أبطال في زمن العزلة
في شقته الكائنة بإحدى الأحياء الشعبية بمدينة الدار البيضاء حيث يخيم الظلام على الغرفة، يجلس الدكتور عبد الحميد الطبيب مرتديا معطفه البني، وضوء التلفاز يلقي بظلاله على وجهه المتجهم، رجل خمسيني يجلس على أريكته ويشبك يديه أمام صدره، بينما تعكس عيناه القلق والحزن، وهو يتابع نشرة الأخبار المسائية، حيث أعلنت المذيعة اخبارا مقلقة عن تفشي فيروس كورونا "كوفيد19"، وارتفاع عدد الإصابات والوفيات في جميع أنحاء العالم.
عند سماع النبإ المشؤوم، أصدر الدكتور عبد الحميد تنهيدة عميقة، وأغمض عينيه للحظات إنه يعلم جيدا أخطار هذا الفيروس اللعين، فقد واجه العديد من المرضى المصابين به خلال الأسابيع الماضية في عيادته. ثم شعر بضغط نفسي كبير، فهو يدرك جيدا مسؤوليته في علاج المرضى، وحماية نفسه وأسرته من هذا الخطر المحدق والمتربص بالبشرية.
وأثناء غرقه في خضم هواجسه، دخلت زوجته فاطمة حاملة طبق العشاء، هي أيضا امرأة خمسينية، عاشت حياة سعيدة مع زوجها، ورزقت منه ثلاثة عيال. رتبت المائدة ونادت على الأولاد، وتحلقوا جميعا حول طاجين مغربي شهي.
بعد أن اجتمعوا حول المائدة، حاولت فاطمة كعادتها أن تضفي جوًا من الطمأنينة على العشاء العائلي. بابتسامة دافئة قالت:
"لقد أعددت الطاجين بطريقتك المفضلة يا عبد الحميد. أعلم أنك مرهق، لكن الطعام قد يخفف عنك بعضًا من تعبك."
رد عبد الحميد بابتسامة باهتة، ثم قال: "شكرًا لك يا فاطمة. لا شيء يضاهي طاجينك. لكن... أحيانًا أشعر أن العالم كله أصبح كطاجين يغلي، ونحن فقط ننتظر متى يفيض."
تبادل الجميع النظرات، صمت خيم على الغرفة، لم يكسره سوى صوت ابنته الصغرى سلمى التي لم تتجاوز العاشرة، وهي تقول ببراءة:
"بابا، هل ستنقذ العالم؟ أنت قوي مثل الأبطال الذين أشاهدهم في الأفلام."
ابتسم عبد الحميد رغم ثقل كلماته، ومد يده ليعانق صغيرته. "يا سلمى، الأبطال لا ينقذون العالم وحدهم. نحن جميعًا أبطال، عندما نحمي أنفسنا ونساعد بعضنا البعض. حتى أنتِ بطلة عندما تغسلين يديكِ جيدًا."
ضحكت سلمى بخفة، وانتشر دفء الضحكة بين أفراد العائلة.
بعد العشاء، جلس عبد الحميد في شرفته المطلة على الأزقة الضيقة، وهو يحتسي شاي النعناع في كوبه الطيني المعتاد. تأمل السماء الملبدة بالغيوم وكأنها تعكس حال البشرية في تلك اللحظة. ثم فكر:
"ربما الخوف هو أكثر ما يجعلنا بشراً. لكنه أيضاً ما يجعلنا نبحث عن النور وسط العتمة."
قرر في تلك الليلة أن يبدأ كتابة مذكراته عن هذه المرحلة العصيبة، ليس فقط لتوثيقها كطبيب شهد المعركة عن قرب، ولكن ليترك لأبنائه والعالم رسالة: أن في كل أزمة هناك فرصة لإظهار أفضل ما في الإنسانية.
وحين أطفأ المصباح، تسربت إلى قلبه شعلة أمل خافتة، لكنه تمسك بها. ففي أعماقه، كان يؤمن أن الليل مهما طال، لا بد أن يعقبه فجر جديد.