الثلاثاء ٢٦ آب (أغسطس) ٢٠٠٨

يومٌ آخر.. غيابٌ آخر

بقلم: د. محمد هشام

يومٌ آخر شديدُ القسوة. فرحٌ آخر يُنتزعُ عنوةً. صوتٌ آخر يكف عن الإنشاد، وغياب آخر يسترجع وجوهَ مَنْ غابوا مِن قبل ومنْ يتربص بهم الغيابُ من بعد.

حزنٌ آخر يعيد طرحَ أسئلةٍ لا تُفضي إلا إلى غيرها:

لماذا يموتُ المبدعون من أمثال عبد الوهاب المسيري في هذا الوطن، أو في هذا الذي كان وطناً في زمان ما؟

هل هناك ما يشدُّهم إلى هذا الغياب، أو بالأحرى يسوقُهم إليه مرغمين؟ أم أنهم يجدون فيه ملاذاً من غياب آخر أشد وطأة وسط أشياء الحياة؟

هل يحتمون بموتهم الصغير من موتٍ لا قِبل لهم به يجتاحُ الوطنَ بأسره ويعصفُ بصورتِه فيهم أو بوجودهم فيه؟

أم أنهم يُشهرون موتَهم احتجاجاً على تلكؤ الوطن في الإصغاء لأصواتهم والسير على هَدْي حلمهم؟

هل موتُ المبدعين على هذا النحو المباغت والمتسارع هو نذير باستمرار الموت العلني العام، أم أنه بشيرٌ بأن ثمة ما ينتظر الولادة؟

***
حزنٌ يومئ إلى ما سبق من أحزانٍ لم تهدأ تماماً، وإلى أخرى تتهيأ للمجيء.

لماذا تضيقُ هذه الرقعةُ من الأرض بهؤلاء الذين لم يكفوا عن منحها أبهى ما فيها:

نبيل الهلالي، جمال حمدان، أحمد بهاء الدين، رؤوف عباس، أحمد مستجير مصطفى.. وغيرهم.. وغيرهم؟

ولماذا ارتضت أن يكفَّ عن الإنشاد، بغتةً، هؤلاء الذين لم يبتغوا منها إلا أن تكون أفقاً حراً لنشيدهم:

أمل دُنقل، يحيى الطاهر عبد الله، شعبان مكاوي، محمد حاكم، حامد العويضي.. وغيرهم.. وغيرهم؟

ولماذا لم تكنْ أكثرَ صبراً مع هؤلاء الذين لم يعرفوا لخطوهم سبيلاً سوى حبها:

تيمور الملواني، أروى صالح، سهام صبري، سناء المصري، نزار سمك، أحمد عبد الله.. وغيرهم.. وغيرهم؟

تتزاحمُ الأسماءُ، ويتعبُ القلبُ من تدوين مَنْ رحلوا، ويفزعُ إذ يباغتُه السؤال: مَنْ تبقى لي لأفقدَه غداً؟

***
تُرى ماذا كان عبد الوهاب المسيري سيقول لو أُتيح له أن يفيقَ للحظةٍ من غفوته ويُطلَ على جنازته؟

ربما كان سيمدُّ يدَه ويجففُ دمع الباكين، ويشدُّ على أيديهم حانياً ومؤازراً، ويبادرُهم بنكتة من نكاته، أو يدل أعينَهم على الفريد والبهي فيما لا يبدو كذلك.

ربما كان سيمعنُ في النظر إلى وجوه أحبائه الساكنين في نسيجِ الرُوح: هدى حجازي ونور وياسر، ويقول:

منحتموني أغلى ما يمكنُ أن تمنحه أسرةٌ لربِّها: أن أكونَ كما شئتُ أن أكون. فشكراً لكم.

وربما كان سينفردُ بأحفاده: نديم وأدهم وصفية، ويقصُ عليهم حكايةً من حكاياته تصلُ أمسَهم بيومِهم وحُلمَهم بغدهم، وتقيهم وحشةَ الوجودِ في وطنٍ دون أن يكونوا منه.

ربما كان سيومئ بفرحٍ إلى تلاميذه.. هؤلاء الأبناء الذين لم ينجبهم، ولم يبخل عليهم، رغم ذلك، بأسمى معاني الأبوة.. ربما كانوا سيهمسون له:

تركتَ لنا كنزَ أعمارنا: حضوركَ فينا. فشكراً لك.

وربما كان سيهمس لهم:

لم تتركوا صوتَكم لقدَرَ الببغاء، ولم تتركوني لمصير الملقن التعيس أو الأيقونة المهملة. فشكراً لكم.

ربما كان سيتفحص الوجوه في حشود السائرين خلفه ومن حوله، ويقول:

غاب الذين ينبغي أن يغيبوا: من يمسكون برقابِ البلاد والعباد.. من يسرقون الفرحَ من عيون البسطاء بعد أن سرقوا صوتَهم ورغيفَهم وحلمَهم.. من لا يرون في الوطن إلا مرتعاً أو معبراً لجيوش الغزاة.. العابرون.. الغابرون.. الزائلون.. الزائلون.. الزائلون.

غابوا لأنهم ليسوا جديرين بالحضور لا في الزمان ولا في المكان، وإن طالَ مقامُهم وثقُلَ عتادُهم.

غابوا، فلن أكون مؤرَّقاً بامتنان زائف لمن لا يستحق.

وربما كان سيجولُ ببصره ويردفُ أيضاً:

حضرَ الذين أُحبُّهم جميعاً: القابضونَ على جمرِ الحقيقة.. الواثقونَ من صوابِ الحُلمِ.. السائرونَ على شوكِ دروبهم.. الثائرونَ على قبح أيامهم.. القادمون من البداهة.. الذاهبونَ إلى الملاحم.. الطيِّبونَ.. الزاهدونَ.. الثابتونَ..

حضروا، فلن أكون وحيداً.

***

لن تكونَ وحيداً..
هناكَ الذينَ رأوْا بين كفَّيْكَ
ما ينبغي أن يُرى
والذين اشتهوا في ضواحي نشيدِكَ
غيرَ الذي يُشتهى.
هؤلاءِ..
يعودونَ من آخرِ التُرَّهات إلى أوّلِ الرُوحِ
لا يتبعونَ الخُطى نفسَها، ربما
لا يمرُّون عبرَ دروبِكَ أبداً
ولا يصلونَ إلى المُنتهى، ربما
لا يرونَ تماماً، ولكنهمْ
يَنشُدونَ المسافةَ بين السؤالِ وظلِّ السؤالِ
ويبتسمونَ إليك.
بقلم: د. محمد هشام

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى