هل كانت فتنة دينية أم مؤامرة سـياسية غربيــة ؟!!
ألقيت هذه المحاضرة في شهر كانون الثاني 2006 في قاعة محاضرات بطريركية الروم الكاثوليك في دمشق
تأتي هذه الندوة في سياق موقف من التاريخ الإنساني: مفاده أن هذا التاريخ بكل محطاته الكبرى والصغرى، هو تاريخ خيّر، قد أنتج حضارات الشعوب، كما ساهم بفعل تراكمي للجهود والقدرات البشرية في تطوير نوعي للوجود الإنساني، تمثل في عصوره المتأخرة في إنتاج الإنسان للتكنولوجيا المذهلة . وإذا كانت الحياة الإنسانية قد اكتسبت خيراً من هذا الإنتاج، فإن من واجب الدارسين: إعادة النظر في موقفهم من أحداث تاريخ الإنسانية، والنظر إليها برؤيا أشمل في سياق هذه النتيجة الإيجابية التي تحققت وجودياً على يد الإنسان في أكثر من مكان .
دعا آباؤنا الروحيين إلى التأكيد على تمتين الوحدة الوطنية والأخوًة الإنسانية، فإن البحث في إيجابية الدور الوجودي للإنسان على تنوعه في المنطقة، تلتقي مع هذه الدعوة، والتي يرى الباحث أنها واحدة من القضايا التي يجب أن تعاد قراءتها، حتى يكتسب الوطن الغالي الصحة والعافية التامتين . كما تدعونا لفتح صفحة أحداث 1860 لنقرأها بموضوعية في ضوء هذه الإيجابية الوجودية للإنسان ، بما تتضمن من سياق دعوة ملحّة، لتمتين أواصر الوحدة الوطنية .
حتى لا يؤخذ ما يَرِد في هذه المحاضرة على غير المقصود منه، فإننا نرجّح بأن كل مشاريع الفتن والفوضى المصنّعة في الخارج والمصدّرة إلى منطقة ما، ما هي إلا مشاريع تهديمية همجية، لإنهاء وضع اقتصادي متميز لتلك المنطقة، ومثال ذلك موضوع بحثنا هذا .
لا زال هذا السؤال يشغل بالي منذ سنوات، ولقد دعوت في مقدمة الكتاب الذي ترجمته إلى اللغة العربية عام 2003م بعنوان تاريخ الفنون والصناعات الدمشقية " تأليف توفيق يوسف بولاد المتخصص بالتاريخ": إلى دراسة هذه الحوادث بتعمق، من الناحيتين الاقتصادية والسياسية، لأن معظم الكتب التي تناولتها غالبا ما قامت بعرض توصيفي للأحداث والمذابح بتفاصيلها اليومية والواقعية من الناحية الطائفية فقط، حيث لم يتعرض أحد حتى الآن في بحث تحليلي لأسبابها الخارجية والحقيقية، وأبعادها الدولية والاقتصادية، وإن أشار بعضهم بصورة سطحية عابرة تفتقد إلى البحث العلمي: إلى وقوف قوى خارجية طامعة وراء الأطراف المتنازعة.
إن الظروف الدولية والمحلية الساخنة التي تعيشها دول المنطقة اليوم وبالأخص العراق ، لبنان ، سوريا كحصيلة للتبدلات في الهيكلية الإقتصادية للدول الطامعة.... تدفع أكثر لإعادة السؤال الذي أشرت إليه في الفقرة السابقة راغباً في عرض وجهة نظري بقليل من التفصيل راجياً أن تكون كورقة بحث، يغنيها المتخصصون بالتاريخ والمهتمون بأحوال وتاريخ وحاضر ومستقبل هذه المنطقة ، من أبنائها أولاً، ومن الباحثين الأجانب ثانياً .
أرى أن حوادث 1860م في لبنان ودمشق ، تعتبر مفصلاً تاريخياً أساسياً، ساهم في صياغة السياسة الخارجية الغربية حتى اليوم، وربما لأحقاب أخرى !! . فقد تكرر ظهور هذه السياسة بصيغها وعواملها المفتعلة وحيثياتها، وجرى التذرع بمفاعيلها لتبرير العديد من التدخلات الأجنبية إلى يومنا هذا.
وهنا يمكننا إيجاز الغاية والهدف والوسيلة من وراء إثارة الفتن والحروب الدينية والطائفية بثلاثة بنود:
القضاء بأسرع ما يمكن، وبأي ثمن على أية خطوة تقوم بها شعوب هذه المنطقة للمضي قدماً نحو تحقيق نهضة اقتصادية حضارية صناعية، مثال ذلك محاولة محمد علي في مصر واعتماده على نشاط السوريين وخبرتهم في مشروع نهضته، حيث كانت سوريا هي العمق السياسي الاقتصادي لمشروعه النهضوي الذي كان يمس بتوجهاته سلباً من جهة مقابلة المصالح الاقتصادية للدول العظمى آنذاك حيث كانت سوريا بوابة الشرق، مما أدى ذلك لاحقا إلى تفجر حوادث العام 1860م في لبنان ودمشق لإنهاء الواقع الاقتصادي المتميز الناشط لتلك المنطقة السورية في تلك الفترة. ففي البداية كان القضاء عسكريا على تلك المحاولةً، أما في المرحلة اللاحقة فقد تم ذلك من خلال مؤامرة دُفع أبناء الشعب الواحد لتنفيذها من خلال التقاتل فيما بينهم. وقد تم الإعداد لها بسرية تامة، بحيث يظهر الجلاد فيها بمظهر المنقذ. وذلك بغرض احتكار الغرب للمادة الأولية وتجارتها وصناعتها، التي هي الأساس المادي لقيام النهضة الصناعية في القرن التاسع عشر ، "الحرير" سابقاً و"النفط" حالياً .
وكانت الوسيلة الدائمة لتحقيقها: هي نشر وتشجيع القلاقل والإضطرابات في المناطق المستقرة المنتجة، وتمويل الحروب الدينية والعرقية والطائفية، وقد اقترب اليوم الكثير من الباحثين والسياسيين إلى هذه القناعة، بعد أن تبينوا حقيقتها، ورأوا نتائجها الكارثية أمام أعينهم، ولكن بعد خراب البصرة كما يقول المثل ! .
إن ما أورده المؤرخون السياسيون في كتاباتهم وأبحاثهم، لم يتعمق في الأسباب الحقيقية لتلك الحروب، بحيث كان تصديهم لدراستها تشوبه السطحية، مما أدى إلى جعل نتائجها إما ناقصة أو متأخرة، وهذا ما جعل الرؤية لهذه المواضيع متعثرة قادتنا من فشل إلى فشل أكبر .
نعود لسؤالنا الكبير عن حوادث 1860م في لبنان ودمشق .
– جاء في قاموس الجغرافيا القديمة والحديثة المطبوع في باريس عام 1854م تأليف ميساس وميشلو إصدار مكتبة هاشيت، في الصفحة /269/ حول مدينة دمشق:
((إنها المدينة الأكثر أهمية والتي تأتي في المرتبة الأولى في الصناعة في الشرق كله، فقد أعطت اسمها للمنسوجات الحريرية، والتي يأتي الغرب للبحث عنها وشرائها. كما أنها تتاجر بالأسلحة الفولاذية ذات النصال القاطعة، وتتاجر أيضاً بالأصداف وأنواع متعددة من الحرير، وماء الزهر، كما تمر بها القوافل إلى حلب وبغداد وتتجمع فيها قوافل الحجاج))
في كتاب "تاريخ الفنون والصناعات الدمشقية" يقول المؤلف في الفصل السابع صفحة 105:بأن صيدا التي لا تبعد كثيرا عن دمشق، وكانت مرفأ دمشق التجاري والمدينة الرئيسة الأولى بمكانتها الاقتصادية في بلاد المشرق حتى العشرينات من القرن الماضي، وأن كافة منتجات دمشق الجميلة والثمينة من الأقطان والأقمشة الحريرية والأجواخ التي ينتجها ويصنعها الدمشقيون بكميات كبيرة، تُصدَّر عن طريق مرفئها إلى مصر وأوروبا. وفي الصفحة 70 من نفس المصدر ونقلاً عن "ألفريد مارتينو" في كتابة التجارة الفرنسية في الشرق 1902 نقرأ :"بأن فرنسا كانت تستورد كامل الكمية الفائضة من إنتاج ورشات الحرير المحلية بدمشق وذلك بعد تلبية هذه الورشات حاجة الأسواق المحلية، وحاجة تجارها ..
في كتاب "لفرانسوا بيرنو،طرق الحرير، إصدار أرتيميس" صفحة 185-186 نقرأ : "أُصيبت صناعة الحرير في فرنسا في منتصف القرن التاسع عشر بكارثة كبيرة، فقد أصاب مرض خطير دودة الحرير فيها، وكذلك أصاب المرض نفسه دودة الحرير في الصين في وقت كانت فرنسا تستورد نصف حاجتها من الحرير الصيني عن طريق وسطاء تجاريين دمشقيين، فارتفعت أسعار الحرير بشكل جنوني في السوق العالمي. ويقول المؤلف بأن فترة الأزمة امتدت من عام 1845م حتى عام 1869م. (ونلفت نظر المستمع هنا بأنها الفترة ذاتها التي جرت ،بين تاريخيها، الحوادث الطائفية في لبنان ودمشق ) مما أثر هذا على أسعار الحرير المستورد إلى ما بعد افتتاح قناة السويس عام 1869م لاحتكار فرنسا تجارة الحرير باحتكارها القناة، بحيث انتقل هذا الارتفاع في الأسعار إلى أسواق أوروبا كلها، كما زاد الطلب على هذه المادة خلال الحرب العالمية الأولى في الأسواق الخارجية، كان دافعا إضافيا لفرض الانتداب على سوريا ولبنان كمنتجة أساسية لهذه المادة، وكمنطقة استراتيجية تتحكم بطرق التجارة العالمية .
ومما سبق نخلص إلى الاستنتاجات التالية:
1- قبيل عام 1860م صارت دمشق تشكل أكبر مركز صناعي لانتاج الحرير والاتجار به في العالمً بالإضافة لصناعة بقية أنواع الأقمشة والمنسوجات. وهذه النهضة الصناعية كانت تتطور وتواكب آخر التطورات التقنية الصناعية العالمية في ذلك الوقت، أي نظام الجاكار الميكانيكي الذي كان أول من أدخله إلى دمشق في خمسينات القرن التاسع عشر " الصناعي حنا بولاد وأخوته المشهورون بإنتاج "حرير البولاديّة" وذلك بغية زيادة الإنتاج كماً ونوعاً . هذه النهضة الصناعية واكبها ازدهار تجاري واقتصادي كبير وتوسيع للأسواق ( تصدير الأقمشة الحريرية الدمشقية إلى القدس ومصر ودول مثل تركيا وإيران وحتى إلى أوروبا نفسها ) . وكانت مادة حرير الخام متوفرة بأسعار زهيدة في دمشق، لقربها من مراكز الإنتاج، بما لذلك من أهمية اقتصادية انعكست على رخص وجودة الإنتاج الدمشقي اكسبته شهرة عالمية ودفعت إلى زيادة الطلب عليه، وقد ساعد في هذا أيضا وجود مرفأ صيدا التجاري وقربه من دمشق، كل هذا ساهم في عملية الازدهار الاقتصادي لأبناء هذه المنطقة وأنتج التوسع الصناعي والتجاري لدمشق .
ولابد من الإشارة هنا وهو بيت القصيد في هذا البحث، وما يتم التعتيم عليه دائماً مع الأسف: إلى أن هذه الصناعة وهذه النهضة الاقتصادية كانت بمعظمها بأيدٍ مسيحية دمشقية (راجع كتاب "تاريخ الفنون والصناعات الدمشقية" وأيضاً قاموس الصناعات الشامية للشيخ ظافر القاسمي وغيرهم ... )، ذلك أن نهضة العديد من الصناعات والفنون توارثتها عبر قرون العائلات المسيحية الدمشقية أباً عن جد، وكانت خبرتهم تنعكس إيجابياً على جودة ونوعية هذه المنسوجات مما جعل القاموس الفرنسي يتحدث عن دمشق كأول مدينة صناعية في الشرق بمنسوجاتها الحريرية التي كان الغرب دائم الطلب عليها. كذلك لابد من الإشارة إلى أن هذه الصناعة وخصوصاً الحريرية، كانت متمركزة في الحي المسيحي في مدينة دمشق وهو الحي الذي استهدفته حوادث 1860م بالذات بأدوات إنتاجه وحرفييه الاختصاصيين.
2- في الطرف المقابل، أي في الغرب شكَّل المرض الذي أصاب دودة الحرير في فرنسا والصين أواسط أعوام الأربعينات من القرن التاسع عشر أزمة كادت أن تؤدي إلى كارثة اقتصادية حقيقية في هذا القطاع، إذا استمر انقطاع تأمين الحرير كمادة أولية لمعاملها. ومن المعلوم أن المكان الوحيد الذي نجا من هذه الجائحة إنما كان هو في ذلك الوقت لبنان وسورية .
إن دمشق بورشاتها الكثيرة، ومعاملها التي بدأت بتطبيق نظام الجاكار الميكانيكي كانت تكفي لاستيعاب كامل الإنتاج من الحرير المزروع في لبنان وسورية وحيث بات إنتاجها ذا نوعية ممتازة وأسعار معتدلة، مما جعله مطلوباً عالمياً، ومن الممكن مراجعة كافة كتب الرحالة الذين زاروا لبنان وسورية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر؛ منهم على سبيل المثال الشاعر "لامارتين" والذين عبَّروا عن دهشتهم لتنوع ورخص المنسوجات الحريرية وجودتها خصوصاً في أسواق دمشق .
وباتت هذه المنطقة أي سوريا، منافسة قوية للغرب بأهم صناعة في القرن التاسع عشر، وهي صناعة المنسوجات الحريرية، وأصبحت تشكل خطراً حقيقياً على صناعة الغرب واقتصاده، حيث أن المادة الأولية لهذه الصناعة التي فد سلمت من الآفات كانت موجودة فيها فقط في ذلك الوقت ، بحيث أنه لو استمرت الأحوال على ما هي عليه، وأدركت سوريا بمحيطها العثماني مركزها القوي باستغلال الحاجة الغربية لمادة الحرير فإنها كانت ستصبح الأقوى اقتصاديا ولكانت سيطرت على الأسواق الأوروبية والعالمية لسنوات طويلة، وبخاصة عندما يتم تطوير تصنيعها كماً ونوعا، ولكن الدولة العثمانية آنذاك كانت " الرجل المريض" الذي تسيطر عليه السفارات والقناصل الأوربية وتتدخل في كل صغيرة وكبيرة تتعلق بأمور السلطنة من الأحكام القانونية الى تعيين الولاة خدمة لأغراضها.
وإذا راجعنا كتب التاريخ التي تتحدث عن منطقتنا ، فإنها كانت تشير دائما وتؤكد على أننا متخلفون حضارياً كما تتحدث عن الصراعات الدينية والطائفية والحزبية ، وهذا ما كان يسجّله دائماً الرحّالة عند زيارتهم للشرق، ولكنهم كانوا يتحدثون في الوقت نفسه وبعد تصوير حالة التخلف هذه بما يناقض ما سبق، عن الصناعات الحريرية الفاخرة وعن الغنى والتنوع الصناعي، وغيرها من الصناعات الموجودة في أسواق دمشق وحلب !!! ... وكذلك عن رخص هذه المنتجات .
من هذا الواقع التاريخي الخطير جاء التخطيط الغربي لحوادث 1860 في لبنان ودمشق وعلى أعلى المستويات السياسية والاقتصادية، حيث رُصدت له الميزانيات الضخمة وجرى إعداد سيناريو المذابح والأماكن المقصود تدميرها والجهات المنفذة لها (( من الغوغاء ، وضعاف النفوس والمتآمرين )) وعن طريق بث الإشاعات الدينية وتأجيج نزعاتها. ولكن المسلمين المتنوّرين وعَوا تلك المؤامرة ، وحموا إخوانهم المسيحيين ( راجع كتاب " تاريخ الفنون والصناعات الدمشقية " وثيقة شاهد عيان آخر الكتاب ) .
والمؤسف، أن معظم المؤرخين، غربيين وشرقيين، لم يدركوا أن الهدف من وراء تلك الحوادث كان تأمين الحصول على الحرير، واستهداف الصناعة السورية، وتقويض النهوض الحضاري لها والقضاء عليه، وفي تقديري أنه لو تم تلافي وقوع تلك الحوادث لكنا اليوم، بكل تأكيد، كما في الماضي دولة صناعية كبرى في مجال المنسوجات، وفي مجالات صناعية أخرى، وكنا دولةً لا تقل أهمية عن أية دولة أوروبية !! ولكن حدوثها جعلنا دولاً استهلاكية تعتمد على الاقتصاد الغربي الذي كنا على قدم المساواة معه حضارياً آنذاك !!
إن هجرة وتهجير الطبقة البرجوازية الصناعية في دمشق وحرفييها وهي في غالبيتها من العائلات المسيحية بعد حوادث عام1860 وما جرته من ويلات على جميع الصعد تناولت الشرائح النخبوية وما تحمله من خبرة وتراكم حضاري يساعدها على الابتكار، جعل من الصعب علينا أن نتمكن من تأسيس نهضة حضارية صناعية حقيقية علماً بأن الأمر قد تكرر بعد ذلك ولكن بأسلوب آخر، في فترة ما بعد الاستقلال (1945- 1958)!!!
وبالعودة إلى تلك الفترة /1840 -1870م/ فلقد ارتفعت أسعار الحرير كثيراً نتيجة الطلب الخارجي عليه، وقد تم فرض ضرائب إضافية من قبل الحكومة العثمانية مما انعكس سلباً على الصناعيين الدمشقيين وخلق بلبلة وتفاوتاً بأسعار البضائع، وقد دفع ذلك ولأسباب أخرى غير خافية على أحد، منها أن كثيراً من الفرنسيين والغربيين قد استوطنوا لبنان ودمشق وأسسوا مراكز لزراعة الحرير وصناعته وذلك لتأمين هذه المادة لمصانعهم في بلدانهم دون اللجوء إلى التجار السوريين واللبنانيين ! ويذكر لنا بهذا الصدد فرانسوا لو نورمان كشاهد عيان في كتابه (( الحوادث الأخيرة في سورية 1860 )) العديد من تلك المراكز التي أنشأت في جبل لبنان وغيرها من المدن والقرى اللبنانية.
لقد طلبت الحملة العسكرية الفرنسية التي أتت إلى بيروت في عام 1860م من البطريرك الماروني ومن البطل يوسف بيك كرم، الذي كان يدافع عن حقوق الفلاحين الذين يزرعون دود القز لإنتاج الحرير أن تنقل بعض الفلاحين على متن بوارجها للإقامة في بلاد الجزائر حيث تؤمن لهم الأراضي الزراعية الخصبة هناك ليمارسوا زراعتها تحت حكم الفرنسـيين!!.
فجاء الرفض قاطعاً. من الواضح أن الغاية تمثلت في جعل زراعة دود القز لصناعة الحرير أقرب وأرخص لهم من سواحل لبنان وجباله !! . بعد 115 سنة على هذه الحادثة تكرر الأمر وهذه المرة من الأمريكان ولنفس الغاية متمثلة بنقل المسيحيين اللبنانيين على متن البوارج الأمريكية إلى أمريكا وكندا واستراليا...
نعود لنسأل هنا: هل كان الهدف من تلك الحوادث هو الحرير فقط ؟ لا شك أن هناك أهداف أخرى . منها :
1- استهداف وضرب القاعدة الاقتصادية النشطة في دمشق وبنيتها الصناعية التي كان المسيحيون الدمشقيون يحتفظون بها في أحيائهم حيث رأى الغربيون أنها المنافسة الحقيقية لصناعتهم لأنها تستخدم مادة الحرير التي يريدونها رخيصة ولمعاملهم فقط !! .
2- القضاء على أمهر الصناعيين والحرفيين وعلى ورشات عملهم ومنازلهم ، حيث كان معظمهم من المسيحيين الدمشقيين وكان التركيز في هذه الحوادث على ورشات آل بولاد التي كانت تسخدم النظام المتطور للجاكار الميكانيكي لزيادة الإنتاج كماً ونوعاً ( راجع كتاب تاريخ الفنون والصناعات الدمشقية عموماً والصفحة 173 خصوصاً ) .
3- تهجير من تبقى من المسيحيين ممن أحرقت أحيائهم وبيوتهم وورشات عملهم والذين تجمعوا في قلعة دمشق، حيث رُتِّبت القوافل لنقلهم إلى بيروت ثم مصر وفرنسا، وقد كانت كل قافلة تتألف من حوالي ثلاثة آلاف شخص ( راجع نفس المصدر صفحة 267-276 ) بحيث لا يستطيعون العودة إلى مدينتهم التي عاشوا فيها آلاف السنين، لما يحملون من ذكريات أليمة عن أحداث استهدفتهم، لم يعرفوا من كان ورائها، ولصعوبة البدء من جديد بأعمالهم وخوفهم من تكرار تلك الحوادث، إذ أن أول منـزل شُيّد من جديد في الحي المسيحي كان بعد مرور أربع سنوات على هذه الأحداث أي في عام 1864م .
4- نتيجة تلك الحوادث نجحت المؤامرة وتم القضاء على بذور المنافس الحقيقي للاقتصاد الغربي كما تم الاستحواذ على المادة الأولية ( الحرير ) بكل سهولة وفُتحت الأسواق السورية على مصراعيها أمام البضائع الأجنبية. وكان لا بد أمام تدفق البضائع الأجنبية من إحداث مصارف خاصة تسهل القروض للمزارعين واستيفاء الديون ، وتحويل ثمن المنتجات الغربية إلى أصحابها في الغرب . مما أفضى الى تضاعف الاستهلاك من البضائع المصنعة الغربية و بذلك ارتبط الاقتصاد السوري على المدى البعيد بالاقتصاد الغربي، فأقامت بعض المصارف مثل " بنك سيوفي وصباغ وبنك أصفر وبنك زلخا وبنك ساره ... " بتسهيل ذلك وهكذا تحوَّل عمل بعض من تبقَّى من المسيحيين من الانتاج الصناعي الذين كانوا يسعون إلى إقامة نهضة صناعية تنافس مثيلتها في أوروبا إلى القيام بأعمال السمسرة والتجارة المالية....!! .وإلى مكافأة المنفذين للاضطرابات وأعمال الشغب والمذابح بالتوكيلات التجارية.
كما أن افتتاح بنك" كريدي ليوني" عام 1875، اول فرع له في الأمبراطورية العثمانية قد ساهم مساهمة فعالة في نشر النفوذ الفرنسي في مناطق الشرق الأدنى، وكان له فرعان في سورية منهما فرع في بيروت، لعب دورا مهما في ربط صناعة وتجارة الحرير في سوريا بصناعة مدينة "ليون" الفرنسية.
إن الارتباط الاقتصادي الناتج عن تلك الحوادث قد مهّد في المستقبل القريب إلى احتلال سياسي وعسكري لسورية ولبنان وغيرهما من البلدان العربية تحت عناوين مثل "الانتداب" أو "الحماية" بحجة أن هذه البلاد غير مهيأة لمواكبة التمدُّن والتقدُّم الحضاري والصناعي !!! .
– ولضرب أي أمل بعودة الترابط الاقتصادي والصناعي بين لبنان ودمشق وبلاد حوض البحر الأبيض المتوسط من بلاد عربية وأجنبية قام الانتداب الفرنسي بخلق " لبنان الكبير " عام1920 كحاجز جغرافي سياسي واقتصادي بضم ميناءي صيدا وطرابلس لهذا البلد الجديد بالإضافة إلى الأقضية الأربعة وسهل البقاع وهي المناطق الإنتاجية النشطة والغنية المحيطة بجبل لبنان المحدود الموارد باقامة نظام سياسي فيه يعكس الوضع الطائفي السيادي للجبل بتخلف نمطية علاقاته المجتمعية والسياسية على لبنان والمنطقة،كما أشار إلى ذلك الأستاذ سليم محسن في إحدى مقالاته. وقام الانتداب بإيجاد حدود مُصطنعة تحرص على فك الروابط الاقتصادية بين البلدين بهدف خنق دمشق والداخل السوري بقطع صلته بمناطق إنتاج الحرير وأسواقه بالمنافذ البحرية المتمثلة بصيدا، بيروت، طرابلس التي لم تزل قائمة حتى اليوم .
– وبالعودة إلى كتاب فرانسوا لونورمان الآنف الذكر ، عن تلك الحوادث في سوريا في صفحة 28-29 يروي : كيف أنه زار القرى اللبنانية التي أتت عليها الحوادث ، حيث زار قرية حمّانا اللبنانية ولاحظ بأنها قد دُمِّرت بكاملها ما عدا مبنَيين لاستخراج خيوط الحرير ، وعندما سأل الحرس الموجود على مدخلهما : لماذ لم يلحق بهما أذى ، في حين أن جميع المباني الأخرى قد أُحرقت ، جاءه الجواب بأن ملكيتهما تعود لرجل فرنسي يدعى السيد "بيرتران" وقد جاءتنا الأوامر بأن لا نتعرض لهما!!؟؟…
ومن جملة الحوادث التي ذكرها الكتاب يشير إلى تعرض كبار تجار الحرير للقتل مثل " بشارة صوصه " من لبنان و "آل المسابكي" من دمشق ! وقد جاء أيضاً في الصفحة 137 أن مراقبين لتلك الحوادث وممن عايشوها ومنهم السيد " روبسون " قد أفادوا أن الوالي الذي كان تحت إمرته أكثر من /600/ عنصر من الجيش العثماني كان بإمكانه وقف تلك الحوادث لو أمر /50/ عنصراً فقط بإغلاق مدخل الأحياء المسيحية بدمشق لكنه لم يفعل ! وفي الصفحة 140 يقدّر صاحب الكتاب عدد الضحايا من المسيحيين ما بين عشرة آلاف إلى أحد عشر ألف شهيد ، بالوقت التي تقدر به بعض الاحصائيات عدد سكان دمشق في تلك الفترة قبل الحوادث بمائة ألف نسمة منهم عشرون ألف نسمة من المسيحيين . بعد أعوام لا تتعدى الأربعة من هذه الحوادث قام أحد المصورين ويدعى " بيدفور " بتصوير الحي المسيحي الذي كان لا يزال آنذاك في حالة خراب شامل ( لقد تم نشر هذه الصور في كتاب ظهر عام 2000م بعنوان مصورون في دمشق 1840-1918م لبدر الحاج في الصفحة /30-33-34/ .
إن قراءة هذه الوقائع الجزئية في ضوء الأصل الذي أرسته المحاضرة لفهم حوادث 1860 يكشف دلالات هذه الأفعال كلها وأنها أرادت تدمير هذه النهضة الصناعية التي كانت تشهدها مدينة دمشق في صناعة الحرير والتي كان الدور المسيحي فيها دوراً بارزاً ، وأنه لا يجوز تضخيم خصائص الفتنة الطائفية التي استخدمت أداة لها حتى لاتحجب هذا الأصل .
ومن هنا نتساءل مرة أخرى عن سبب استهداف الحي المسيحي في " القيمرية " ولقبها " الهند الصغرى " الذي يقع داخل السور، ولم يتم استهداف الحي المسيحي في نفس المدينة في حي الميدان ؟! إننا نرى أن السبب يعود إلى أن المسيحيين في حي الميدان كانوا يتعاطون تجارة الحبوب !! أما في حي القيمرية فكان المسيحيون فيه يتعاطون صناعة وتجارة الحرير !! وكانت تُقيم فيه الطبقة البرجوازية الصناعية التجارية !! ، كما نتساءل أيضاً : إذا كانت تلك الحوادث بسبب الفتنة الدينية فلماذا لم تنتقل إلى مدنٍ أخرى كحلب وحمص وحماة؟؟ لم يحصل ذلك في رأينا لأن الهدف المحدد والمرسوم من قبل المخططين للحوادث والمذابح كان تدمير المركز الصناعي والتجاري في دمشق فقط !! ...
من المُلفت للنظر أيضاً أن الرأس المنفذ للمؤامرة وهو والي دمشق العثماني : " أحمد باشا " قد أُعدم مباشرةً أيضاً " وبلا محاكمة " ؟؟!!! وهو الذي قيل بأن تعيينه والياً على دمشق قد جاء إثر مساعٍ لإحدى السفارات الأجنبية في استانبول ؟؟!!! لم تُجرِ له أية محاكمة في حين أن الذين قتلوا البادري توما الكبوشي اللاتيني عام 1840م وعددهم على الأكثر عشرة أشخاص قد أعدت لهم محاكمة دامت شهوراً وتدخلت دول غربية عديدة لإبطال تنفيذ الأحكام الصادرة بحقهم ومنها " فرنسا وإنكلترا والنمسا ...؟!
نسأل :لماذا لم تجرِ محاكمة عادلة وعلنية لمنفذي فتنة 1860م ؟؟! الجواب بعد هذا العرض الذي قدمناه
لا يحتاج إلى عناء التفكير والبحث !! إننا نقول بكل ثقة : لقد تم ذلك حتى يبقى السر مكتوماً حول تلك المؤامرة الدولية الكبرى ويبقى التعتيم عليها إلى اليوم أمام شعوب المنطقة ..... وربما لقرون أخرى !؟ ...
وقد جاء في كتاب" دمشق في القرنين 18- 19 م تأليف ليندا شيلشر صفحة113 طباعة1998" ما يلي: ستظل حوادث 1860 الطائفية موضوع بحث طالما بقيت محاضر تحقيقات "فؤاد باشا" غير متاحة ذلك أنه يكاد أن يكون من قبيل المستحيل القيام بدراسة مستفيضة للأسباب الكامنة وراء أعمال الشغب وأثنائها، دون الرجوع إلى هذه الوثيقة الأساسية.
المراجــع :
تاريخ الفنون والصناعات الدمشقية تأليف يوسف توفيق بولاد ترجمة وإعداد إلياس بولاد دمشق – مطابع ألف باء – الأديب – 2003م .
بلاد الشام في القرن التاسع عشر – دراسة وتحقيق الدكتور سهيل زكّار نشر وتوزيع دار حسان للطباعة والنشر دمشق – 1982م – طبعة أولى .
استشهاد البادري توما الكبوشي وخادمه إبراهيم أمارة – دمشق 1840م مطبعة القديس بولس – حريصا – لبنان .
المراجع الأجنبية :
LES DERNIERS EVENEMENTS DE SYRIE 1860
PAR FRANCOIS LENORMANT PARIS CH DOUNIOL EDITEUR.
DICTIONNAIRE DE GEOGRAPHIE . ANCIENNE ET MODERNE PAR MM. MEISSAS ET MICHELOT ET CIE PARIS LIBRAIRIE HACHETTE 1854 .
LES ROUTES DE LA SOIE - PAR FRANCOIS PERNOT ARTEMIS .