من ذاكرة حرب ١٩٦٧
كنت على أبواب العاشرة من عمري عندما أعلنت إسرائيل الحرب علينا، فاحتلت ما بقي من فلسطين، والجولان، وسيناء، كانت الهزيمة التي لا تنسى. ورغم صغري إلا أنني أذكر أيام الحرب كأنني أعيشها اليوم، وأتذكر كثيرا من أحداثها داخل البلدة القديمة من القدس حيث كنت أسكن مع العائلة في ما كان يعرف آنذاك بحوش الغزلان الذي يمتد من باب السلسلة حتى سور القدس ما بين باب القلعة، وباب المغاربة، في بيت مملوك لشخص يدعى عبد العزيز الرجبي على ما أذكر، وزوجته المصرية وكانت تدعى (سيدة) حيث كانت مشهورة بين نساء الحارة لطولها، ولهجتها المصرية المميزة.
أكثر المشاهد إثارة في تلك الأيام أنني كنت أشاهد تسليم السلاح للمتطوعين قبل اندلاع الحرب بساعات وأثناءه في باب السلسلة القريب من بيتنا في محل لشخص من عائلة سرندح، وكان التوزيع علنا من الحكومة الأردنية حيث كان يقدم للمتطوع بارودة من تلك الأيام تصلح اليوم لصيد العصافير، وأمشاط من الرصاص كانوا يطلقون عليه الفشك يضعه المتطوعون على صدورهم مثل قلادة النصر، فيسيرون به متباهين بما يحملونه كأنهم على أبواب النصر. كل هذا كان يحدث في تلك الأيام في حين كانت قوات الأمن الأردنية قبل أقل من عام أي في عام ١٩٦٦ قد داهمت بيت شخص من عائلة بركات في آخر حارتنا أعتقد اسمه صائب كان من فدائيي فتح، واعتقلته بتهمة حيازة أسلحة لحركة فتح، وقد تعرض للتنكيل الشديد على يد نفس قوات الأمن التي صارت توزع السلاح للدفاع عن البلد في اللحظة الأخيرة.
كنت أشاهد بعض سكان الحارة يحملون السلاح ذاهبين نحو نقاط الاشتباك التي لم تكن تبعد عنا أكثر من ثلاثمئة متر حسب تقديري فقد كانت نقطة التماس عند سور القدس من جهة باب القلعة المحاذي للحي الأرمني حيث نصب الجيش الأردني قبل الحرب بأيام نقاط دفاع لصد الطائرات الإسرائيلية المعتدية وكانت عبارة عن برن (سلاح قديم يشبه الرشاش)، وعلمت أثناء الحرب أن الطائرات الإسرائيلية قد أغارت عليهم منذ الدقائق الأولى فحولتهم إلى رماد.
كان المتطوعون مسرورين بسلاحهم الذي لم يستخدموه من قبل، ولا يعرفون شيئا عنه، وكان معظمهم أميين لذلك كانوا يذهبون لساحة المعركة مشيا على الأقدام فلم تكن بعيدة عنا، ويعودون بعد ساعات ليحدثوننا عن سير الهزائم، كأنهم يحكون لنا قصة ألف ليلة، وليلة، فطائرات العدو، ودباباته كانت تحصد الأشراف منهم الذين كانوا يتصدون للعدو ببسالة. الشيء الذي ما زلت أذكره تماما أن بعض المتطوعين للأسف كانوا يعودون دون أن ينقص الفشك المعلق على صدورهم طلقة واحدة، فكنت أتساءل وهم يحدثون النسوة عن بطولاتهم، لماذا بقي الرصاص معلقا على صدورهم؟
صوت طائرات العدو كنا نسمعه ليل نهار، وما أن صارت دبابات العدو على أبواب القدس حتى صار الأهالي يستمعون لصوت إسرائيل باللغة العربية الذي كان يدعو الأهالي الذين يحملون السلاح أن يسلموا سلاحهم بأن يلقوها في الشوارع، وفي اليوم التالي كنت كطفل أشاهد مئات قطع الأسلحة، الرصاص، خوذات الجيش، وغيرها ملقاة على جانب الطريق تنتظر من يحملها. كان العمل الفلسطيني المنظم غائبا، ولا أحد يرشدهم بأن يخفوا السلاح للمقاومة اللاحقة.
وكان الناس منقسمين من بين من يريد السفر للأردن هربا من بطش الاحتلال، وهؤلاء كانوا قلة قليلة جدا في القدس، وآخرين قرروا الصمود هناك. في حينا حوش الغزلان لا أتذكر أن أحدا سافر نحو الأردن. في اليوم الأخير من الحرب طلب منا والدي أن نهيئ أنفسنا للذهاب للمسجد الأقصى القريب منا كما فعل كثيرون من السكان للاحتماء به من بطش جنود الاحتلال، كانت أمي تحمل طالب أخي الذي لم يتم العام بعد، ومعي أخ آخر، وأخت، كلهم أصغر مني سنا، وعندما وصلنا باب السلسلة التقى والدي مع صديق له لا أذكره حيث نصحه بالعودة للبيت لأن جنود الاحتلال دخلوا بعض البوابات من القدس القديمة، ولأن المسجد الأقصى كان ممتلئا بالمواطنين، واقتنع والدي منه، فعدنا للبيت ننتظر جنود الاحتلال الذين كانوا في اليوم التالي يعتلون أسطح البيوت العالية، ويراقبون حركة كل واحد منا، وينكلون بمن لا يعجبهم.
بعد أيام سمعنا أخبارا منقولة عن الذين نزحوا، أو هربوا باتجاه الضفة الشرقية من النهر، أن طائرات العدو كانت تلاحقهم، تبحث عن الجنود الذين يلبسون زيهم الرسمي بين المتجهين نحو الضفة الشرقية فتوجه طلقاتها نحوهم ليستشهدوا على الفور رغم أنهم كانوا بدون سلاح، ومنسحبين بأمر قيادتهم. فامتلأت الطريق بالشهداء الذين لم يستطع أحد حمايتهم أو دفنهم في تراب الوطن حيث تركوا تلك المهمة لجيش الاحتلال عندما أحكم قبضته على ما تبقى من فلسطين.