السبت ١٠ شباط (فبراير) ٢٠١٨
رُؤى ثقافيّة «294»
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

آياتُ التِّهامي (بين المتنبِّي وخصومه)!

في جدل الشاعر مع الجماهير تَحدَّثنا في مقالٍ سابقٍ عن موقف الشُّرَّاح وبعض النقَّاد من أحد أبيات (أبي الطيِّب المتنبِّي)، وهو قوله:

يَتَرَشَّفْنَ مِنْ فَمِيْ رَشَفَاتٍ
هُنَّ فيهِ أَحْلَى مِنَ التَّوْحيدِ

وما أنكروا عليه من المفاضلة بين قُبلات النِّسوة «اللاتي قطَّعن أيديهن» من حبِّه وبين عقيدة «التوحيد»، بل تفضيل القُبلات على العقيدة. وما تنقضي تلك المآخذ التي يراها المتلقُّون على شِعر الشُّعراء، ولا تقف عند حدٍّ معلوم.

قال صاحبي: وإليك ما جاء حول (فكرة الدَّهر). أ لم يقل الرسول الكريم «لا تَسُبُّوا الدَّهر، فإن الله هو الدَّهر»(1)، أي أن الله هو المتصرِّف، والمبدئ والمعيد؟ فما بال (المتنبِّي)(2) يقول:

ولَولا أَياديْ الدَّهرِ في الجَمْعِ بَينَنا
غَـفَـلنا فَلَم نَشعُـــرْ لَهُ بِذُنوبِ
ولَلتَّــرْكُ لِلإِحســــانِ خَـيــرٌ لِمُحسِــنٍ
إِذا جَعَلَ الإِحسانَ غَيرَ رَبيبِ

فإمَّا أن يكون قائل هذا دهريًّا، يؤمن بما قاله الدَّهريُّون: «وقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ ونَحْيَا ومَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْر»، [الجاثية: 24]، وعندئذ يكون كلامه السابق مقبولًا من معتقدٍ مثل عقيدته، أو أن يتقبَّل إنكار المنكرين عليه في ما قال. ذلك أن المؤمن بالله، المجلَّ لأقداره، لا سلطان لديه للزمان، في ذاته، ولا فعل له في الحقيقة، وسيبدو مثل كلام المتنبِّي هذا اعتراضًا على الله لا على الدَّهر؛ فالأدب مع الله كان ينبغي أن يَحُوْل بينه وهذا الهذيان من أجل تعزية (سيف الدَّولة الحمداني) في موت عبدٍ من عبيده.

ــ قلتُ: هَوِّن عليك، هو شاعر، وليس بناسك، وإنما الأعمال بالنِّيات. ونَهْيُ الرسول عن سبِّ الدَّهر، هو بابٌ من أبواب التأدُّب، لا بابٌ في التكفير. وهو كلامٌ قائمٌ على المجاز، معناه: لا تسبُّوا الدَّهر، قنوطًا، ويأسًا من رحمة الله، فإن الله هو مصرِّف الدَّهر، لا بمعنى أن الله هو الدَّهر نفسه، تعالى عن ذلك. وقول أبي الطيِّب: «ولَولا أَيادي الدَّهرِ في الجَمعِ بَينَنا»، إنما يعني: ولولا أيادي الزمان... أم تُراك ستنهج نهج (الآمدي) في «الموازنة بين الطائيَّين»، الذي عاب كثيرًا من استعارات (أبي تمَّام) ووصمها بالقُبح، كقوله:

يا دَهرُ قَوِّم مِن أَخدَعَيكَ فَقَد
أَضْجَجْتَ هذا الأَنامَ مِنْ خُرُقِكْ

فإذا تأمَّلتَ ما عابه، وجدتَ كثيرًا منه استعارات حول «الدَّهر».(3) فبدا بذلك يصدُر عن تحرُّجٍ دِينيٍّ، لا نقدي.

ــ قال: لا، بل استنكر الآمديُّ استعمال «الأخدعَين» فقط؛ ولذا قال: «كان يمكنه أن يقول: «قَوِّم من اعوجاجك»...»، مثلًا. ولكن دعنا من أبي تمَّام، فمَن قال إنه كان في أبي الطيِّب أدبٌ طيِّبٌ أصلًا، أو تألُّهٌ، أو تحرُّجٌ دِيني.

ــ قلتُ: تلك مسألةٌ أخرى.

ــ قال: بل هي هي. لقد كان بصفاقته، المشهود لها، لا يستحي أن يلقِّب (النبيَّ، عليه الصلاة والسلام) بـ«التِّهامي»، إذ يمدح (طاهر بن الحسين العلوي):

وأَبْهَرُ آياتِ التِّهاميِّ أنَّهُ ... أبُوكَ وإحْدَى ما لَكُمْ مِنْ مَنَاقِبِ(4)

وليت شِعري، أيُّ سفاهةٍ في الرجل حين يقول هذا وهو يمدح طاهر بن الحسين العلوي بمحامد جَدِّه، متزلِّفًا إليه بالمديح العائلي، فإذا هو لا يوقِّره، وإذا هو يُزري بالشِّعر وبالمديح معًا، حتى إنه ليوشك أن يهجوه من حيث أراد أن يمدحه. هذا إلى ما فاضَ به في البيت من مستكِنِّ ذاته من الناحية التديُّنيَّة. وهو في أحسن تأويل إنما يرى محمَّدًا جَدًّا، وإحدى المناقب القَبَليَّة للممدوح؛ لأنه من نسله، كأيِّ شيخٍ قَبَليٍّ، أو فارسٍ عشائري. وتلك غاية التحضُّر الجاهليِّ في رأس المتنبِّي ونفسه. ثمَّ ليت شِعري، وبعيدًا عن العواطف الدِّينيَّة، ما ميزان شاعر كأبي الطيِّب- على جلال قدره الشِّعري- إلى ذلك التِّهامي الذي صنع أُمَّةً وغيَّر من تاريخ البشريَّة، قيميًّا وحضاريًّا.

ــ قلتُ: القَبَليَّة نزوعٌ عُربانيٌّ قديم. أ ولا تراه قد عاد بشِدَّة في السنوات الأخيرة، في الجزيرة العربيَّة بخاصَّة، مع الفضاء القَبَلي الإعلامي. فبعد أن قطعت الثقافة الوطنيَّة والتمدينيَّة شوطًا لا بأس به، ترى اليوم الرِّدَّة إلى القبائليَّة على أشُدِّها. وبات كلٌّ يعلِّق اعتزاءه القَبَلي مع اسمه، حتى لدَى مَن لم يُعرَف بذلك من قبل. وهذا ليس معيبًا، في ذاته، لكن الظاهرة لافتةٌ جِدًّا، وذات دلالات اجتماعيَّة خطيرة. بذا أصبحنا أمام صحوةٍ أخرى: «صحوة قَبَليَّة»، بعد ما سُمِّي في العقود الماضية «الصحوة الإسلاميَّة». فأيُّ الصحوتَين أعمق سُباتًا وأضلُّ سبيلًا؟!
ــ قال: دعك من المراوغة والصحوات، وعُدْ بنا إلى المتنبِّي!

ــ قلتُ: أمَّا بيت المتنبِّي، فله تخريجٌ ينفي عنه تلك الشناعة أو بعضها التي ألمحتَ إليها؛ فلعلَّه إنما يعني بالتِّهامي (عليَّ بن أبي طالب)، وهو جَدُّ الممدوح. وأمَّا «الآية»، فالآية في اللغة: العلامة الباهرة، ولا تعني بالضرورة: المعجزة الإلهيَّة. واللغة تتطوَّر من الحقيقة إلى المجاز، مشتقَّةً من الحقيقيِّ المتخيَّلَ، ومن الطبيعيِّ المعنويَّ، ولا سيما في لغةٍ اشتقاقيَّةٍ كالعربيَّة. ثمَّ إن الشاعر يقول في القصيدة نفسها:

هُوَ ابنُ رَسولِ اللَهِ وابنُ وَصِيِّهِ ... وشِبهُهُما شَبَّهتُ بَعدَ التَّجارِبِ

فالممدوح من نسل (عليٍّ) و(فاطمة). نعم، كان في المتنبِّي نَزَقٌ، يُطِلُّ برأسه كثيرًا من أبياته، لكنَّ رحابة الشِّعر تحتمل له المنادح.

ــ قال: هو تخريجٌ يفسد الشِّعر ليُصلح الدِّين! وهل يُصلح التخريج ما أفسد الشِّعر؟!

(1) مسلم بن الحَجَّاج، (2006)، صحيح مسلم، تحقيق: أبي قتيبة نظر محمَّد الفاريابي (الرياض: دار طيبة)، 40- كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، 1- باب النهي عن سبِّ الدهر، ح2246، ص1069.

(2) (د.ت)، شرح ديوان المتنبِّي، وضعه: عبدالرحمن البرقوقي (بيروت: دار الكتاب العربي)، 1: 178.

(3) انظر: (1992)، الموازنة بين شِعر أبي تمَّام والبحتري، تحقيق: السيِّد أحمد صقر (القاهرة: دار المعارف)، 1: 261.

(4) م.ن، 1: 281.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى