

يفتح سفر النرجس
في ديوانه الجديد «سفر النرجس» يقدّم لنا الشاعر الفلسطيني ابن بلدة المغار الجليلية سليمان دغش، باقة من قصائده الجديدة التي تشي لقارئها بعمق انتماء الشاعر الى شعبه وأمّته ووطنه، وهذا ليس جديدا على شاعرنا، وانما هو امتداد لمسيرة عطاء متميزة، والقارئ لقصائد شاعرنا لن يحتاج الى كثير من الذكاء ليجد أنّ شاعرنا مبدع موهوب لا يتصنع، فلغته سلسة وقصائده انسيابية راقصة تصلح في غالبيتها للغناء، وقارؤها سيجد نفسه طربا فرحا وهو ينشدها لذاته، وواضح أنّ شاعرنا متأثر بغزليات الراحل نزار قباني، وبالجملة الشعرية «الدرويشية». وسيلاحظ أن شاعرنا قد استفاد كثيرا من الموروث الديني والثقافي والتاريخي لشعبه ولأمّته، وهذا دلالة على سعة اطلاعه وعمق ثقافته.
ويفتتح شاعرنا مجموعته الشعرية هذه بقصيدة «رؤيا محمد البوعزيزي» ذلك الشاب التونسي الذي أحرق نفسه احتجاجا على الظلم اللاحق به وبشعبه، زمن الرئيس الهارب من غضب شعبه زين الدين بن علي، ليكون جسده المحروق شرارة نار الحرية التي أدّت الى تحرير شعبه من حكم الطاغوت، ولتنتقل عدواه الى مصر وغيرها من البلدان العربية، فالبوعزيزي لم يحرق جسده عبثا، وانما كانت له احلامه بالعيش الكريم والحرية:
"ولم تحلم بغير الشمس تبعث روحهافي حبة القمح الشهيةكي يصير الخبز قدسيّ الدلالةفي يد الفقراءفالفقراء ملح الأرضسنبلة الحياة، رمت على كتف الميادين الجديدة روحهافي ريحها وتوهجت غضبا لتشتعل الشرارة"ص9
وموت البوعزيزي حرقا لم يكن عبثا، وانما لبعث الحياة في شعوبنا التي أماتها حكم الطغاة:
"أيّها الموت العظيمبنار البوعزيزي العظيمكفاك موتا أنّنا نرد الشهادة فيك كي نحياوكي نحياونحيا من جديد"ص13
ويلاحظ هنا التناص مع احمد شوقي الذي يقول:
ففي القتلى لأجيال حياة *** وفي الأسرى فدى لهم وعتق
وقد خصص الشاعر للقدس الشريف قصيدتين، ولا غرو في ذلك، فالقدس بالنسبة للشعب الفلسطيني هي بمثابة القلب في الجسد، كونها العاصمة السياسية والدينية والثقافية والتاريخية والاقتصادية والعلمية والحضارية لفلسطين وشعبها، وقصيدة شاعرنا الأولى تحمل عنوان"على بعد أندلسين وأدنى من القدس"ص29 والثانية"على بعد اصبعتين وأدنى من القدس"ص51. فهل يخشى الشاعر في قصيدته الأولى أن يكون مصير القدس كمصير الأندلس؟ وهذا ليس تشاؤما من الشاعر، بمقدار ما هو غضب على الساكتين على ما يجري من سلب لجغرافية القدس وتاريخها فيسأل مستنكرا:
"فماذا يقول المغني اذا أنّت الرّوحفي جسد النّايواستأنس الليل صمت العصافيرفوق هلال المآذن"ص32
وشاعرنا غاضب من خرافات الأخر وغيبياته وأساطيره الدينية التي رفعها لجمع شتاته، ليتمخض بولادة قيصرية لدولة على أشلائنا:
"كأنّ الريح التي شطرتنيعلى ضفة النهر نصفينما بين ماءين يقتسمان الخريطة في جسدي المقدسيّرمت فوق رمال شواطئنا حملها القيصريّ الملوثويحك يا ريح كيف تمكنت منيوحمّلتني وزر تلك الخرافةوعد الإله زوراوكيف أعدت الى هذه الأرض بكر البداياتسوءة قابيل ثانية"ص31.
ويستغل الشاعر في هذه القصيدة قصة"قابيل وهابيل" استغلال جيدا وجميلا.
وفي القصيدة الثانية نرى غضب الشاعر وحزنه على من أضاعوا البلاد، وتغنوا بالعودة القريبة، لكنهم ارتضوا المهانة وما عادوا:
"والحياة تئنّ من عطش الحياة الى الحياةفلا حياة لمن تركوا الحياةعلى مرايا الحلم والذكرىوقالوا:عائدون فعادت الذكرى وما عادوا"ص52.
والشاعر يعود مرة اخرى الى أسطورة "أرض الميعاد" التي جلبت لنا الويلات:
يا إلهيكم يعذبنا المقدس حين نستهوي الخطيئةكم تعذبنا الخطيئة حين يسكننا المقدس"ص54
ويشكك الشاعر في صحة المعتقد الديني للآخر الذي من خلاله يحكم سيطرته وغطرسته على القدس فيقول:
" ان الشك مبتدأ الحقيقةواكتمال الرمز في المعنى المقدسها انا وحدي هنابيني وبين القدس إصبعتين أو أدنى قليلافي يدي مفتاح عاصمة السماء ص54.
ويستعيد الشاعر هنا قصة صلب السيد المسيح عليه السلام حسب المعتقد المسيحي، فيقول بأن القضية لم تتوقف عند ذلك، بل تعدته الى صلب شعب بأكمله:
كم صليبا بعدك يا يسوع الناصري هنالأحمله على كتفي وعدا بالخلاصرأيت نفسي ملء نرجسها وهاجسهااتكأت على بشارة مريم العذراءويحك يا يسوع ألم تخلصني؟بلى، لكنهم عادوا إليك ليصلبوني من جديد"ص55
ويلاحظ في هذه المجموعة أن الشاعر مسكون بالجليل الفلسطيني حيث يعيش، فهو يعرج على ذكره في أكثر من قصيدة.