الأحد ٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٩
بقلم عادل الأسطة

ويمر عام

طر ببالي أن أكتب، نهاية هذا العام، 2008، عن أهم حدث عشته فيه، أو عن أهم هم لقطة لعين كاميرا فيه شاهدتها من على شاشة فضائية ما، أو عن أفضل رواية قرأتها، أو عن أثر فقدان الشاعر محمود درويش في المشهد الثقافي الفلسطيني والعربي، وخطورة هذا على كتابتي المستقبلية، فيما يخص إنجاز دراسة فيها بعض دهشة، على قدر ما في قصائده الجديدة من دهشة ومفاجأة لي ولآخرين أيضا.

هل خطر ببالي أن أكتب عن أفضل مقال قرأته؟ لا أظن هذا، وإن كنت أفاضل بين مقال ومقال، وأقرأ لكتاب فلسطينيين وعرب أعجب بما يكتبون. الثلاثاء مساء، 23/12/2008، أعدت قراءة مقال غسان شربل: (بلاد عادية.. بلاد كئيب) مرتين وكان نشر تحت عنوان آخر هو (المدينة المضجرة). هل لفت العنوان نظري أم ما لفت نظري هو اللون الذي سُبِغَ العنوان به". ربما هذا وذاك معا. لقد ذكرني العنوان بعناوين قصص قصيرة كتبها أصدقائي في نهاية سبعينيات ق20، وكانت القصص والعناوين، لي، يومها لافتة، إذ لم تعهدها حركتنا القصصية التي كنت أتابعها. الثلاثاء مساء، بعد أن أعدت قراءة المقال ثانية تساءلت: لماذا لا أفكر في كتابة مقال عن أفضل مقال قرأته في العام 2008؟ وتساءلت أيضا: هل سيكون حكمي صحيحا لو قلت إن هذا المقال أفضل من غيره؟ ما هي المعايير التي أعتمدها حين أصدر مثلا هذا الحكم؟ هل قرأت المقالات كلها في فترة واحدة؟ هل كانت حالتي النفسية، وأنا أقرأها، واحدة؟ هل راعيت عنصر البناء؟ هل التفت إلى اللغة؟ و....و...و..

سأغض النظر عن صيغة التفضيل، وسأقول: لأَقُلْ إن المقال الذي قرأته مرتين، وراق لي كثيرا، هو مقال: غسان شربل المذكور. راق لي الأسلوب، وراقت لي الفكرة، وراقت لي السخرية المبطنة الهادئة التي تعتمد على قدر كبير من المفارقة الجارحة. وربما راق لي المقال لأن كاتبه كتب شيئا قريبا مما كنت أود كتابته في العيد، ولكنني لم أفعل. وربما لأنه ذكرني بمدن شاهدتها وسحرت بها، مدن ألمانية زرتها في العام 1987، في فترة أعياد الميلاد، فمسني وأنا أرى ما هي عليه سحر ما: هذه هي المدن وإلا فلا. هل المدن التي نعرفها مدن وهذه مدن؟

في أعياد الميلاد، في العام 1987، اصطحبنا المسؤولون في معهد (غوتة) في مدينة (فرايبورغ) الواقعة في جنوب ألمانيا، وهناك الغابة السوداء، إلى مدينة لم أعد أذكر اسمها. كم أنا بائس لأنني لم أعد أحتفظ ببطاقة معايدة منها لها! كانت الشوارع مضاءة ونظيفة والمحلات مزينة بأشجار أعياد الميلاد وربما كانت نفسيتي على خير ما تكون. كم سحرتني تلك المدينة! كم سحرتني أجواء أعياد الميلاد فيها: بشر يسيرون في الشوارع، وجوههم ممتلئة، أجسامهم بضة، أطفالهم فرحون يقبلون على الحياة. كل شيء فيها، في المدينة، يقول: على هذه الأرض ما يستحق الحياة. (الآن أتذكر سطر درويش في عكا: عكا أجمل المدن القديمة. طبعا لا أستطيع أن أقارن بين المدينة الألمانية تلك وبين عكا، لأقول: أخطأ الشاعر، فهو قال: أجمل المدن القديمة، لا أجمل المدن على الإطلاق. يمكن أن أقارن، مثلا، بين عكا و(روتنبرغ) أو بين عكا و(هايدلبرغ).

لماذا أعجبت بمقال غسان شربل وقرأته مرتين؟ هل فكرته فكرة جديدة؟ لا أظن. ربما تذكر قراء رواية عبد الرحمن منيف (شرق المتوسط) مقارنة بطلها رجب بين مدن الشرق ومدينة باريس. كان رجب عاش خمس سنوات في سجون شرق المتوسط، ثم غادر إلى باريس ليتعالج فيها، وكان دائما يجري مقارنة بين النظام في باريس والنظام في شرق المتوسط، بين بشر باريس وبشر شرق المتوسط، بين حياة هؤلاء وحياة هؤلاء، ومما قاله:

(حتى الفرح الشديد حرمه على الدكتور فالي. كان يسخر عندما نطق الكلمة الأخيرة. هل يتصور أن على الشاطئ الشرقي للمتوسط إنسانا واحدا يمكن أن يموت من الفرح؟ الفرح بالنسبة للشعب السجين طائر مهاجر... حتى الجلادون لا أظن أنهم قادرون على الفرح..)
وأما بشر الغرب

(فوجوه ضاحكة، يعربد فيها الفرح.. وجوه قاسية يعذبها التفكير) وهم يمارسون حياتهم بقدر كبير من الحرية.

غسان شربل ليس مواطن فلسطينيا. إنه لا يعيش تحت الاحتلال الإسرائيلي منذ العام 1948 أو منذ العام 1967. إنه مواطن عربي، عاش في العالم العربي. ترى ماذا سيكتب لو عاش تحت الاحتلال الإسرائيلي أربعين عاما أو ستين عاما؟ ماذا كان سيكتب لو عاش اجتياح 2002، أو لو كان يعيش الآن في غزة المحاصرة والتي تحرق؟ ترى هل يختلف الحال في العالم العربي كثيرا عنه هنا في فلسطين؟ هل يختلف أحوال أهلنا في العراق عن أحوالنا هنا في فلسطين؟ هل تختلف أحوال اللبنانيين في لبنان عن أحوالنا هنا في فلسطين؟ وماذا عن بقية أقطار الوطن العربي من المحيط الهاديء إلى الخليج الثائر؟

أيا كانت الإجابة، فإنني أعجبت بمقال غسان شربل وقرأته مرتين، وراقت لي فيه فكرة المقارنة، راقت لي السخرية الهادئة المبطنة مما نحن فيه/ هنا، في العالم العربي. العام يمر، مثل أعوام سابقة غيره، فهل من بصيص أمل في عالمنا العربي؟ سأكرر: ربما.. هيهات.. قد، وأرشح مقال غسان شربل لجائزة!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى