً لتلك الدورة التدريبية.

لقد كانت دورة تدريبية مكثَّفة ناجحة بفضل إدارة الدكتور محمود فهمي حجازي، وتخصصه في الموضوع.

وفي اثناء هذه الدورة التدريبية كنا ـ الدكتور محمود وأنا ـ نلتقي بانتظام لتدارس مسألة تأليف مناهج تعليم اللغة العربية في المدارس الماليزية وكتبها المدرسية. مستعينين بدراساتنا وخبراتنا السابقة في هذا المجال هو عند دراسته وتدريسه العربية في ألمانيا، وأنا في دراستي وتدريسي العربية في الولايات المتحدة الأمريكية. واتفقنا على الأسس اللازمة لذلك.

2ـ تأليف كتب تعليم اللغة العربية للمدارس الماليزية:

كانت أهم المبادئ التي اتفقنا عليها في تأليف تلك الكتب كما يلي:

1ـ أن يضطلع بتأليف الكتب المدرسية لتعليم اللغة العربية في المدارس الماليزية أساتذة ماليزيون، يختارهم الدكتور فهمي حجازي ويدرّبهم على أصول التأليف، وأن تُكتب أسماؤهم على أغلفة الكتب.
2 ـ أن تكون لكل سنة دراسية ثلاثة كتب: كتاب الطالب، كتاب المدرّس، كتاب التمارين.
3 ـ أن يكون كتاب الطالب مدعَّماً بوسائل الإيضاح اللازمة: الرسوم والصور والأشرطة الصوتية. (لم تكن الشابكة قد استُعملت في التعليم عن بُعد).
4 ـ أن يمكِّن محتوى الكتاب الطالبَ من استيعاب الحضارة العربية الإسلامية والتعبير عنها، وفي الوقت نفسه استيعاب الثقافة الماليزية والتعبير عنها.
5 ـ وهذا يستلزم أن يكتسب الطالب المهارات الأربع: الفهم (فهم المسموع، وفهم المقروء) والتعبير (التعبير تحدُّثاً، والتعبير كتابة).
6 ـ اعتماد الطريقة التواصلية والاستعانة ببقية الطرائق كذلك (وكانت الطريقة التواصلية أحدث الطرائق آنذاك).

تولّى أنور إبراهيم حقيبة وزارة التربية في ماليزيا في المدة من 1986ـ 1991. وتعدّ وزارة التربية أهم وزارة في خطة التنمية البشرية التي كانت ماليزيا تتبناها، فالتعليم هو أساس التقدّم. وأحد الشروط الواجب توافرها في مَن يتولى رئاسة الوزراء أن يكون قد تقلّد منصب وزارة التربية. فالدكتور محمد مُحاضِر، رئيس الوزراء آنذاك، ونائبه موسى هيثم، كانا قد توليا منصب وزير التربية من قبل، وكذلك عبد الله أحمد بدوي الذي تولى رئاسة الوزارة عندما تركها الدكتور محمد مُحاضِر سنة 2003، كان وزيراً للتربية. وعلى الرغم من أن جميع الوزراء الماليزيين متحمِّسين لتعليم اللغة العربية في مدارسهم، فإن أنور إبراهيم كان أكثرهم حماساً، فهو خطيب مفوّه بلغة البهاسا (لغة ماليزيا وإندونيسيا، التي نال شهادة الماجستير بآدابها)، ويستعمل كثيراً من الاستشهادات بالعربية من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف في خطبه. وأحسب أنه حفظ القرآن الكريم أو قسما كبيراً منه قبل أن يلتحق بالمدارس الحديثة. وكانت خطبه تسهم في شعبيته السياسية وشعبية الحزب الذي ينتمي إليه.

في صيف 1986، عقدت المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو) دورةً تدريبيةً ثانية في ماليزيا لمفتشي ومدرسي اللغة العربية. وطبعاً أخترتُ صديقي الدكتور محمود فهمي حجازي على رأس الأساتذة الجامعيين الأحد عشر الذين اضطلعوا بالتدريب.

ولكن لم يتولَّ هذه المرة أية مسؤوليات إدارية فقد كانت مهمته اختيار فريق المؤلِّفين الماليزيين وتدريبهم على تأليف الكتب المدرسية باللغة العربية. وإذا كانت الدورة قد انتهت بعد شهر واحد فقط، فإن الدكتور حجازي أمضى شهراً ونصف. وبدأ فريق المؤلِّفين الماليزيين بتأليف الكتب ذلك العام بإشرافه وتوجيهه. وكان وزير التربية الماليزي أنور إبراهيم حريصاً على الانتهاء من تأليف الكتب في أسرع وقت ممكن والبدء باستعمالها في المدارس. ولهذا لمّا أصبح الدكتور محمود فهمي حجازي وكيل كلية الآداب بجامعة القاهرة، وحالت مسؤولياته الإدارية دون سفره إلى ماليزيا، أخذ الوزير أنور إبراهيم بإرسال فريق المؤلفين الماليزيين إلى القاهرة للاجتماع مع الدكتور حجازي. إضافة إلى ذلك، لم يطلب الدكتور محمود حجازي من الإيسيسكو طوال تلك المدة مكافآت عن عمله في تأليف الكتب أو مقابلاً لرحلاته إلى ماليزيا للاجتماع بفريق المؤلِّفين. فتأكّد لي أن وزارة التربية الماليزية قامت بذلك، وفهمت كلام أنور إبراهيم: " إن ماليزيا ستدفع ما يلزم من مال لتعلّم اللغة العربية."

وفعلاً أنتهى تأليف الكتب قبل أن يتحوّل أنور إبراهيم من وزارة التربية الى وزارة المالية سنة 1991. وعندما وصلتني الكتب، قرأت المقدمة التي كتبها مدير التعليم العربي في وزارة التربية الماليزية، وشعرتُ بالخجل، لأنه وجّه الشكر ليّ، في حين أن صاحب الفضل في تأليف هذه الكتب، هو الدكتور محمود فهمي حجازي وفريق المؤلفين الماليزيين. وبعد عشر سنوات تقريباً من تركي العمل في الإيسيسكو، التقيتُ بأحد المشاركين في ندوة عُقدِت في مدينة مراكش وهو أستاذ جامعي ماليزي يعمل في الجامعة الإسلامية بكوالالمبور وسألته عن تلك الكتب، فدُهِش لسؤالي عن كُتب مدرسية تمَّ تأليفها قبل خمسة عشر عاماً، لأنَّ ماليزيا تغيّر مناهجها المدرسية كلَّ ثلاثة أعوام تقريباً، فالعلم في تطوّر والمعرفة في تغيّر، وكلُّ شيءٍ يتغيّر!!!

ج ـ جامعة نور مبارك الإسلامية في ألماتي في كازاخستان:
في أثناء زيارة نور سلطان باييف، رئيس جمهورية كازخستان، لمصر سنة 1993، تمَّ الاتفاق بين الحكومتين على بناء جامعة إسلامية في كازخستان. وأُنجِزت المرحلة الأولى من البناء الذي اضطلعت به شركة المقاولين العرب المصرية، سنة 2000. وبعد تجهيز الجامعة فتحت أبوابها للطلاب سنة 2003، واضطلع الدكتور محمود فهمي حجازي برئاسة الجامعة حتى 2014، وأُسند إنشاء مكتبة الجامعة إلى زوجته المكتبية الماهرة الأستاذة فردوس، فالمكتبة هي قلب أية جامعة حديثة. أما بعد الدكتور حجازي ورئاسته التي دامت أحد عشر سنة، فإن رؤساء هذه الجامعة يُرسلون من مصر لمدة أربع سنوات فقط.

وقد حدّثني الدكتور محمود حجازي عن الكيفية التي استطاع أن يقنع بها الرئيسين الكازاخستاني والمصري على تحمل نفقات إنشاء جامعة إسلامية وتسييرها. فقد حدَّث الرئيس الكازخستاني أثناء زيارته لمصر، عن العلاقات الوطيدة القديمة بين المسلمين التي لعبت كازخستان دوراً هاماً في إرساء العلم والحرية في البلدان العربية، وفصّل في شخصيتين كازاخستانيتَي الأصل هما: الفارابي والظاهر بيبرس.

ولد مؤسس الفلسفة الإسلامية أبو نصر محمد الفارابي (260ـ339هـ) في مدينة فاراب (في كازاخستان اليوم)، وتعلَّم في بغداد فبرز في علوم عديدة كالطب، والفلسفة، والفيزياء، الموسيقى، وصار أحد كبار الفلاسفة المشرفين على دار الحكمة ببغداد، وهي مكتبة ومجمع ومركز أبحاث أسسه الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور (حكم 137ـ158 هـ). وتنقَّل الفارابي إلى دمشق والقاهرة وتطوان في المغرب، ولقي رعاية خاصة من سيف الدولة الحمداني في حلب. ولُقِّب بالمعلِّم الثاني لاهتمامه بشرح كتب المعلِّم الأول، أرسطو. ويعزى إليه تصميم وصناعة آلة القانون الموسيقية. وأثَّرَ في جميع الفلاسفة المسلمين بعده.

أما الملك الظاهر بيبرس سلطان مصر والشام (حكم من 658ـ676هـ/ 1260ـ 1277م)، فقد كان قائدأ عسكرياً فذاً يتصف بالشجاعة والحكمة وهو أيضا مولود في الجغماق (كازاخستان اليوم)، عندما تعرَّض قلب العالم الإسلامي إلى هجمتين شرستين من الشرق والغرب:

ألأولى، هجمة المغول من الشرق الذين أسقطوا بغداد سنة 656هـ/1258م، فأوقف تقدمهم السلطان قطز وقائد جيشه الظاهر بيبرس، وهزماهم في معركة " عين جالوت" الشهيرة وتتبعهم قائد الجيش بيبرس وقضى على فلولهم في الشام، ثم هزمهم في معركة الأبلستين سنة 1277م؛

والثانية، هجمة الصليبيّين من أوربا الذين انتصر عليهم قائد الجيش المصري الظاهر بيبرس في معركة " مصيدة المنصورة" الشهيرة سنة 1250م وهزمهم وقتل قادتهم العسكريين وأسر لويس التاسع ملك فرنسا قائد الحملة الصليبية السابعة، وسجنه شهراً كاملاً إلى أن دفعت زوجته الفدية. كما استولى على الإمارة الصليبية في إنطاكية، عقاباً لأميرها الصليبي الذي ناصر المغول وساعدهم في معركة عين جالوت.

وكان الظاهر بيبرس رجلآ عادلاً يساعد الفقراء، متحلياً بالشجاعة والدهاء، مُحبّاً للعلم ومكرِّماً للعلماء، وهو الذي أسَّس المدرسة الظاهرية والمكتبة الظاهرية بدمشق، وضريحه في الأخيرة إلى الآن. وإيماناً من الظاهر بيبرس بأهمية الوحدة الإسلامية، أحيا الخلافة العباسية بالقاهرة عندما تولى الحكم، رمزاً لوحدة المسلمين.

ثم عرض الدكتور محمود حجازي فكرة إنشاء جامعة إسلامية في عاصمة كازخستان آنذاك، الماتي، لتحمل اسمي رئيسي كازاخستان ومصر، " جامعة نور مبارك الإسلامية"، وتكون نفقتها مناصفة بين مصر وكازاخستان. ومعروف أن هذا الاسم المقترح، يكفي لموافقة الرئيسين على المشروع.

تقع الجامعة في منطقة نظيفة بالمدينة عند سفح جبال آلاتو، في شارع الفارابي. وتتوفر الجامعة على مبنيَين تعليميَّين، ومكتبة فيها قاعات للمطالعة، ومركز لخدمة الطلاب، ومطعم ومبنى لسكن الطلاب، ومطعم، ومجمَّع رياضي وصالة ألعاب (كرة قدم، كرة سلة، حلبة للتزلج على الجليد)، وللجامعة الأراضي اللازمة للتوسع.

يوجد في الجامعة أربعة أقسام: قسم اللغتين العربية والإنجليزية وتُعلَّم هاتان اللغتان إلزاميا لجميع طلاب هذه الجامعة، قسم علوم الدين، قسم الدراسات الإسلامية، وقسم الدراسات الإنسانية. في الجامعة حالياً 1733 طالباً وطالبة. كما يؤم هذه الجامعة بعض الطلاب من جمهوريات آسيا الوسطى لاسيما من قيرغيزستان وأوزبكستان. ويؤطر الطلاب 104 من أعضاء الهيئة التدريسية، وتمنح الجامعة شهادات الإجازة، والماجستير (سنتين بعد الإجازة) والدكتوراه (لمن يروم مزاولة القضاء). وتستجيب برامجها لاحتياجات وزارة التعليم والعلم في كازاخستان. وللجامعة مجلس أمناء، نصف أعضائه من المسؤولين الكازاخستانيين والنصف الآخر من المصريين.

خاتمة:

وخلاصة القول إنني سعدت شخصياً بمعرفة معظم روّاد تعليم اللغة العربية لأبناء اللغات الأخرى في النصف الثاني من القرن الميلادي العشرين والربع الأول من القرن الحادي والعشرين، واطلعتُ على كثير من جهودهم القيمة في هذه المجال الحيوي، بحكم تخصصي وعملي. وهؤلاء الرواد هم من العرب ومن غير العرب، وازعهم عشقهم للغة القرآن الكريم، ودافعهم عظمة هذه اللغة وجمالها وروعة نظامها الصوتي والصرفي والنحوي، فهي أمُّ اللغات البشرية جميعاً وأطولها عمراً وخلوداً. ولكل واحد من هؤلاء الرواد خصائصه المميزة التي يتفرَّد بها من حيث تركيزه على التخطيط واتخاذ القرار، أو تناول الجانب النظري في التأليف، أو ممارسة الجانب التطبيقي في التعليم، أو إعداد المواد التعليمية الأساسية والمُعينة كبرامج التعليم عن بُعد بالمراسلة أو بالشابكة. وهم جميعاً يستحقون التقدير والتنويه بأعمالهم القيمة، واحداً واحداً.

بيد أنني أعدُّ صديقي الدكتور محمود فهمي حجازي من أكثرهم نشاطاً وإنتاجاً وتأثيراً في هذا المجال (ولعل ذلك نتيجة محبتي لشخصيته الفذة، وحسن اطلاعي على نشاطه وأعماله). فقد اشتغل على الجانب الاستراتيجي في هذا المجال، مثل تأسيسه الجامعة الإسلامية في كازاخستان، والجانب النظري عن طريق مؤلفاته اللسانية عن اللغة العربية تاريخاً وحاضرا، فأرسى قواعدَ مدرسةٍ لسانية عربية معاصرة من خلال طلابه الذين كوّنهم في جامعة القاهرة وغيرها من الجامعات العربية، والرسائل الجامعية التي أشرف عليها وهي تزيد عن 140رسالة وأطروحة. وكذلك الجانب التطبيقي إذ مارس تعليم اللغة العربية للألمان وغيرهم، وتدريب مفتشي ومعلمي اللغة العربية لأبناء اللغات الأخرى، وإعداد المواد اللازمة، الرئيسة كالكتب المدرسية، والمعينة كالمعاجم الأحادية اللغة (رئاسته لجنة تصنيف " المعجم الكبير" في مجمع اللغة العربية بالقاهرة)، والمعاجم الثنائية (كاشتراكه في تصنيف " المعجم العربي ـ الألماني").

عندما كان محمود فهمي حجازي طالباً في كلية الآداب بجامعة القاهرة، كان يحلم بأن يكون ممثلاً لبلاده أو للأمة العربية لدى الأمم الأخرى، كما ذكر في إحدى مقابلاته المتلفزة. ويطيب لي أن أخاطبه الآن، بعد أن رحل إلى جوار ربه، والدمع يترقرق في عينيَّ، قائلا: أخي محمود! نم قرير العين خالداً في الفردوس الأعلى، فإنك حقّقتَ حلمك كاملاً: لم تكن سفيراً لحاكم أو ملك أو سلطان. لقد كنتً سفيراً فوق العادة للغة القرآن الكريم، وثقافتها العربية الإسلامية لدى أمم العالم شرقاً وغرباً، وكنتَ أعظم سفير في الدنيا. وأي سفير يبقى في مهمته، كما بقيتَ أنت في كازاخستان، مثلاً، أحد عشر عاماً وأنت تؤسس جامعةً رائعة ستواصل رسالتك الخالدة. ولهذا فإن رئيس جمهورية كازاخستان، منحك أسمى وسام في الدولة، وهو وسام لا يُمنح لأعظم السفراء. وسيذكرك تاريخ الثقافة العربية الإسلامية بأحرف من نور.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى